يسعى بعض النقّاد الى فضح بعض الكتّاب الكبار مسقطين عن وجوههم أقنعة طالما عرفهم قرّاؤهم من خلالها. غير ان تلك الفضائح تظل فضائح شخصية جداً نظراً الى عظمة نتاج هؤلاء. بل هي لا تؤثر لا على نتاجهم ولا على القرّاء الذين أقبلوا ويقبلون عليهم بنهم. فالرواية مثلاً هي الصورة الحقيقية للروائي وليست سيرته إلا تفصيلاً من تفاصيل شخصيته. وكذلك الشاعر لا يُحكم عليه من خلال سلوكه وإنما عبر قصائده وحدها. فما يبقى من المبدع هو إبداعه وليس حياته التي عاشها كأي انسان آخر. وليس من المستهجن في احيان ان تختلف سيرة بعض الكتّاب عن نتاجهم وأن تتناقض دعواتهم مع حياتهم الخاصة وأن يغدو التباين واضحاً بين ما يكتبونه ويحيونه. فهؤلاء هم أناس عاديون في حياتهم ومعرّضون مثل سواهم للتجارب الكثيرة. هكذا يكون الكاتب حراً في ان يحيا حياته كما يشاء وأن يكتب كذلك ما يشاء. بل هو حرّ في ان يلتزم او ألاّ يلتزم ما يدعو اليه. فالكاتب الذي يكتب ويخلق عالمه المتخيّل هو غير الكاتب الذي يحيا في الواقع حتى وإن كان هو نفسه. الكتابة تعيد صنع الحياة مرتقية بها الى مصاف الإبداع والخيال. اما الحياة فهي الوجه الآخر للكتابة: انها ارضها المتحركة وغير المستقرّة. وليس من الضرورة ان تشبه حياة الكاتب كتابته. كتابته هي حياته ولكن متحررة من أسر الزمن وأسر التاريخ والعادات. والنقّاد الذين ينتهبون حياة الكتّاب بغية فضح وجوههم الأخرى يعجزون عن تحقيق مآربهم حتى وإن أثاروا الفضائح. فاذا علم القرّاء ان الكتّاب الذين يقرأونهم كانوا على تناقض مع نتاجهم فهم يزدادون شغفاً بهم وبأسرارهم ويزدادون نهماً الى معرفتهم اكثر فأكثر. قرّاء الشاعر الفرنسي رامبو لم يتأثروا ابداً بما كيل له من تهم قاسية بل هم ازدادوا على مرّ الأيام غير آبهين لتلك التهم. وكذلك قرّاء بودلير لم يتأثروا بما حيك حوله من قصص أليمة جعلت منه شخصاً معقداً جداً. قرّاء تولستوي لن يهمّهم إن كان كاتبهم مهووساً جنسياً كما قال البعض فيه، طالما انهم يقرأون مثلاً روايته "أنا كارنينا" بحب كبير ودهشة كبيرة. وكذلك قرّاء جان جاك روسّو لن يهمّهم إن كان صاحب "الاعترافات" متناقضاً بين حبه للمال واحتقاره إياه وإن كان يهوى الفتيات الصغيرات او كان فظاً ونرجسياً ومازوشياً وبخيلاً. اما الصفات القبيحة التي أطلقت على برتولت برشت وهي كثيرة فلم تؤثر على قرّائه ابداً ولا على مسرحه وسائر نتاجه. فان كان في حياته كما قيل فيه ايضاً، لصاً وغليظاً وكذاباً ومخادعاً فهو لم يكن في نتاجه إلا كاتباً عميقاً وسخيّاً ومثالياً. ترى أليس النتاج هو الأهم؟ أليس هو الذي يمثل حقيقة الكاتب وجوهره؟ كان همنغواي سكّيراً وشريراً وعنيفاً وقيل انه كره أمّه ووصفها بالزانية لكن همنغواي كان كاتباً كبيراً وخلق عالماً من الأخيلة والوقائع وولج حياة الانسان المعاصر وأضاءها من الداخل. وإن كان جان بول سارتر أنانياً ومخادعاً كما قيل عنه فهو كان كاتباً ملتزماً ناضل من اجل الانسان ودعا الى الحرية والعدالة. يصعب الحكم على الكتّاب من خلال حياتهم الخاصة، فهم أحرار في ان يعيشوا كما يشاؤون وكما يحلو لهم ان يعيشوا. والنقّاد الذين يدّعون فضحهم يصعب عليهم ان يحلّوا محلّهم ليدركوا ما عانوا وما كابدوا في حياتهم. والأدب اصلاً يستحيل ان يُحكم عليه من خلال خلقيّته. فهو لا وظيفة اخلاقية له كما عبّر بودلير. وهو غير معني بما يسمى اصلاح العالم. هذه وظيفة المرشدين الاجتماعيين وربما السياسيين والفلاسفة. لو حكم على الأدب من وجهة اخلاقية لسقطت معظم النتاجات المهمّة وفقد الأدب دوره الخلاّق والمبدع. السوريالية التي دعت الى التحرر التام من ربقة القيم والمُثل تضحي آنذاك حركة رجعية لا تهدف إلاّ الى التخريب. وكذلك كل المدارس الأدبية والفنية التي مجّدت الإبداع كإبداع صرف وبعيداً عن أي رسالة اخرى يمكنه ان يحملها. جيل ال"بيت" الذي احدث ثورة جذرية في عالم الأدب الأميركي يصبح بدوره جيلاً من المخادعين والحشّاشين والفاسدين فيما هو ضم ابرز الكتّاب الأميركيين المعاصرين من امثال كيرواك وغينزبرغ وبوروز ... وهؤلاء كانوا أدينوا مراراً وصنّفوا من مواطني العالم السفلي. يحق للكاتب ان يعيش حياته وأن يكتب بحرّية ما يناقض حياته. ويحق له كذلك ان يناقض نفسه بنفسه فيكون ملاكاً وشيطاناً في الحين عينه، ملاكاً في عالمه المتخيّل وشيطاناً في عالمه الواقعي. والعالمان هما عالماه وليس في وسع أحد ان ينكرهما عليه. والكتابة إن لم تكن حياة داخل الحياة فما تراها تكون إذن؟