بات "العقل" اكثر المفردات التي تلوكها الالسنة لا سيما كل من اراد ان يتشح بوشاح الاتستنارة والعقلانية. وليس من شك في ان "العقل" مرجعية مُقدمة، عما سواها من مرجعيات لفرز الافكار والخيارات. بيد ان المغالاة في الاعتداد بالعقل، الى حد اصطفائه اداة وحيدة مستقلة، لسبر اغوار الحقيقة هو في واقع الامر "مركزية منهجية" بكل ما تحمله هذه "المركزية" من مفاهيم حاضنة للنفي والإقصاء والانغلاق والاستعلاء على مناهج البحث الاخرى. ولعل هذا المنحى، قد يُفضي بالتدرج الى تحول "المذهب العقلي" الى "نزعة انغلاقية"، بل ربما تمضي هذه النزعة بصاحبها - في بعض الاحيان - صوب الوقوع في مثالب الميتولوجيا او الخرافة ان تاريخ الحركات العقلية، في الشرق والغرب، تحتفظ لنا بعدد من "النماذج"، يمكن الإحالة عليها، متى شئنا، الطعن في صدقية "النزعات" التي تغالي في تنزيه "العقل"، وفي إنزاله منزلة التقديس والعصمة. "فالمعتزلة"، وهي اول مدرسة كلامية في الاسلام، تأسست على ايلاء العقل اولوية "سيادية - مطلقة" على "النص"، بل وإهمال "الاخير"، إن بدا متعارضاً مع أحكام العقل، خرج من بين صفوفها، من كان ينظر ل"الخرافة"، بل ان واحدا من ابرز شيوخها وهو الجاحظ كان يعتقد "أن للقرآن جسدا يجوز ان يُقلب مرة رجلا ومرة حيوانا"! وفي الاطار نفسه، ذهب ابن الخابط والفضل الحدثي - وهما من شيوخ المعتزلة ايضا - الى القول ب"التناسخ"، ومن اللافت ان هذه الظاهرة تمتد لتشمل نفرا من رواد العقلانية في اوروبا ممن اسسوا خطاباً فلسفياً يرتكز الى تسييد سلطة العقل على اية سلطة اخرى في انتزاع المعرفة، اما الفيلسوف الانكليزي جورج بركلي، على سبيل المثال، كان يعتقد ان "المادة" لا وجود لها وهو اعتقاد اعتبره كرين برينتون "خرافة وامتهاناً للحس السليم". وشاطر باركلي، هيوم وماخ، في التأصيل لما يسمى ب"الانابة" SOLIPISM ، والتي تعتبر اكثر نظريات المعرفة منافاة للعقل، اذ بمقتضاها، لا يوجد الا الانسان ووعيه، على حين ان العالم الموضوعي الكون بما فيه الانسان فإنه لا يوجد الا في عقل الفرد او انه مجرد وهم وخداع. ما نريد استخلاصه، في هذا الاطار، هو ان "العقل" قد يجد سبيله الى التأسيس "للخرافة"، نتيجة المبالغة في تقدير امكاناته في الوفاء بشروط البرهان، في كل ميادين النظر. ولعل "البعض" من فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر في اوروبا، وعدد من العلماء المسلمين القدماء، كانوا شديدي الوعي بمخاطر إعمال "العقل" في غير مجاله التداولي، على اساس ان ثمة أنساق معرفية لن يظفر العقل منها بحقيقة، ان استقل بمعاييره في اختبار مدى مقاربتها له. ولذا ذهب باسكا الى التشديد على ضرورة الاطلاع على خصائص "المبحث" ومن ثم استكشاف ما يناسبه من اداة للنظر. فهو يفرق - على سبيل المثال - بين الايمان والبرهان من جهة، وبين ادوات المعرفة المؤدية لكليهما، من جهة اخرى، وتأسيساً على هذا التباين، رأى ان "الاول" اداته ""بداهة القلب" بينما الثاني يعتمد على "بداهة العقل" ولقد افاض ابو حامد الغزالي في هذه المسألة، فعلى الرغم انه حمّل بقسوة على الفلسفة في "تهافت الفلاسفة" نجده في "المنقذ من الضلال" يدافع عن "البرهان العقلي"، وحمل على كل من انكره او جحد به واعتبر "المنطقيات" من جنس ما ذكره المتكلمون المسلمون واهل النظر في الادلة والمقاييس. غير انه لفت الى ان "المناطقة" عجزوا في مجال "الالهيات" عن الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق. وارجع الغزالي ذلك الى ان الالهيات "تخمينية" تتفلت من الضبط والتوثيق بمعايير "المنطق" بينما بمقدور "الاخير" ان يبلغ رتبة البراعة والسبق في "الرياضيات" لأنها بطبيعتها مبحث "برهاني". وفي هذا الاطار اعترض ابن خلدون على إسراف "المعتزلة" في الاعتماد على حجية "العقل" وحده في الوصول الى أحكام يقينية في المسألة الكلامية الشهيرة "نفي الصفات"، وجعل "السمع" مقدماً على "العقل" في هذه المسألة تحديداً. وانطلق الخطاب الخلدوني من "مسلمة" مفادها ان ثمة انساق وبُنى عقائدية، لا نبحث عن الصدق فيها من خارجها "العقل - الفلسفة"، وانما من داخلها "الشرع - النقل". يقول ابن خلدون في هذا الشأن "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير انك لا تطمع ان تزن به امور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوءة وحقائق الصفات الالهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع ان يزن به الجبال، وهذا لا يُدرك على ان الميزان في احكامه غير صادق ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له ان يحيط بالله وبصفاته". كان ابن خلدون واعياً بأن "العقل" قد يُهدر "وقاره - الموضوعي" وقد يحار وينقطع في ما اسماه "بيداء الاوهام" = الخرافة اذا اشطط وتجاوز - مستقلاً - حدود "الممكن". ويُذكر في هذا السياق، ان واحداً من اكبر المدافعين عن العقل وعن الفلسفة في التاريخ الاسلامي، وهو ابن رشد، قد انتقد بشدة المتكلمين من جهة، والفلاسفة المسلمين من جهة اخرى لأنهم - بحسب رأيه - خلطوا بين "البيان - الدين" و "البرهان - الفلسفة" ولم يدركوا انهما بناءان مستقلان. وتأسيساً على هذا التمايز هاجم ابن رشد نظرية الفيض للفارابي واين سينا واعتبرها "خرافة" لأنها دلفت بالعقل الى دائرة تتعالى على امكاناته.