يتجدد النقاش عن اليهود ذوي الأصل العراقي في إسرائيل وذلك لمناسبة تأسيس "جمعية التضامن مع الشعب العراقي" في تل أبيب، وكان الحديث محوراً لمناقشات في صحف عربية قبل سنوات تعليقاً على مقالة للأديب الإسرائيلي سمير نقاش. وبادئ ذي بدء، فإن شمعون بلاص، عضو اللجنة المؤسسة، أوضح بدقة ان غرضها "تنوير الرأي العام في إسرائيل حول النتائج الوخيمة للحصار الذي فرض على العراق. كما ان من أهدافها جمع الشهادات والوثائق من اليهود العراقيين، سواء في إسرائيل أو خارجها، للشروع بتحقيق أبحاث موضوعية حول التجربة الحياتية المشتركة التي جمعت اليهود وغير اليهود في العراق حتى الهجرة الجماعية في مطلع الخمسينات". وكما يقول، فإن اليهود عاشوا في انسجام حضاري مع بقية أفراد الشعب العراقي وتسلم عدد من شخصياتهم مناصب حكومية مرموقة، منهم ساسون حسقيل الذي عيّن مراراً وزيراً للمال في العشرينات من دون أن يثير ذلك استغراب العراقيين فضلاً عن استهجانهم، ومنهم مير بصري وشعراء وكتاب وروائيون ذوو تأثير وابداع، وكوادر قيادية نشطة في الحركات والتنظيمات السياسية من الحزب الوطني الديموقراطي إلى الشيوعي. إن السحابة القاتمة الحقيقية في تاريخ العلاقات اليهودية - العراقية حلّت في بداية حزيران يونيو 1941، إثر انهيار حركة رشيد عالي الكيلاني، وهي أحداث اعتدنا تسميتها "الفرهود"، وراح ضحيتها مئات من المواطنات والمواطنين اليهود... وعوامل تلك الأحداث المروعة كانت سياسية وايديولوجية طارئة على المجتمع العراقي وجذوره التاريخية والإنسانية. ومعروف أن الانكليز أعطوا الضوء الأخضر لتلك الفظائع لكي ينسى شعب بغداد احتلالهم الجديد، وأثبتت لجنة التحقيق العراقية الرسمية مسؤولية متصرف بغداد ومدير الشرطة العام وآمر الفرقة العسكرية الأولى ومدراء في الشرطة وغيرهم من أركان الإدارة الحكومية في بغداد. فقد تعمدت تلك السلطات عدم التدخل لوقف الانتهاكات إلا بعد بلوغها درجات بشعة، كما أن من بين مسؤولي الجيش والشرطة من شجع على اقتراف الانتهاكات. واقترن ذلك بالدعايات العنصرية المتطرفة لبعض "القوميين" وبجهل وفقر بعض مهمّشي الأطراف، وحال الاحباط لدى الجندي العائد مهزوماً من المعارك واطلاق اشاعات كاذبة عن تصرفات نُسبت لليهود يوم دخل الجيش البريطاني. واستطاع العراقيون، لا سيما بفضل أفكار ونشاط الحركة الديموقراطية وتطورات الحرب العالمية الثانية، لعق جراحهم بسرعة وإبعاد شبح مأساة "الفرهود" عن العلاقات العراقية - العراقية المجتمعية، حتى اندلاع حرب فلسطين الأولى التي كشفت نتائجها عن تواطؤ بعض أطرافها العربية في المؤامرة الكبرى المعادية للمصالح الفلسطينية. وعلى رغم كل شيء، ظلت الأكثرية من اليهود متشبثة بالبقاء في وطنها العراقي، حتى عندما أصدرت حكومة صالح جبر في بداية الخمسينات قانوناً لهجرة اليهود. فقد تجاوب بضع مئات فقط مع تشريع الهجرة و"تحليلها" رسمياً. وهنا جاء دور الجمعيات الصهيونية السرية وضباط استخبارات إسرائيليين، لبث الرعب العام بين اليهود لحملهم على الهجرة الجماعية. فجرى إلقاء المتفجرات في أماكن عبادة اليهود وتجمعاتهم، ونسب ذلك للعراقيين لتبرير الهجرة، فيما كان الصهاينة هم رؤوس التفجيرات وأدواتها. وهكذا كان التهجير الجماعي ليهود العراق مؤامرة ثنائية الأطراف: الصهيونية من جهة والاستعمار معها، وبعض أقطاب الحكم العراقي، عهدذاك، من الجهة الأخرى. وظلت أكثرية اليهود المهجرين تحن إلى بغداد وسائر المدن والأرياف العراقية التي احتضنتها، وحافظت على بعض التقاليد ومفردات الفولكلور العراقية. وعندما تساقطت الصواريخ الأميركية على العراق، وقف كثير من الجامعيين والكتّاب والادباء الإسرائيليين، من ذوي الاصول العراقية، وقفة علنية شجاعة لإدانة ما يحصل، بينما كان فريق من عراقيي المهاجر يشرب كؤوس الشمبانيا احتفالاً بالصواريخ، ويحرّض بعض "الزعماء" الفاشلين من منابر الاذاعات والشاشات الغربية الصغيرة على الاستمرار في الضرب "حتى سقوط النظام". في إمكان اليهود العراقيين في إسرائيل أن يلعبوا دوراً مهماً في سرد آثار وعواقب الحصار، من النواحي الإنسانية، ومن دون الدخول في مطبات السياسات العراقية المتخبطة، المعارضة منها والرسمية. وإذا كانت المعارضة غير قادرة على تخطي خلافاتها، فكيف تقدر "لجنة التضامن" على "تنظيم" هذه المعارضة - كما نُسب إلى اللجنة؟! ويمكن المضي أكثر، للاجتهاد بأن في امكان هذه الفئة من يهود إسرائيل لعب دور ما في حوار عربي - إسرائيلي حضاري وشعبي متكافئ. فإن لعدد من عناصرهم مواصفات تبرر هذا الأمل، خصوصاً إدانتهم لسياسات التوسع ولغطرسة نتانياهو وعدم رفضهم قيام دولة فلسطينية مستقلة، إن لم يكن الترحيب بها والدعوة إليها، فضلاً عن وقفتهم المشرفة ضد حصار العراق ودفاعهم عن حق الشعب العراقي في الحياة والديموقراطية. هذا النمط من الحوار العربي - الإسرائيلي مطلوب على رغم احتجاجات أصوات وجماعات عربية تتصرف وفق حسابات سياسية معلومة باسم مكافحة التطبيع الثقافي، والذهاب إلى حد تحريم اللقاء مع اليهود العرب خارج إسرائيل. والغريب أن الخوف من هذا التطبيع ينسى ما تتعرض له الثقافة العربية فعلاً منذ سنوات طوال من هجمات التطرف العنفي من جهة، وقيم الاستهلاك الأميركية من جهة أخرى. عبر تدفق الفضائيات المهيمنة والمسلسلات والأفلام الهوليوودية. ومعلوم أيضاً أن سياسات الصهر والقهر والقمع الإسرائيلية لم تفلح في طمس هوية الشعب الفلسطيني، لا وطنياً ولا ثقافياً، وأن للثقافة العربية من الجذور، والشوامخ الابداعية، واللغة العربية ما يشكل سدوداً ضد الأخطار المحتملة في ما إذا أحسن الحاكمون والمثقفون العرب ومؤسساتهم التصرّف بعقلانية وواقعية ويقظة. وما أحسن شعار المهاتما غاندي، إذ قال: "انني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، ولا أن يجري إحكام غلق نوافذي. إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، ولكنني أرفض ان تقتلعني ريح أي منها من جذوري". وأخيراً قال المفكر المغربي علال سيناصر في ندوة عن العولمة: إن لا خطر على هويات قوية وعريقة، وان التحدي الحقيقي للعولمة هو في القدرة على إدارتها بحكمة والتحكم في مسارها لتلافي المخاطر. ومما اثير أيضاً ان عودة اليهود العراقيين إلى وطنهم الأول، في الوقت المناسب، هو الذي سيحكم على مدى وفائهم له. وهذا طرح يبدو غريباً جداً، فضلاً عن لا واقعيته، فالمهاجرون والمغتربون، من أية جنسية، وفي أي بلد استوطنوا، بعد ترك وطنهم، تتكيف حياتهم وحياة عائلاتهم مع الوضع الجديد، حتى يكاد يكون في حكم المستحيل على أكثرهم لا الجميع مجرد التفكير في ترك بلد الضيافة. والأسباب كثيرة ومتشابكة لا سيما بالنسبة إلى فئات الشباب. وزار مئات من المغتربين العراقيين غير اليهود بلدهم في مطلع السبعينات حين كانت الظروف السياسية ملطفة، لكن أحداً منهم لم يفكر في البقاء وترك عائلته وعمله والمجتمع الذي تعود عليه في المهجر. واعتقد ان نسبة عالية من العراقيين المغتربين الذين يعشقون الوطن ويتمنون له الخير ويزورونه بين الحين والحين كلما أمكن، ويرجون رفع القمع وعوائق السفر لتكرار الزيارات، لا تفكر في العودة النهائية مهما تحسنت الأوضاع السياسية والاجتماعية، وذلك إن لم يكن لأنفسهم، فلمصلحة ابنائهم كما يعتقدون. ويكفي العراقي المغترب أن يدين الحصار، ومخططات التقسيم والتجزئة، وأن يشجب القمع والتسلط، ويؤمن بأن الديموقراطية وحدها طريق الانقاذ. ويا حبذا لو عاد إلى البلد المستقبل أكبر عدد ممكن من عراقيي الغربة للاسهام في إعادة البناء والانقاذ. لكن العودة، أو عدمها، ليسا محك الوطنية والوفاء. أما بالنسبة إلى اليهود العراقيين في إسرائيل، فإن حالتهم خاصة، وهي أشد تعقيداً وتركيباً وتعدد جوانب. وبالتالي تكون المطالبة بعودتهم الجماعية طبعاً ثمة أفراد قد يعودون إلى عراق المستقبل محض اشتطاط ولاواقعية وأمر تعجيز!