سنة على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى لبنان وتقديمه الارشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" الى اللبنانيين وكلام حول نتائجه خصوصاً في فصله السادس "الكنيسة في خدمة المجتمع" أي الشق السياسي الاجتماعي الذي اقترحه البابا على الكنائس الشرقية في لبنان. قراءة جديدة بعيدة عن فرحة اللقاء الذي كان له رونقه البديع. ليست نقدية بقدر ما تعبر عن حاجة مجتمع، فقد كثيراً من طموحاته السياسية ولم يجد الى حد الآن بديلاً عن ذلك في مؤسساته الكنسية، الوحيدة التي الى حد الآن يمكن ان تمنحه امل النهوض. حدد الحبر الاعظم او بالاحرى اقترح على الكنائس الكاثوليكية في لبنان ان تعيد النظر بدورها الاجتماعي من خلال مؤسساتها الصحية والتربوية والجامعية ومن خلال اعادة تقييم الدور الاقتصادي لأوقافها. وقال: "وأقترح على السلطة الكنسية الكاثوليكية ان تقوم بدراسة رصينة عميقة لتنظيم الخدمات الصحية في مؤسساتها... ويجب الاهتمام على الاخص بوضع مؤسسات العناية في متناول الاشد عوزاً". النص العربي للارشاد 1020 ص 164 وقال ايضاً: "... اطلب ايضاً من المؤسسات التعليمية الكاثوليكية ان تعيد النظر، قدر الامكان، في قضية الاقساط المدرسية في معاهدها لئلا ترهق العائلات المعدمة... ان استقبال الكنيسة الكاثوليكية لشباب فقراء...". المرجع نفسه 1070 - ص 171 ملاحظتان: الاولى: ان يخصص الحبر الاعظم كلاماً يتعلق بالاقساط المدرسية في المدارس الكاثوليكية في لبنان، يعني ان الامر، رغم جزئيته نسبة لمجمل موضوع التعليم، له اهميته الخاصة. الثانية: هو كلام في العوز والفقراء يدخل في اطار الطرح الكلاسيكي لمفهوم المساعدة لدى الكنيسة الكاثوليكية بخلاف الكنائس البروتستنتية التي ألغت من قاموسها هذا التعبير الموروث من القرون الوسطى حينما كان الغني يمنّ على الفقير بجزء مما له. انطلاقاً من هاتين الملاحظتين فإن الكنيسة الكاثوليكية في لبنان عليها ان تذهب ابعد من هذا الكلام الخجول الذي اطلقه الارشاد الرسولي حول موضوع التعليم ودور المدارس الكاثوليكية: عليها اعادة تحديد دور هذه المدارس، ما هو المطلوب منها وطنياً وضمن طوائفها، هي مدارس لمن ولماذا؟ حتى ولو اعتبر كلامي هرطقة طائفية: ماذا لو اعلنت هذه المدارس نفسها جمعيات لا تبغي الربح؟ نظام اجتماعي جديد يقوم على عقد شراكة بين الاهل والمعلمين والمؤسسات التي تدير المدارس؟ على كل حال، فإن طرح الارشاد الرسولي يبين بأن هذا الموضوع هو بحاجة لإعادة درس وتقويم من قبل الطوائف الكاثوليكية في لبنان. مضت سنة على هذا القول ولم يبلّغ الرأي العام الكاثوليكي عن بداية طرح في هذا الاتجاه. عندما امضى أخيراً الرئيس رفيق الحريري سبع ساعات في بكركي للتحادث مع البطريرك صفير والاساقفة الموارنة، كان موضوع المدارس الكاثوليكية من بين المواضيع التي طرحت وهذا يعني ان الجميع قلق بسبب مستقبله. اذاً لماذا الانتظار اكثر من اجل بدء دراسة ترتيب امور البيت من قبل اهله. موضوع المدارس الكاثوليكية في لبنان، عماد هذا الوطن، يجب اخراجها من تفاهات الطروحات المادية، على رغم أهميتها، لنقلها الى المستوى الوطني اللائق بتاريخ طوائفها. البعد الاجتماعي والتاريخي لهذه المؤسسات يحتّم على القيمين عليها ان يعيدوا طرح أولوياتهم في بداية هذا القرن الحادي والعشرين لأن ما كان صالحاً عند وصول الارساليات الى لبنان وعند بزوغ دور الكنيسة المارونية الاجتماعي العريق لا يمكن ان يستمر هو ذاته بعد قرنين من الممارسة. استمرارية هذه المؤسسات رهن بتجديد ذاتها وهذا الأمر لا يمكن ان ينتظر وسنة قد مضت على كلام الحبر الاعظم الذي يعني، رغم حجمه، ان السياسة الاجتماعية لهذه المؤسسات هي بحاجة لإعادة نظر. دائماً في موضوع التربية ولكن على المستوى الجامعي يقول الارشاد الرسولي: "انه لمن المفيد الا تسعى بعد اليوم كل كنيسة بطريركية الى انشاء مراكز جديدة، بل احياناً الى ضم هذه المؤسسات وتوحيدها، فتتضامن القوى الفاعلة وتسمح لبعض المراكز ان تزيد في اختصاصها، لخير المؤمنين". 108 كلام مشابه قلناه منذ سنوات في معرض تبادل الآراء مع عدد من الكهنة رؤساء جامعات كاثوليكية: ذكرنا يومها مثلاً كليات التاريخ وقلنا: هل ان الاستاذ الجامعي الذي يلقي محاضرات في الجامعة اللبنانية لو ألقاها في اي جامعة خاصة هل كان غيّر منطقه او اسلوب مقاربته لأي موضوع؟ لماذا لا تجعل الجامعات الكاثوليكية في لبنان من ذاتها مؤسسات متخصصة. مدارس الحقوق؟ كليات العلوم الانسانية؟ بعض الاختصاصات التطبيقية؟ لماذا لا تذهب هذه الجامعات الى ابعد من ذلك وتوظف امكانياتها وقدراتها وملافاتها في الجامعة اللبنانية لكي لا تعود هذه الاخيرة، جامعة من "لا يستطيعون الذهاب الى جامعة خاصة" لكي لا نستعيد كلاماً رفضناه في المقطع السابق. هذا الانفتاح على الجامعة اللبنانية يجب ان يأتي من قبل الجامعات الخاصة وليس العكس. الكل يذكر تماماً الازمة التي تعرضت لها احدى الرهبانيات المارونية عندما قررت البدء بإعطاء دروس في الطب من دون ترخيص. رحمة الله ورغبة المسؤولين يومها في رئاسة الدولة وفي الجامعة اللبنانية، جنّبتا الطلاب كارثة محتمة. والسؤال ذاته يطرح من جديد على الكنيسة الكاثوليكية في لبنان. جامعاتكم الخاصة من أجل أي هدف ولخدمة أي مجتمع؟ البابا نادى بإمكانية "التوحيد" ولم نستمع، الى اليوم، اي جواب على هذا الطرح وكأنه لم يكن يطرح. هذا محبط لكل الآمال والعزائم. اعادة تقويم دور هذه المؤسسات لا بد منه من اجل ديمومتها. وأذهب ابعد من ذلك لأقول: بعض من هذه المؤسسات اصدر التوجه الانكلو ساكسوني. في اطار اي خطة جاء هذا التوجه؟ هل جرت هناك مشاورات في المحيط الاجتماعي تقرر على اثره هذا الشيء؟ الكلام هذا لا يعني معارضة هذا الفعل، ولكن يعني حتماً ان امر التشاور ضرورياً ايضاً، وهذا غير حاصل. علينا اعادة كتابة اولويات جامعاتنا الخاصة الكاثوليكية. وقبل الانتقال الى موضوع الالتزام السياسي ارغب في ايراد هذه الفكرة حول المؤسسات الاستشفائية للكنيسة: هل لها دور تجاري فقط واذا لا ما هو هذا الدور؟ ما الفرق بينها وبين المؤسسات التي تعود ملكياتها لأفراد؟ الارشاد الرسولي طلب ان تكون غايتها مختلفة، سنة ايضاً مضت على هذا التمني ولم تأخذ الكنيسة الكاثوليكية في لبنان اي مبادرة في هذا الاتجاه. عن الكنيسة "فليس لها ان تلتزم مباشرة، الحياة السياسية، لأن ليس عندها في الواقع "حلول تقنية، ...، ولا تقترح انظمة ولا برامج اقتصادية، وسياسية، ولا تبدي ايثاراً لهذه او تلك، شرط ان تظل كرامة الانسان محترمة ومعززة كما يجب، وان يفسح لها المجال لتنجز مهمتها في العالم". ص 175 - 176 من النص العربي إذا قارنا هذا القول مع كل اشكال الالتزام السياسي الذي اظهرته الكنيسة الكاثوليكية، مؤسسة وأفراداً، في كل بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشيوعية سابقاً، هذا الكلام يحمل على التعجب. لماذا لا يمكن للكنيسة الكاثوليكية في لبنان ان يكون لها برنامجها السياسي تلتزم به وتناضل من اجله. من اولى بهذا الأمر منها. لماذا الى اليوم لم يضع مجلس البطاركة والمطارنة الكاثوليك برنامج عمل، بالاشتراك مع الهيئات المدنية، يسوّق سياسياً على صعيد الوطن ككل. طبعاً، هذا الامر سوف يعرّض الكنيسة، مؤسسة وأفراداً الى حملات اعتراض وتأييد، وربما الى حملات مقاطعة وتجريح، ولكن اين العيب في ذلك، في خضمّ هذا الفراغ السياسي الذي يشهده الوطن بسبب غياب بعض من قادته وتغييب مؤسساته المدنية، لماذا لم تأخذ الكنيسة على عاتقها حمل مشعل الانبعاث السياسي. جاء البابا الى لبنان من اجل تأكيد امور كثيرة ومن بينها التزام لبنان بمحيطه العربي، تشجيع اللبنانيين على اغناء حياتهم المشتركة، ودعوة المسيحيين الى الانخراط في الحياة العامة. كل هذه الأمور بحاجة الى موقع ريادي، قيادي، يأخذ على عاتقه قيادة المسيرة باتجاه الانفتاح العربي الذي تخشاه او تتجنبه بعض قادة الفكر السياسي المسيحي في لبنان والقيام بمبادرات شجاعة في سبيل الغفران وتنقية الذاكرة، الحد الادنى المطلوب بنظرنا من اجل اغناء مبدأ العيش المشترك. ذكر الارشاد الرسولي كلاماً للمندوبين المسلمين الى جلسات روما اكدوا من خلالها ان لبنان من دون المسيحيين لن يعود لبنان لكن المسيحيين من دون كنيسة رائدة هم ايضاً لن يعودوا المسيحيين الذي لبنان هو بحاجة اليهم. الازمة السياسية التي تعصف بالوسط المسيحي اللبناني تحتّم على الكنيسة اخذ المبادرة من اجل عمل جماعي يعيد الحياة السياسية، ولو جزئياً، الى سابق عهدها. هذا الامر لا يمكن ان يقتصر على خطب الآحاد والاعياد في الكنائس. البطاركة الذين تولوا زمام المبادرات السياسية الكبيرة في تاريخ الكنائس الشرقية عموماً والكنيسة المارونية خصوصاً هم كثر. كانوا افراداً لأن عهودهم كانت عهود زعامات. اليوم اصبح الأمر مختلفاً. لا نزال بحاجة الى بطاركة رياديين ولكن نمط العمل عليه ان يجاري العصر. البطريركية الكاثوليكية في لبنان يجب ان تتحول الى مراكز ابحاث تعطي معنى للحياة السياسية اللبنانية المعدومة يجب ان يُجهر بالقول بأن ما خسرته الاحزاب اللبنانية المتفق على تسميتها مسيحية يجب ان يستعاض عنه بعمل علمي مركز وحدها الكنائس مؤهلة للقيام به. هذا الاقتراح اذا تحقق يزيد قناعة المسلمين في لبنان ان هذا البلد من دون مسيحييه لن يعود البلد الذي يرغبون. لبنان ككل، بمسيحييه ومسلميه، هو في حاجة الى اعادة نظر في ذاته خصوصاً على اثر الحرب التي عاشها. مخطئ من يظن ان الطائف قد انهى الحرب، من يحلو له التغني بهذا الامر يدل اما عن مراوغة او عدم معرفة بواقع الامور. اذا افترضنا ان التنظيمات المدنية او الحزبية او الفئوية غير قادرة على الحديث عن هذه الحرب وأسبابها ونتائجها، وهذا ما لا اوافق عليه، يبقى ان الكنيسة الهيئة الوحيدة القادرة على القيام بمثل هذا العمل من اجل "حمل كل الفئات اللبنانية على القبول بالتوجه العربي، من اجل اخراج المسيحيين من احباطهم ومن اجل انقاذ الوحدة الوطنية". الكنيسة الكاثوليكية في لبنان هي الوحيدة اليوم القادرة على القيام بهذه المهام في الوسط المسيحي - هي الوحيدة القادرة على جمع كوادر كل طوائفها والخروج ببرنامج عمل من اجل المباشرة بحوار جدي مع الطوائف الاخرى اللبنانية، ومن اجل صياغة برنامج عمل من اجل المستقبل. اذا افترضنا ان هذه الكنائس كان همّها الاستمرار اثناء الحكم العثماني، والحفاظ على خصوصيتها بفضل المساعدة الغربية في القرن الثامن والتاسع عشر، ولبنان المستقبل في القرن العشرين، فماذا يكون همّها من اجل القرن الواحد والعشرين، والسلام الآت والعولمة الجامحة. كيف يمكن الا يكون لهذه الكنائس برنامجها السياسي هي التي كانت بنت سياسة طوائفها لمئات السنين الخوالي. اذا كان الارشاد الرسولي لم يرغب في الاعلان جهاراً عن دور سياسي حتمي للكنائس الشرقية فهذا لا يعني ان على هذه الكنائس ان تتخلى عن دورها الاساسي وهو استعادة الريادة السياسية في غياب مرجعيات مستقلة قادرة على الحياة ومقبولة في وسطها.