فاجأت الهند العالم بإجرائها خمس تجارب نووية في صحراء راجستان المجاورة لباكستان في يومي 11 و13 ايار مايو الجاري، وبهذه التفجيرات نجحت في ان تنتزع لنفسها مقعداً في النادي النووي الذي ظلت تحتكره الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. انتظرت الهند طويلاً وصبرت حتى واتتها الفرصة لإجراء تفجيرها النووي الثاني بعد 24 سنة تفصلها عن التفجير الاول. وطوال هذه الفترة لم تفتر همة الهند في المطالبة بأن يكون النادي النووي مفتوحاً او ان يغلق بعد تدمير سلاح اعضائه القادر على تدمير العالم عشر مرات. ويكمن وراء الإصرار على ان تكون الهند دولة نووية امتلاك جارتها الكبيرة الصين السلاح النووي وامتلاك باكستان قدرة نووية غير مجربة ولهاتين الدولتين مشاكل حدودية مع الهند لم تحل بالتفاوض. وشهدت العلاقات الهندية - الصينية ربيعاً دام ثلاث عشرة سنة نسقت خلاله الدولتان في مؤتمر باندونغ العام 1955 وصدرت عنهما مبادئ "البانشا شيلا" الخمسة المعروفة عن التعايش وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعاون... الخ. لكن هذا الربيع الجميل انتهى بقيام الحرب الصينية - الهندية العام 1962 التي نتج عنها احتلال الصين أجزاء من الاراضي الهندية، تفضل الهند ان تسميها، بعد ان طبعت علاقاتها مع الصين بعد طول انقطاع ب "خط السيطرة الفعلية" وليس الاراضي المحتلة او الاراضي المتنازع عليها. وهي التسمية التي تطلقها الهند على الاراضي المختلف عليها مع باكستان من ناحية كشمير. وهذه التسمية المعتدلة تعبر عن عدم قبول الهند خط الحدود الذي يفصلها عن الصينوباكستان معاً. وادت هزيمة الهند في العام 1962 على يد الصين الى ان تولي الهند قواتها المسلحة عناية كبيرة بعد ان كانت تتصور ان تلك القوات آنذاك قادرة على مواجهة خصمها الوحيد باكستان. وزاد من ادراك خطر التحدي الصيني قيام الصين بإجراء اول تفجير نووي في تشرين الاول اكتوبر العام 1964 قابلته الهند باستجابة مناسبة هي تفجيرها لأول قنبلة نووية بعد عشر سنوات، في أيار مايو 1974. وقد لا يكون مستغرباً إجراء الهند تجاربها الأخيرة بعد زيارة قام بها للمرة الاولى رئيس الاركان الصيني للهند والتي تلتها مباشرة تصريحات غير متوقعة من وزير الدفاع الهندي افاد فيها ن التهديد الرئيسي لبلاده يأتي من الصين لا من باكستان. وعند إدلائه بهذا التصريح، فإن الوزير الهندي كان شارك في اتخاذ قرار التفجيرات النووية. وربما لو كان الزائر الصيني ارفع مستوى لتم التفجير اثناء زيارته رداً على تفجير نووي صيني تم عشية زيارة الرئيس الهندي السابق فانكا ترامان للصين في العام 1992 اعتبرته الهند غير مناسب من حيث التوقيت ولم تحتج عليه لانها كانت تعد العدة لحدث مماثل. أما باكستان فإن موازين القوى العسكرية والبشرية والاقتصادية بينها وبين الهند تميل لمصلحة الاخيرة بوضوح، على رغم ما عبرت عنه الهند من مخاوف عند إطلاق باكستان صاروخ "غدري" المتوسط المدى، الذي يبلغ مداه 1500 كم، قبل أيام قليلة من التفجيرات النووية الهندية، فإن الهند تملك صاروخاً مماثلاً ل "غدري" في قوته التدميرية ومداه هو الصاروخ AGNI النار كما تملك الصاروخ "برتيفي" PRITHVI الارض، القصير المدى القادر على الوصول الى عمق باكستان. وبعد التفجيرات الهندية، قد تجد باكستان نفسها مضطرة الى نشر صواريخ "وام - 11" التي حصلت عليها قبل سنوات من الصين ولا تزال في صناديقها خشية العقوبات الاميركية إن هي نشرتها. الهند بتفجيراتها الاخيرة كرست نفسها دولة نووية وتبوأت المكانة الذي يعزز هيبتها الاقليمية والدولية وصار من الصعب تجاهلها او إقصاؤها عن قول كلمتها في الشؤون الدولية. وإن كانت هذه التفجيرات ستزيد من حساسيات جيرانها، خصوصاً باكستان، وتعمق تخوفاتهم من طموحات الجار الكبير وهيمنته. وكما اعتمدت الصين على نفسها في صناعتها النووية، فإن الهند اتبعت مبدأ الاعتماد على النفس في هذه الصناعة وكثير من الصناعات العسكرية. وآخر انجازاتها العسكرية قبل سنوات قليلة بناؤها أول غواصة نووية، ترافق مع اعطائها أولوية متزايدة لتحديث قواتها البحرية التي بدأت بعض سفنها القيام بزيارات لموانئ اجنبية. وحدثت هذه التطورات مع رفض الهند مقترحات أميركية بتخفيض موازنتهاالعسكرية وتقليص قواتها المسلحة كخطوة لوقف سباق التسلح مع باكستان، وهي مقترحات لم تقبلها باكستان ايضاً. ومن ناحية التوقيت، فإن التفجيرات تمت في وقت ساد الظن انه لا يمكن التمرد على الرغبات الاميركية وان مصائر العالم وأقداره تتحكم بها واشنطن وان قبضة الولاياتالمتحدة الخانقة غير قابلة لأن ترتخي إلا لمصلحة اميركية او اسرائيلية، وأتت بعد وصول اول حكومة يمينية يعرف عن الحزب الذي تمثله والذي يسمى اختصاراً PJB، العداء المتطرف لمسلمي الهند والاقليات الاخرى، ولم يتوقع أحد أن تجري هذه التفجيرات وحكومة ال BJP بي جي بي لم تكمل شهرها الثاني في الحكم واثناء قمة مجموعة ال15 الجنوبية النامية في القاهرة، التي تغيب عنها رئيس وزراء الهند فاجباري، فظن المراقبون تغيبه بسبب عدم استقرار اوضاع حكومته واعطائه أولوية لمعالجة الخلافات داخل الائتلاف المكون من عشرين حزباً الذي يرأسه حزب الشعب الوطني. ولكن، يبدو ان السيد فاجباري اراد استثمار ما ستحدثه هذه التفجيرات من اصداء طيبة لدى الشعب الهندي لتقوية مركز حكومته داخلياً والتركيز على التحديات الخارجية التي ستنجم عنها ومنها العقوبات الاميركية والقلق الاقليمي، لأن المسألة النووية في الهند تحظى بإجماع شعبي، وبالتالي فإن الشعب الهندي قادر على تحمل نتائج العقوبات ما دامت الهند قد وضعت اقدامها على اعتاب النادي النووي الذي سيضطر الى قبول الهند فيه وايضاً قبولها عضواً دائماً في مجلس الامن كي تكون ضمن الإجماع الدولي الذي يحول دون الانتشار النووي وتصدير التكنولوجيا النووية حتى للأغراض السلمية احياناً لمن تسميها واشنطن بالدول الشريرة. وللهند تجربة سابقة عندما استجابت قبل سنوات اثناء فترة حكم حزب المؤتمر لضغط اميركي والغت بيع مفاعل نووي يستخدم للاغراض السلمية لإيران. وقد يكون من المفيد العودة قليلاً الى الوراء لنتبين ان السياسة النووية الهندية اتسمت بالثبات ولم تتغير بتغير الاحزاب الحاكمة من يسار ويمين ووسط، لأن ادراكها ما تعتبره خطراً وتحدياً لأمنها لم يتغير، اضافة الى إدراكها أن القوة النووية وحدها هي التي ستؤهلها لأن تكون نداً للدول الكبرى، وصاحبة شأن ورأي في الساحة الدولية، ودولة كبيرة يسكنها بليون من البشر ذات اقتصاد كبير يتطور باستمرار. والهند رفضت دائماً ان تلبس قماشاً من تفصيل غيرها لأنها وجدته أصغر من حلمها ويعوقها عن اداء دور عالمي ترى نفسها مؤهلة له. وتستند الهند في رفضها الاحتكار النووي للدول الخمس الكبيرة وهي الصين جارتها، وروسيا وبريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة الى خطاب ألقاه الزعيم الراحل جواهر آل نهرو في 2 نيسان ابريل العام 1954 في اعقاب تفجير اول قنبلة هيدروجينية قال فيه إن الهند تؤيد ايقاف التجارب النووية وازالة كل الاسلحة النووية. في ذلك الوقت كانت هذه الاسلحة حكراً على دولتين فقط هما الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، وفي العام 1963 رحبت الهند باتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية التي وقعت في موسكو. لكنها في تشرين الاول اكتوبر 1964 رأت ان الخطر النووي يحدق بها بعد تفجير الصين أول قنبلة نووية. وقد يكون هذا التفجير هو الذي حفزها اكثر من غيره على ان يكون لها سلاحها النووي الخاص بها. ونجحت الهند في أيار مايو 1971 في اجراء اول تفجير نووي قوبل بارتياح في العالم الثالث بخاصة انها كرست مطالبتها بتدمير كل الاسلحة النووية. وظلت الهند تعزف على الوتر نفسه في مفاوضات الاممالمتحدة لنزع السلاح الى ان طوّرت مقترحات في العام 1988 قدمها رئيس وزرائها الراحل راجيف غاندي الى المنظمة الدولية تقضي بالإزالة التدريجية للاسلحة النووية حتى العام 2020. ويعيب هذه المقترحات ان تنفيذ الإزالة يبدأ بالدول النووية الخمس وينتهي بالهند التي لم تكن حتى تفجيراتها الاخيرة تقر بأنها تمتلك اسلحة نووية. وفي ظل النظام الدولي الجديد وبعد اختفاء حليفها السابق الاتحاد السوفياتي فإن الهند لم تغير موقفها وظلت ترفض سياسة "الابارتيد" النووية لأنها ترى انها وحدها هي الأقدر على ادراك مصالها الامنية وتقرير السياسات الملائمة للمحافظة عليها، ولذلك أعلنت مراراً وتكراراً رفضها المعايير النووية المزدوجة التي تسمح باحتكار دول خمس للسلاح النووي وللتكنولوجيا النووية المتطورة التي تساعدها على تطوير صناعتها وتوليد الطاقة. هذه المعاييرالتي تضفي شرعية على هذا الاحتكار شرعية التقادم وفرض الامر الواقع ونزع صفة الشرعية عن غيرها من الطامحين للانضمام الى النادي النووي. وهكذا رفضت الهند ان يعظها الغير حول افضل السبل لحماية أمنها. ومما له دلالة كبيرة ان رئيس الوزراء الحالي تال بيهار فاجباري عندما تولى الحكم لمدة 13 يوماً في ايار مايو عام 1996، أحال ضابطاً كبيراً في مكتب رئيس الوزراء الهندي السابق ناراسيمها راو، الى التقاعد كان السفير الاميركي في نيودلهي يتعامل معه مباشرة في المسائل الحساسة متخطياً بذلك كثيراً من القنوات والاجهزة ذات العلاقة. وخلال مفاوضات معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، المعرفة اختصارا ب CTBT لم تتزحزح الهند عن موقفها وقاومت الضغوط كي توقع على المعاهدة في حزيران يونيو 1996، وكانت الهند استقبلت بتفاؤل الموقف العربي الرافض توقيع المعاهدة، إلا إذا وقعت عليها اسرائيل وتبيّن ان هذا التفاؤل لم يكن في محله. ورأت الهند CTBT قيداً يجهض طموحها ان تصبح قوة نووية وتعبر عن استمرار الاحتكار النووي، وإضفاء شرعية عليه من الأممالمتحدة. وان كان من ايجابيات هذه المعاهدة ان الدول الخمس ستتوقف عن اجراء أي تجارب نووية لكن مع استمرارها في صنع الاسلحة النووية. وإذا كان من النادر ان تقف باكستانوالهند موقفاً مشتركاً على الساحة الدولية، فقد وحدتا موقفيهما من التجارب النووية عندما طالبتا بجدول زمني للنزع الشامل للسلاح النووي، واضافت مصر الى هذا الاقتراح اقتراحاً آخر يقضي بأن تشمل المعاهدة حظراً شاملاً على ما دون التجارب النووية، لكن الولاياتالمتحدة اعترضت على الدول الثلاث وزعمت ان مقترحاتها خارج موضوع المفاوضات. ومعارضة الهند لسياسة الاحتكار النووي ليست مرتبطة فقط بالمعاهدة الاخيرة، إذ أنها رفضت التوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي من منطلق انها تمييزية، كمارفضت باكستان ان توقع عليها قبل توقيع الهند. والآن وبعد التفجيرات النووية الهندية فإن باكستان ستجد انه لا مناص من قيامها هي الاخرى بتفجير نووي اول، بعد ان اختل الميزان العسكري بين البلدين اختلالاً شديداً لمصلحة الهند. وباكستان قادرة على القيام بهذا التفجير لأن لديها ما يقارب خمساً وعشرين قنبلة نووية مجمعة وغير مجمعة، وعليها فقط ان لا ترضخ لضغط واشنطن وان تتحمل عواقب التفجير هذه المتمثلة بعقوبات اقتصادية اميركية سيكون اقتصادها اكثر تأثراً بها من الاقتصاد الهندي الكبير. إن لدى الولاياتالمتحدة قوانين جاهزة لمعاقبة من يغادر "بيت الطاعة" اذ ستوقف كل مساعدتها وسيستخدم مندوبوها لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حق النقض لمنع اي قروض للهند ولن يسمح لأي بنك اميركي بأن يقرض الهند وستتشدد اكثر في السماح بتدفق التكنولوجيا الاميركية الى هذا البلد، وسيكون لهذه العقوبات اثرها السلبي على الاقتصاد الهندي وعلى سعر الروبية. لكن الهند تستطيع تجاوز اثار هذه العقوبات بعد حين، وعندما اقدمت على التفجيرات كانت تدرك ان ثمناً باهظهاً لا بد من دفعه، لكن هذا لن يستمر الى الابد لأن دولاً كثيرة ترفض الحذو حذو واشنطن وتطبيق قوانين اميركية في علاقاتها الدولية، وهذا ما ادى الى فشل المقاطعة الاميركية لإيران والى قرب انتهاء قانون داماتو. ولا شك ان الولاياتالمتحدة ستفرض عقوبات قاسية على الهند كي تردع باكستان عن القيام بتفجير مماثل لأن القنبلة الباكستانية التي منحها اللوبي الصهيوني صفة دينية وسماها القنبلة الاسلامية تعتبر في رأي هذا اللوبي خطراً على اسرائيل، ولكن يجب على باكستان ان تمضي قدماً في تفجيرها النووي فذلك افضل حامٍ لأمنها واقوى رادع في ظل ما يمكن ان نطلق عليه سياسة الرعب النووي بين الهندوباكستان. كانت الولاياتالمتحدة تحبذ ان تنتج الهندوباكستان ما تشاء من قنابل من دون ان تقوما بتجربتها كما هي الحال مع اسرائيل وإلا ستضطر الى فرض عقوبات عليهما وهي التي تتطلع الى السوق الهندي الكبير والى اكبر طبقة متوسطة في العالم لاستهلاك مصنوعاتها. ويتعين على دول العالم الثالث الترحيب بعضوية زميلة لها في النادي النووي وتشجيع باكستان على عدم الرضوخ للضغوط الاميركية. ومن المتوقع ان يساعد التفجير الهندي وبعده الباكستاني على خلو العالم كله من اسلحة الدمار الشامل لأن الانتشار النووي سيضغط على الدول الخمس لقبول تدمير اسلحتها النووية. اما استقرار شبه القارة الهندية الذي تتباكى عليه واشنطن فليس هناك ما هو أفضل لحمايته من الردع النووي الثلاثي الذي تمتلكه بكين وإسلام أباد ونيودلهي، وان الرعب النووي الذي سيسود المنطقة قد يحول دون الحروب التقليدية ويعجل بحضور اطراف النزاع الثلاثة الى طاولة المفاوضات لحل مشاكلها المزمنة. إن الولاياتالمتحدة هي صاحبة المصلحة الاولى في استمرار التوتر في شبه القارة الهندية وبين الهندوالصين كي تواصل هيمنتها على العالم وفرض سياساتها عليه، وفي منطقة جغرافية يسكنها 5،2 بليون نسمة فإن القوة النووية للدول الثلاث ستكون مصدراً للاستقرار لا تشجيعا للصراعات. وبالنسبة الى العالم العربي فإن مصلحتنا أن يسود السلام في شبه القارة الهندية، ومن واجبنا ان نبادر الى تخفيف التوتر بين دولها وان نكون حذرين ازاء الاصوات التي ترى في تجربة الهند تهديداً للعالم الاسلامي لأن ذلك يقودنا الى صراع وهمي والى عداء لا مبر له مع دولة تربطنا بها اقوى الأواصر ولم يكن من بين اهدافها انتاج الاسلحة النووية لإخافتنا او استخدامه كمصدر تهديد ضدنا، واذا ما استمعنا الى اصوات الاقلية فإننا نكون قبلنا مقولة صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات التي طالما عبرنا من عدم واقعيتها وعن رفضنا لها.