سؤال مشروع تماماً: هل يصح توصيف الديموقراطية بأنها غربية او شرقية او بين بين؟ والجواب واضح تماماً، ايضاً، فان الديموقراطية حصيلة تفاعلات المجتمع الغربي، وافراز ارتضاه الغربيون باعتباره آلية من آليات الأداء السياسي المرتكز على الاحزاب والانتخابات وتداول السلطة، ولكن من ضمن اطار محدد. ولذا فان توصيف الديموقراطية بالشرقية او الغربية او البين بين هو اصطلاح لمجرد التوضيح، والا فانه لا حقيقة له. غير ان الغربيين انفسهم مختلفون في مفهوم الديموقراطية وتطبيقاتها، فهناك من عدّها حكم الاغلبية على الاقلية، او خضوع الاقلية للاغلبية. وهناك من عدها حكم الشعب بنفسه ولنفسه… وكذا في تطبيقاتها على ما هو ملحوظ لدى البريطانيين والفرنسيين والاميركيين، فكل بلد ارتضى "طبيعة" خاصة لديموقراطيته. وبهذا المفهوم يمكن، ومن اجل التوضيح والتقريب فقط، ان يقال ان ثمة ديموقراطية شرقية واخرى غربية، وبخاصة حين يحتضن الشرق بين جناحيه آلية عميقة الجذور تصل الى النتائج ذاتها التي يروم الغرب الوصول اليها بالديموقراطية مع اختلاف السبل المفضية للهدف ذاته، وهو تحقيق اكبر قدر ممكن من الحرية والعدل. ولو كانت مرحلتنا التاريخية غير هذه المرحلة التي تحفل بالهزائم، لأمكن لمفكرينا ان ينصرفوا الى مصطلح الشورى يعبرون به عن رؤاهم وعنطموحاتهم بتطوير هذه الآلية التي عرفها الشرق منذ اقدم عهوده. غير ان الهزيمة التي وجدنا انفسنا فيها، باصطدامنا مع هذا العصر، جعلت الكثيرين منا مولعين بالتغطّي بالألفاظ الطنانة الصاخبة، حتى ان لم تكن دالة على شيء! والحق ان الهزيمة ليست نهاية التاريخ الا لمن يُقنع نفسه دائماً بأنه مهزوم وان ليس له الى دخول العصر من سبيل. على مدار التاريخ، ثمة امم كثيرة هُزمت واندثرت لأن هزيمتها النفسية كانت على درجة من القساوة والتعمّق والتغلغل بحيث لم تدع لها فرصة التنفس واستعادة وسائل النمو والتقدم وآلياته. وعلى مدار التاريخ، ايضاً، ظهرت أمم تتمتع بحس حضاري مرهف، لا تستسلم للهزيمة مهما كانت موجعة ومؤلمة، اذ تستخرج، في اللحظات الحاسمة والمصيرية، وسائل القوة، من ذاتها وقيمها وتاريخها الحضاري. حين انهزم العرب والمسلمون امام المغول، لم تكن الهزيمة لديهم آخر المطاف ونهاية التاريخ. بل انهم اثروا في الغزاة، فانتمى المغول الى الاسلام، تاركين وراءهم ارثهم الوحشي، وبدأوا يتأنسون شيئاً فشيئاً، اي ان المنهزمين استطاعوا استئناس هؤلاء المتوحشين، وان يهذبوا كثيراً من سلوكهم المتصف بالعنف والقسوة والارهاب. ومن الجدير بالملاحظة ان اللغة العربية على رغم انها كانت تمر آنذاك بمرحلة اندحار وانهيار بفعل اندحار الانسان العربي نفسه وانهياره، الا انها لم تأخذ عن المغول لفظة لغوية واحدة، ولم تتأثر بهم لا في قواعدها ولا في اصواتها. كما ان القيم الموروثة عن ستة قرون من النمو الحضاري لم تتأثر بما كان المغول يحملونه من قيم واعراف وعادات وتقاليد. وما هذا الا لأن المنهزمين آنذاك كانوا قريبي عهد بعوامل القوة في تراثهم وفكرهم وحضارتهم، ولم تكن هزيمتهم الا مظهراً عسكرياً فقط، لأن القائمين على شؤون الناس لم يكونوا يدركون السبيل القويم لاستمرار التقدم والنهوض ولم يتخذوا اسباب القوة الكفيلة بوقف الغزاة. وبمرور الايام والسنين، حدث انفصال عن منابع القوة في تاريخ العرب الحضاري، وشيئاً فشيئاً سادت انواع "ثقافية" هي تعبير عن الانهزام المتمثل في الانكفاء على الذات واجترار التراث اجتراراً لا يخرج عن اضافة حاشية هنا، وتلخيص مسألة هناك. واستمر هذا الواقع الى ان أفاق العرب على مدافع نابليون تهز الاسكندرية، وخيوله تدق بسنابكها صحن الجامع الازهر. ولكن الانهيار يتواصل، وفرص التقدم والازدهار تضيع الواحدة تلو الاخرى. ولعل من مظاهر تلك المأساة الشاملة ان اولى البعثات العلمية التي خرجت من مصر باتجاه فرنسا سبقت البعثات اليابانية التي ذهبت الى اوروبا للهدف ذاته، وهو طلب العلم والعودة الى البلاد والمشاركة بتطورها وتطويرها. وتتعمق المأساة حين نلاحظ ان المبتعثين لدينا عادوا وهم لم يلامسوا الا قشور باريس وازقتها، وسلكوا طرقاً ابعد ما تكون عن روح التطوير والتقدم، لأنهم اعتقدوا بأنهم ادركوا سر الحضارة والتطور، وان ذلك السر يكمن في ضرورة ان يتخلى العرب عن ارثهم الحضاري جملة وتفصيلاً، وان يأخذوا عن الغرب كل ما يبشّر به، جملة وتفصيلاً ايضاً. وكان من الممكن ان يأخذ الناس بهذه الدعوة الجديدة لو كان هؤلاء قد فهموا الحضارة الغربية حقاً، وعرفوا منابعها وآلياتها وقوانين التاريخ الحضاري للانسانية كلها. ومن هنا كانت الانشغالات في القضايا الثانوية تماماً، والتي كان لا بد لها ان تتغطى بشعارات فضفاضة وعناوين صخّابة، تلامس القشرة الخارجية للمعضلة العربية ومأساة التخلف العربي، من غير تغلغل الى اعماق المشكلة الاجتماعية والانسانية واغوارها المخفية، ومن غير استفادة من التراث الباذخ الذي تركه الأقدمون، الذين، على رغم كل ما يؤاخذون به، استطاعوا ان يقدموا للعالم واحدة من اكثر حضاراته صفاء وروحاً انسانية بعيدة عن الميز العنصري واللوني والعقائدي، وهي ابعد ما تكون عن روح الانتقام والاحقاد الموروثة وروح الابادة والالغاء والتهميش التي عانت منها شعوب عدة في العالم، منذ ان خسر التاريخ البشري حضارة العرب والمسلمين القدماء. وهكذا وجدنا انفسنا في مقاعد المتفرجين المهترئة، ننظر بأفواه مفتوحة دهشة او استنكاراً لما يحققه العالم من نقلات نوعية على مختلف الاصعدة، معمقين روح الهزيمة في نفوسنا، والاعتقاد بأننا قد خرجنا من متون التاريخ ولم يعد لنا مكان تحت الشمس فلا بأس ان نستورد كل شيء استيراداً زمنياً عبر التاريخ التراث او استيراداً مكانياً عبر الجغرافية العصرنة لأننا اقل شأناً من ان ننتج شيئاً نافعاً!! ومن مظاهر هذه المأساة المركبة والتي لا يكفيها مقال يهدف بالدرجة الاولى الى مجرد الاشارة والتنبيه، اننا صرنا نقرأ مصطلحات من اكثر المصطلحات مأساوية ودلالة فاجعة على الهزيمة. فكثيراً ما ظهرت لنا كتب وبحوث جامعية وما دون تحمل عناوين باهرة الدلالة على الانهزام المستقر في النفوس، مثل "الاشتراكية الاسلامية" او "ابو ذر اول اشتراكي في الاسلام" و ان عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب يمثلان اليسار الاسلامي وان أبا بكر وعثمان يمثلان اليمين في الاسلام، وبالتالي فهناك صراع بين "اليسار" و"اليمين" في الاسلام!! كما صرنا نقرأ كثيراً مصطلحاً مغرياً جداً هو "الديموقراطية الاسلامية" اذ صارت الديموقراطية ملهاة ومغناة يتلهى بها الكثيرون، كما ان الربط بين الديموقراطية والاسلام يمثل فَرَجاً بعد شدّة، وكلّ يغنّي على ليلاه! والحقيقة ان هذا الربط بين الديموقراطية والاسلام وتوصيف الديموقراطية بالاسلامية حل انيق لمعضلات عدة، ولكن للأسف الشديد ان هذا الربط يتجاهل اصول الاشياء ويخلو من اي مضمون علمي حقيقي. فالديموقراطية ليست علماً نأخذه كما نأخذ الكيمياء والفيزياء، بل هي آلية تنبعث من ذات المجتمع وموضوعه، ولكل مجتمع في العالم مسيرته الخاصة به وصيرورته التي يجب ان يبتنيها هو من مكوناته ومن جذوره. وقد وصل الحال الى اننا، احياناً، نرى مفكرين جادين، يمزجون بين المصطلحات لأنهم يريدون ان يقرّبوا الفكرة لقرّائهم، وان يمهدوا السبل لايصال افكارهم الى القراء، على افتراض ان اولئك القراء ما زالوا مبهورين بتلك المصطلحات ومنها مصطلح الديموقراطية، وانهم مستقرون على مقاعد المتفرجين المهترئة فاتحين افواههم قبولاً او رفضاً، على رغم ان "تسليط" الديموقراطية وتعليبها في اطار الانهيار الشامل و"تعريبها" و"أسلمتها" قد اسلمت الجزائر وغيرها… الى ما نراه ونعرفه. فان هذا الذي جرى ويجري وسيظل يجري هو صورة واضحة للانهزام امام الحضارة الحديثة وسرقة مصطلحاتها ونقلها الى بيئة هي غير بيئتها واخضاعها الى شروط هي ليست من شروطها. نعم، لك ان تقول ان ثمة ديموقراطية "شرقية" تتمثل في الشورى، لأن التاريخ نفسه يشهد على ذلك، فاما توصيف آلية منبعثة من تفاعلات اجتماعية معينة بايديولوجيا اخرى فأمر لا يمكن قبوله الا على اساس التوضيح والتقريب فحسب. ومن المؤلفين الجادين والمجدين الذين ارادوا تقريب رؤاهم الى قرائهم حسين عبيد غانم غباش في كتابه الذي صدر قبل اشهر قليلة تحت عنوان "عمان: الديموقراطية الاسلامية - تقاليد الامامة والتاريخ السياسي الحديث 1500 - 1970" وهو الكتاب الذي يمثل اطروحة قدمها الباحث الى جامعة نانتير في فرنسا، متتبعاً احداث التاريخ العماني بالترادف مع الحديث عن فكرة الشورى التي امن بها بعض علماء عمان منذ القرن الهجري الأول. فالشورى فكرة عربية اولاً نلاحظها لدى القبائل العربية قبل الاسلام، ونراها متجلية في ظواهر عدة منها دار الندوة في مكة، ومجالس الأوس والخزرج في يثرب قبل تحولها الى المدينةالمنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم اليها، كما نلحظها في كل قبيلة من قبائل العرب، حيث كان زعيم القبيلة يجتمع الى كبراء قبيلته يستشيرهم فيما يراه او يعزم عليه من شن غارة او عقد صلح او حمالة دية، كما كان وجهاء القبيلة يعودون الى شيخها الكبير او زعيمها او رئيسها للتشاور فيما ينتوونه او يعقدون العزم عليه. وغالباً ما كان لشيخ القبيلة مجلس مؤلف من وجهاء القبيلة ينعقد يومياً في مضارب القوم لمناقشة شؤونهم الداخلية وعلاقاتهم مع القبائل الاخرى، وكانت هذه الظاهرة سائدة حتى في اكثر القبائل بعداً عن المدن وإيغالاً في البوادي. وحين ظهر الاسلام اقر مبدأ الشورى باعتبارها آلية لادارة الامور في الدولة الجديدة، وخصص القرآن الكريم سورة كاملة باسم "الشورى" والتي تضمنت النص الصريح على ضرورة الشورى "وأمرهم شورى بينهم" الشورى 38. واستمر الخلفاء في العصر الراشدي يطبقون الشورى على ما جرى عليه العرف لدى القبائل العربية، وكثيراً ما نطالع في كتب التاريخ صوراً من تطبيق الشورى من قبل الخلفاء في ما يهم الامة من امور يجد الخليفة نفسه محتاجاً لآراء الصحابة من اجل ان يبت فيها بقراره. ومن الصحيح ان الشورى ضعفت بدءا من اواسط القرن الأول للهجرة الا ان بعض الخلفاء كانوا يعودون الى علماء عصورهم لاستشارتهم في بعض المسائل والقضايا التي تهم الدولة. وبهذا تحولت الشورى الى مجرد استشارات عند الضرورة. وإذا كان هذا هو التوجه العام الذي ساد الحواضر العربية والاسلامية آنذاك، وحتى العصر الحديث، فان كتاب السيد غباش يثير انتباهنا الى ان الاوضاع العمانية قد انتجت نظرية تؤطر الشورى بما جرى عليه الامر ايام الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض عهد الخلفاء الراشدين. فقد رأى اهل عمان ان الشوى ضرورية لتحديد الامام ولكن يمكن ان يأتي الامام عن طريق غير طريق الشورى في ظروف معينة، والمهم ان يلتزم بالعدل. ينقل غباش عن مصادره تقريراً مفاده ان "امام المسلمين، سواء جاء بطريق الشورى او بغيره، اذا كان عادلاً تجب طاعته. والخروج عليه فسق. وإذا جار، جاز البقاء تحت حكمه ولا يُطاع في معصية. وجاز الخروج عنه". ويستنتج الباحث من هذا النص جواز الخروج على الحاكم الجائر. ولكن المشكلة هي في الصياغة اللفظية للنص السابق، حيث ورد فيه "جاز الخروج عنه" ولم يرد فيه "جاز الخروج عليه". والفرق بين الاثنين ان النص الأول يجيز الخروج عن الحاكم الجائر، والخروج عنه قد يتم بالهجرة او عدم تنفيذ اوامره، ولا يتضمن بالضرورة قتاله. اما الخروج على الحاكم الجائر فيمثل ضرورة القتال، وهو ما لم يتضمنه النص السابق. وهذا لا يعني ان كل علماء المسلمين في عمان وغيرها لا يجيزون الخروج على الحاكم الجائر، ولكن يعني ان منهم من منع الخروج الا في حالة صدور "كفر بوّاح" من الحاكم. والمسألة خلافية بين فقهاء المسلمين الى يومنا هذا. ومن هذا المثال نستنتج ان الاسلام لم يضع لفكرة الشورى حدودها وآليات تنفيذها، وذلك لأن الشورى، في الاسلام، ليست منهجاً سياسياً مستقلاً بل هي جزء من بناء الدولة نفسها، وهذا البناء يتغير من عصر الى عصر، وتتغير معه آلياته ايضاً، ولكن ذلك التغير لا يمكن ان يطرأ من خارج المنظومة الفكرية للاسلام بل لا بد ان يرتكز على شيء من اصول تلك المنظومة، وان يأخذ بالاعتبار كل الجزئيات الاخرى المكونة لكيان الاسلام. فثمة تجاوب وتجاذب لا يمكن انكارهما بين كل الجزئيات المكونة للنهج الاسلامي في النظر الى الحاكم والمحكوم والعلاقة بينهما، سواء من حيث الحقوق والواجبات، ام من حيث المشاركة في الحكم بهذا الطريق او ذاك، وبحسب معطيات كل عصر من العصور. بعض الدول العربية، في العصر الحديث اخذت بمبدأ الشورى وتبنته وعملت به، مع وضع انظمة تسهل على اعضاء مجالس الشورى مهمتهم وتحدد صلاحياتهم وذلك كصورة من صور المشاركة في الحكم وإبداء الرأي. ونرى تطبيقات للشورى في دول مجلس التعاون الخليجي بأشكال تتقارب احياناً وتختلف احياناً اخرى بموجب معطيات كل بلد على حدة. ومن اللافت للنظر ان الدول الخليجية هي الدول الوحيدة، من بين اعضاء جامعة الدول العربية الآخذة بمنهج الشورى، او ببعض صوره، وهي نفسها الدول الاكثر استقراراً، والأكثر امناً اجتماعياً، خلافاً لادعاءات كثيرة تنطلق هنا وهناك وهنالك. فليس المهم مدى عراضة الادعاءات وطولها وصخبها، بل مدى ما يتحقق للمواطن على أرض الواقع من امان وحرية وعدالة، تثبت - بما لا يقبل جدلاً - ان التطور الحضاري يجب ان ينطلق من ذات الامة ومن ذات مكوناتها، وإذا ما وجد ضرورة للاستفادة من الآخر رحب بتلك الاستفادة بعد ان يقيمها على اساس من اسسه التي كونت شخصيته الحضارية وأكسبته ملامح سحنته وتفاعلاته النفسية والاجتماعية، بعيداً عن الانهزام امام الشعارات والمصطلحات بمقدار البعد عن التقوقع والانكفاء على الذات.