في وقت واحد، تُجمع ديبلوماسيات مختلفة المصادر والمصالح على تباين واحد من مسألتين بارزتين تتصلان بالشرق الأوسط والنزاع "العربي" والإسرائيلي. فأجمعت الديبلوماسيات على توجيه لوم قاسٍ إلى بنيامين نتانياهو، على "استراتيجية التسويف بحسب الرئيس الأميركي في زيارته في 13 أيار/مايو إلى برلين التي يتبعها بإزاء إحياء العملية السلمية، وحمّلته المسؤولية عن الرجوع عن إعادة الانتشار التي تعهدتها الحكومة الإسرائيلية، بحسب رسالة وزير الخارجية السابق، وارن كريستوفر، على ما ذكّرت مادلين أولبرايت جمهورَ اللجنة الأميركية - الإسرائيلية للشؤون العامة إيباك الذي استمع اليها في 12 أيار.ونظير لوم حكومة إسرائيل على انتهاجها سياسة "ازدراء وكذب واستفزاز ... تؤدي إلى عزلة إسرائيل المتعاظمة على المسرح الدولي وتتهدد مستقبل البلد والسلام بالخطر" - على ما ذهب إليه بيان "لجنة المحافظة على اتفاقات أوسلو"، الذي وقعه عشرات من الحائزين على جائزة نوبل للعلوم والآداب ومن كبار الجامعيين والكتاب الفرنسيين والأميركيين ومعظمهم من اليهود - مدحت هذه الديبلوماسيات سياسة السلطة الوطنية الفلسطينية ومساندتها الاقتراحات الأميركية. فجددت أولبرايت التأكيد على أن "طبيعة الشراكة" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واتفاقات أوسلو عنوانها، تملي على إسرائيل أن "تأخذ ... المخاوف الفلسطينية في الاعتبار"، وعليها أن تنسحب، من غير مفاوضة، من جزءٍ من الضفة الغربيةالمحتلة قال شمعون بيريز ينبغي الا يقل عن أربعين في المئة، قبل مفاوضات الوضع النهائي. وكررت وزيرة الخارجية الأميركية ما كان ذهب إليه بيان وزراء الخارجية والمال الأوروبيين، في الثامن من الشهر الجاري، ويتوقع أن يردده بيان الدول السبع مع روسيا في برمنغهام، وما لا ينفك الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، ووزير خارجية فرنسا، فيدرين، يعلنانه، ويوافقهما عليه بوسوفاليوك، المبعوث الروسي الخاص، "أنه ينبغي ألا تكون هناك أعمال من جانب واحد على الأرض". والطرف القادر على التصرف "على الأرض"، اليوم، هو الدولة العبرية. فإذا أخذ موقف أمين عام هيئة الأممالمتحدة، كوفي أنان، في الاعتبار، وهو لا يختلف، على الأرجح، عن الرأي الأميركي في المسلك الإسرائيلي، اتسعت الإدانة، من وجه، وتعاظم التنديد، من وجه آخر. وتكاد هذه الديبلوماسيات نفسها تُجمع على العجب والكلمة اختيرت لتهذيبها من الرد اللبناني الرسمي، وهو قناع الرد السوري، على اعلان الدولة العبرية، باسم وزير دفاعها، استعدادها لتنفيذ القرارين 425 و426، بعد ان نجحت الدولة اللبنانية في بناء قوات مسلحة قادرة على فرض سلطتها على الأراضي الوطنية. فقال السفير الأميركي في لبنان، ريتشارد جونز، إن الإسرائيليين "يريدون الوثوق بأن الجيش اللبناني لن يتأخر في الدخول إلى المناطق التي يخليها الجيش الإسرائيلي". ولم ينفِ السفير "شيئاً من الغموض" يلابس "الترتيبات الأمنية" المقترحة. لكنه نفى أن يكون معنى "الترتيبات" مفاوضات مباشرة بين الدولتين، أو معاهدة سلام، على خلاف التفسير الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية اللبنانية. ونسب موراتينوس، المبعوث الأوروبي الخاص إلى الشرق الأوسط، إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي وإلى أنان، الحرص على التنسيق "في شكل كامل ... من أجل معالجة القضايا المترتبة على تنفيذ القرار 425 بطريقة شمولية ومن دون إثارة مشكلات من شأنها التسبب في ديناميكية سلبية في المنطقة". وإذا كانت "الشمولية" الأوروبية تعني ما تعنيه الشمولية الأميركية، أي الاستمرار على ربط تقدم جائز على مسار من المسارات بضرورة إنجاز تقدم على المسار المقيد والمتأخر، فالتخوف من "ديناميكية سلبية" إنما يقصد به التفريط في فرصة موضعية في انتظار مؤاتاة كل الفرص معاً. وليس إنشاء فيدرين، خلية عمل أوكل إليها اقتراح "أفكار" لمعالجة تنفيذ القرار 425، قرينة على اقتناع الديبلوماسية الفرنسية بانطواء الاقتراح الإسرائيلي على "الخداع" وحده، خلافاً لما ذهب إليه الوفد الديبلوماسي السوري الرفيع الذي زار باريس قبل أسابيع قليلة. وقد تكون عودة رفيق الحريري، من باريس إلى دمشق، على وجه السرعة، وترك اللقاء بانان، من أعراض فهم الموقف الفرنسي من الاقتراح الإسرائيلي، ومن استقبال الأمين العام، فهماً أقرب إلى الواقع والحقيقة. ويرجح هذا التفسير تعليل فارس بويز، وزير الخارجية اللبناني، امتناعه من السفر إلى باريس بخواء وفاض كوفي أنان من "موقف جديد". واستقبل بويز بوسوفاليوك، وهو دعا إلى تنفيذ القرار 425 على النحو الذي كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق دعا إلى تنفيذه، مستقلاً بنفسه، استقبله ببرم ظاهر. ونقلت مصادر لبنانية عن "وزير" خارجية حاضرة الفاتيكان، جان - لوي توران، أن مواجهة لبنان المخاطر المترتبة عن انسحاب إسرائيلي من غير تنسيق مع الحكومة اللبنانية لا تتحقق إلا "بقيام الدولة بواجباتها"، من نشر قواتها المسلحة الشرعية على الأراضي التي تنسحب منها قوات الاحتلال، وحمايتها المواطنين اللبنانيين من "عدالة" تتولاها قوات الأمر الواقع باسم "التحرير"، ونزعها كل سلاح غير السلاح المؤتمر بأمرها، إلخ، ولا يدل كلام توران على تعويل كبير على حسن تدبير الحكم اللبناني، في ضوء رده على السياسة الإسرائيلية الجديدة في لبنان، ولا على اقتناع الفاتيكان بجدوى التخمين في "النوايا" الإسرائيلية وبقصر الحملة الديبلوماسية، السورية أولاً، على فضح "النوايا" المفترضة هذه وتخويف إسرائيل من ترك العنان "للمقاومات" الإسلامية والفلسطينية منظمة أحمد جبريل، ومنظمة أبو موسى التي قصف مخيمها البقاعي في 13 أيار... بعد الإنسحاب. وعلى حين لا تتردد المعارضة العمالية الإسرائيلية في تأييد الدعوة الليكودية إلى الإنسحاب من لبنان، ويتصدر يوسي بيلين، مساعد بيريز السابق، حملة تأييد الدعوة هذه ويربط اسمه بها، يحمل يوسي ساريد، رأس "ميريتز"، دعوى نتانياهو الأمنية على "أمن" الحكومة وتماسكها وعلى محاولتها تلافي السقوط وانفجار حلفها. بل ان أحد صحافيي "هآرتس"، عكيفا إيلدار، يدعو الرئيس الأميركي، غداة إعلان السيدة كلينتون ضرورة القبول ب"دولة فلسطينية وهو موقف حزب العمل الرسمي، إلى نزع الأقنعة عن "ممثلي" مسرحية "العملية السلمية" وإعلان موتها، أو خاتمتها، ليتاح للإسرائيليين محاسبة من يتحملون المسؤولية عن هذا "القتل". ويدل هذا الإحصاء السريع للمواقف على تنوع الحصاد الديبلوماسي الفلسطيني، وعلى هزال الحصاد الديبلوماسي اللبناني، أي السوري. ولعل هذا ما أقر به رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية، حين قال ان لبنان ينطلق في حملته الدولية على القرار 425 من "قاعدة صلبة"، أو رصيد كبير، هي التأييد "الإيراني والعربي" لسياسته، أي للسياسة السورية. والموقف الإيراني نفسه لم تحصل عليه السياسة السورية إلا ببعض الجهد. أما "التأييد" العربي فلم يقوَ على بلورة مقايضة المساندة المصرية الحازمة للسياسة الفلسطينية في المفاوضات التي ترعاها السياسة الأميركية ب"المساندة" السورية للرد اللبناني على الحملة الإسرائيلية الديبلوماسية. فأحجمت السياسة السورية عن هذه المقايضة، ومضت على التنديد بما تسميه صحيفة "البعث" السورية، وحدها، "الرهان" على نتانياهو، حين تعني التعويل على الإجماع الديبلوماسي الدولي الذي يتصدره بعض الحزم الأميركي. لكن هذه الحال لا ترفع التبعة عن المواقف العربية، ولا المسؤولية عن التعثر في كل مرة يستحيل فيها الإجماع الإسمنتي والصوري - وهو مستحيل في كل المواقف والأحوال التي تترتب عليها نتائج فعلية وينبغي ابتكار حلول مركبة لها. فبينما يناشد ياسر عرفات الحكومات العربية، وبعضها يستقبل شيخ "حماس" أحمد ياسين استقبال رجل دولة، دعمه ومساعدته، من غير لبس، على اجتياز هذا الفصل العسير من فصول الولادة الفلسطنية المتطاولة، فلا تلقى مناشدته الاستجابة ويترك الرجل وحيداً في محنته - يتهافت التأييد، ولو لفظياً، على تلكؤ الحكم اللبناني عن اضطلاعه بأعباء سيادته على أراضيه وقيامه بولايته على جزء من مواطني دولته. ولعل الخسارة الأثقل، إلى ظهور الهوة بين الإجماع الدولي والتفرق العربي في شأن عربي بامتياز، هو خلط ضرورات السياسة بمعايير الحق والقانون الدوليين. فالمواقف الدولية التي ترى حفظ رابط بين المفاوضة اللبنانية - الإسرائيلية والمفاوضة السورية - الإسرائيلية، أي مراعاة "الشمولية" في معالجة المسارات، لا ترى هذا الحفظ "حقاً" لسورية، ولا نصا مدوناً في القرارات الدولية. بل تستحسن مراعاته لضرورات الحال، على ما أوضح بريماكوف، وزير خارجية الاتحاد الروسي، من غير تزويق. وهذا على خلاف بعض المواقف العربية التي يمهد حملها بعض الأمر الواقع على قوة الحق والشرعية لذيول مربكة وأليمة كانت حرب الخليج الثانية من ثمراتها القريبة المرة. والرد، اليوم، على المناشدة الفلسطينية بالإحجام، أسوة بالتهرب الحيي من الإلحاح السوري، ومقايضة التهرب بالإحجام على رغم الفرق الكبير بين المسألتين، وبين نتائجهما، ليسا الرد والمقايضة أفضل رسالة عربية إلى المجتمع الدولي حين يجمع هذا على تأييد "قضية العرب" الأولى في ذكرى خسارتها الخمسينية.