العام 1971 عكف ساعي البريد اللندني باول جالكروفت، الذي كان مولعاً بلوحات الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ واعادة تصوريرها، على البحث عن اصل ومكان الفتاة التي أحبّها فان كوخ حينما اقام في لندن في مطلع حياته الفنية والعملية. ولاحظ جالكروفت ان عنوان اقامة فان كوخ حينما كان في لندن لم يضمه ايٌ من كتب السّير التي كُتبت عن حياته، لذا قرر ان يعثر عليه، واعتقد بأنه يستطيع ان يفعل ذلك من خلال بحثه عن الفتاة التي دُعيت باسم "اورزولا لوير". لم يكن عمر فان كوخ يتجاوز التاسعة عشرة حينما اجتاز بحر الشمال وهو في طريقه الى انكلترا العام 1872. قبل حوالى اربع سنوات على ذلك كان يعمل كموظف متمرن في بيع اللوحات الفنية في هاكو - هولندا لحساب مؤسسة كوبيل. اثناء عمله هذا ابدى فان كوخ نشاطاً جيداً ومستقبلاً واعداً، الامر الذي شجع رئيسه على نقله الى مكتب فرع المؤسسة في لندن. في لندن، عاش فان كوخ حياة بسيطة. أقام لدى عائلة اسمها لوير في جنوبلندن. كان يذهب صباح كل يوم الى عمله ماشياً فوق جسر وستمنستر مروراً بالبرلمان حتى يصل الى غاليري كوبيل في ساوثهامتن على الستراند. كان يودّ وضع قبعة رسمية سوداء فوق رأسه. "ليس بوسعك ان تعيش في لندن من دون واحدة منها"، هذا ما كان يقوله. كان يمشي مشرعاً مظلته المطرية ورافعاً ياقة معطفه الى الاعلى. وفي بعض الاحيان يتوقف برهة ليرسم تخطيطاً لشيء ما او شكل غريب يأسر بصره. وعن تلك المرحلة كتبت امه تقول: "الآن اخذ فينسنت يبعث لنا دائماً تخطيطات صغيرة عن بيته وعن الشارع الذي يقع فيه، وعن محتويات غرفته لكي نستطيع ان نتخيل كيف تبدو. لكم هي تخطيطات جميلة…". وحيداً، بعيداً عن اهله، وقع فان كوخ في حبّ ابنة صاحبة البيت الذي يقيم فيه. ويبدو ان شعوره هذا ازداد حدة بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط الارملة السيدة لوير - صاحبة البيت - مع ابنتها. وعن ذلك كتب الى احدى شقيقتيه يقول: "انني سعيد اكثر من اي وقت مضى. لم أُشاهَد قط ولا حلمت اطلاقاً بشيء يشبه ذلك الحب الذي بينها وبين ابنتها. احبتها لأجل خاطري…". ان هذه الفتاة، التي يعلمنا عنها كتبة سيرة حياتها الاوائل خطأ باسم اورزولا كانت الحب الاول لفينسنت فان كوخ. ويفسّر كتّاب سيّر حياته ونقّاده بأن رفض هذه الفتاة لعرض صداقته ومن ثم رفضها عرض خطوبته كانا الدافع الاساسي في اتجاه فان كوخ الى التعصب الديني الذي قاده في ما بعد الى تسخير نفسه كلية الى الفن. اذا كان عمر فان كوخ العام 1873 عشرين عاماً - هذا ما اعتقده ساعي البريد اللندني جالكروفت - فإنه من المعقول ان يتراوح عمر الفتاة آنذاك بين السابعة عشرة والثامنة والعشرين. على هذا الاساس يجب ان تكون قد وُلدت في سنة ما بين العام 1845 والعام 1858. ذهب جالكروفت الى ارشيف "دار سومرست" في جنوبلندن حيث عاش فان كوخ، وبدأ يشاهد على المايكروفيلم كل شهادة ميلاد تبدأ في العام 1845 وما فوق. وحينما وصل الى ملف العام 1854 اكتشف ان الولادة الوحيدة التي سجلت تحت اسم لوير في تلك المنطقة في لندن هي في العاشر من نيسان ابريل العام 1854 لفتاة تدعى اوجيني لوير، زقاق سومرست، منطقة ستوكويل واسم والدها جان - بابتيزيه لوير، وُصف كاستاذ لغات. اما امها فهي سارة اورزولا لوير. يخطئ الكثيرون من كتّاب سير فان كوخ - فترة لندن، في تسمية أوجيني الحقيقية باسم اورزولا. وربما يكون مردّ ذلك ان والدة فان كوخ اختلط عليها الامر ودعت تلك الفتاة التي احبها باسم اورزولا بدلاً من أوجيني حيث اسم والدة أوجيني الثاني هو بالفعل اورزولا وليس ابنتها. من خلال بحثه هذا علم جالكروفت ان اوجيني كانت مرتبطة سراً حينما تقدم فينسنت لخطبتها العام 1873، لذا ذهب الى دار "سومرست" مرة اخرى ليبحث في ذلك. استغرق منه البحث هذه المرة اشهراً خلال تسجيلات المايكروفيلم حتى وجد ان الرجل الذي تزوجته اوجيني هو صموئيل بلومان، وهو مهندس عمره ستة وعشرون عاماً. كان الخطيبان قد تزوجا في العاشر من نيسان ابريل لعام 1878 - بعد اربع سنوات - على رفضها عرض فان كوخ - في كنيسة لامبث باريش وسجل عنوانهما في هاكفورد رود، لامبث، جنوبلندن. وعثر جالكروفت ايضاً على عقد الزواج وشهادة ميلاد ابنهما الاول فرانك اوجيني. ومن خلال شهادة ميلاد ابن اوجيني تم العثور على العنوان الذي يضم رقم البيت واسم الشارع وهو 87 هاكفورد رود. ان البيت الواقع في 87 هاكفورد رود لا يزال قائماً الى الآن ويقع ضمن مجموعة من البيوت المتلاصقة المبنية على الطراز الجيورجي المؤلف من ثلاثة طوابق ويقع في نهاية طابور من البيوت التي نجت من عمليات الهدم في الستينات. غير ان البيت رُمّم كلية في الستينات وتسكنه عائلة تُعرف باسم سميث. العام 1972 اجرى صحافي هولندي متخصص بكتابة سيرة حياة فان كوخ تحقيقاً ميدانياً واسعاً بالتعاون مع جالكروفت وتوصل من خلال عائلة سميث الى السيدة كاتلين ماينارد التي تعيش في مكان آخر من لندن. حتى ذلك الوقت لم تكن السيدة كاتلين ماينارد تعلم انها حفيدة الفتاة التي احبها فان كوخ قبل مئة عام الا بعد ان اطلعها الصحافي الهولندي على تفاصيل ذلك. قامت السيدة كاتلين باخراج جميع الوثائق والصور التي نقلتها معها من البيت والواقع في 87 هاكفورد رود حينما كانت تعيش فيه في السابق. وجدت ان كثيراً من الصور يتعلق بجدتها اوجيني وبفان كوخ حينما كان نزيلاً في بيتها. احدى هذه الصور تظهر محتويات الغرفة التي سكنها فان كوخ في الطابق العلوي من المنزل حيث غليونه ومطفأة السجائر موضوعان على رفّ موقد وملابس مرمية على كرسي، ومغسلة ودورق مياه. ومن التاريخ المدوّن على ظهر هذه الصورة يتضح انها تعود الى الفترة التي كان فيها فان كوخ نزيلاً في الغرفة. كما عثر ايضاً على صورة اوجيني الشابة الى جانب صورة زوجها صموئيل بلومان محفوظة داخل قطعة معدنية على شكل ساعة جيب. وعثر كذلك على تخطيط صغير، لا يحمل توقيعاً، مبقع، ربما، بما يبدو بقطرات من الشاي او القهوة. في ما بعد اتضح ان هذا التخطيط يعود الى فان كوخ ويمثل البيت الذي كان مقيماً فيه 87 هاكفورد رود، اي ان هذا التخطيط عمره الآن يربو على مئة وعشرين عاماً. ومن رسائل والدته تعلم ان فان كوخ كانت لديه دائماً عادة رسم او تخطيط البيوت والاماكن التي يقيم فيها. يحمل هذا البيت الآن رقم 86 هاكفورد رود بدلاً من 87، وهو يقع في الزاوية بينما في التخطيط يبدو رابع بيت في الزاوية. وقد دوّن عليه فان كوخ بحروف تكاد لا ترى اسم هاكفورد رود. ربما كان من حسن حظ اوجيني ان لا توافق على الزواج من فان كوخ. فبعد بضع سنوات من رحلته تلك وُجد فان كوخ وهو يُشرك معه كلباً جائعاً آخر قطعة خبز لديه. لقد جعلت المعاناة من فان كوخ انساناً مرهف الاحاسيس، يتألم كثيراً لألم الآخرين، وزاهداً مترفعاً على القيم المادية. كان فان كوخ صريحاً ومباشراً مع زبائن غاليري كوبيل الذي كان يعمل عنده، يخبرهم بما كان يعتقده حقاً بخصوص اللوحات المعروضة للبيع ولا يكترث ان لم يشترها احد، لهذا نقلته ادارة الغاليري الى مكتبها في باريس. غير انه لم يستطع ان ينسى اوجيني في باريس. وبعد شهرين عاد الى لندن واستأجر غرفة في بيت خرب بالقرب من عائلة اوجيني. وعندما اتضحّ له اخيراً ما يبدو كرفض نهائي من قبل اوجيني عاد الى بيت والديه اللذين انتقلا الى أيتن في جنوبهولندا بعد ان فصلته مؤسسة كوبيل. ظلّ قلب فان كوخ متأججاً بنار حب اوجيني، ولم يستطع نسيانها، وسرعان ما عاد الى انكلترا، الى رامكسيت على ساحل كنت حيث وجد وظيفة مدرّس بلا أجر. وبعد بضعة اشهر ترك وظيفته وانتقل الى إيسل وورث. كانت وظيفته في ايسل وورث تتضمن اضافة الى الوعظ والتعليم، جمع اجور الدراسة من آباء التلامذة في منطقة ايست اند الفقيرة في لندن. هنا تقابل فينسنت وجهاً لوجه مع المعاناة الانسانية الحقيقية التي لم تزده الا رغبة في مساعدة اولاد الفقراء وليس اخذ المال منهم. قام بزيارة اخيرة الى عائلة لوير في 87 هاكفورد رود. ولم يُعرف ان كان قد شاهد اوجيني للمرة الاخيرة ام لا، غير انه حينما غادر انكلترا عبر بحر الشمال عائداً الى بلده... فإنها كانت رحلته الاخيرة اليها.