سليم عبو مهمّات الجامعة باللغتين العربية والفرنسية جامعة القديس يوسف، بيروت 1998 54 صفحة ينقسم الذين يستمعون أو يتابعون "الكلمة التقليدية" التي يلقيها رئيس الجامعة اليسوعية في بيروت، خلال النصف الثاني من آذار مارس من كل سنة، الى ثلاث فئات: فهناك الذين هم على استعداد تلقائي لتقبّل كل ما يصدر عنه في هذه المناسبة، من دون نقاش، لكونه على رأس مؤسسة تربوية عليا تتمتّع بكل المصداقيّة المطلوبة في الحقل الأكاديمي والمبنية على أساس النظام الصارم وهم غالباً من أهل هذه الجامعة وخريجيها" وهناك الذين يتصدون لكلامه غوغائياً وإيديولوجياً، لكونهم ينتمون الى أحزاب عقائدية لا تقبل مبدأ المناقشة لا داخل صفوفها ولا خارجها، في المجتمع الأوسع" وهناك الذين يأخذون كلامه على محمل الجدّ ويحاولون التبصّر فيه وهم إجمالاً من أهل الصحافة المكتوبة. واللافت هذه السنة أن أهل الفئة الثانية، أي الحزبيين، قد اسكتوا مرابض مدفعياتهم التلفزيونية، خلافاً لما حصل السنة الماضية، محاولين تجاهل ما قاله الأب سليم عبو، هذا المشاكس العنيد الذي ينازلهم في الواقع ولا يشاكسهم كما يتصورون، في إطار مساجلة فكرية مبنيّة، يستحيل الردّ عليها بالعنجهية والنعوت الرخيصة والمبتذلة التي لم تعد تقنع أحداً، كما حصل في العام الفائت. لذلك حسناً فعل العقائديون عندما قرّروا، هذه السنة، اطفاء زماميرهم وإخراس صفاراتهم وإسكات طبولهم. فما قاله سليم عبو هذه السنة يستكمل ما قاله السنة الماضية ويوضحه، ويذهب بعيداً في تحديده للعملية التربوية، الشاملة، المنوطة بأهل الجامعة الذين عليهم، بحسب ما يقوله، ان يهتموا بتنشئة الطلاب مهنياً، على صعيد الكفاءات الفنيّة والمهارات والقدرات العلمية، ولكن أيضاً مدنياً، أي سياسياً، بمساعدتهم على الانخراط في مجتمعات ديموقراطية. فالكلام السياسي، تالياً، طبيعي وضروري على المستوى الجامعي، حيث أنه يظاهر التأهيل المهني الذي يخضع له الطالب. وغالباً ما كانت تفضّل الجامعات الخاصة في لبنان عدم المجاهرة بهذا الأمر والاكتفاء بلعب اللعبة السياسية في الكواليس. أما سليم عبو فلا يطمس رأسه في الرمل، كالنعامة، ولا يحاول أن يخفي الأوراق في كمّه، كالساحر، بل يمسك بقرني الثور مباشرة، دون مواربة، مواجهاً المشكلة الفكرية المطروحة بصراحة وشفافية تندر في العالم العربي المعاصر. ولا يقوم كاتب ورقة "مهمّات الجامعة" بذلك إلاّ لأنه مؤمن بالقضايا التي يطرحها والتي تتخطى حدود الحالة اللبنانية لتشمل قضايا الإنسان في مواجهته لمعضلات عصره وزمانه. أما الدخول في المسألة السياسية فمبني على قاعدة أساسية وهي أن المجتمع اللبناني "لن يجد توازنه وعافيته إلاّ في تبنّيه التعددية من غير تحفّظ". ويتضح هنا أن البُعد الأساسي للتفكير السياسي الذي سوف يدخل فيه سليم عبو هو بُعد اجتماعي. وهذا ما يجعله على موجة واحدة مع جميع الذين يريدون الإصغاء له والتفكير معه في الموضوع، من حيث الشكل. أما التعددية التي يثيرها صاحب العلاقة فهي خيار فلسفي واجتماعي واسع لا يرى في المجال السياسي سوى بوابة له. فالهدف الأسمى للسياسة هو، عند سليم عبو، كما عند فلاسفة الأنوار الذين يستشهد بهم كثيراً، سعادة الإنسان. فالنظام السياسي هو في خدمة الإنسان وليس العكس. لذلك ينبغي ان ينطلق كل تفكير سياسي من حاجات الإنسان المادية والروحية لكي تستقيم المعادلة. وفي هذا المنطلق الفكري كثير من الاحترام للإنسان ولتجربته المعيشة على أرض الواقع. فهذا ما يُبعد عفوياً التفكير والتحليل عن الأفكار المنَّمطة الجاهزة التي تأتي على شكل "فاست فود" سياسي، يقوم الإنسان بابتلاعه على وجه السرعة دون معرفة ماذا يأكل تحديداً وماذا يدخل الى جسمه. تفكير رئيس الجامعة اليسوعية هنا تقليدي بمعنى أنه ينطلق من تجربة اللبنانيين على الأرض، لا من افتراضات سياسية أو ايديولوجية وهمية. لذلك يجد ان ما يؤسس لممارسة اللبنانيين وتفكيرهم قائم من تجربتهم التعددية، فلا حاجة بالتالي لاستيراد منظومات مفاهيمية، أو فكرية غير نابعة من التجربة المحليّة. ولا يقتصر ابتعاد تفكير سليم عبو عمّا هو عربي وشرقي، بل أيضاً عمّا هو غربي وأجنبي. وهذا ما لا يعترف له به نقّاده. فمن يقوم بمطالعة كلمة "مهمات الجامعة" يكتشف أن صاحبها بعيد عن الارتباطات الشرقية والغربية على حدّ سواء، باحثاً، أولاً وأخيراً، عن بُعد انساني كوني. لكن النقد الفكري، السياسوي، يفضّل التقاط عناوين نافرة ويبني، من ثم، تحليله عليها، بدل التمعّن بما هو موجود بين يديه إذ ينبغي ان نشير هنا ان رئيس الجامعة اليسوعية الذي كان غزير الكتابة في السابق، لم يعد يكتب حالياً سوى هذه الكلمة السنوية، بسبب انشغالاته الإدارية الدائمة علماً أن رؤساء الجامعات الآخرون ينقطعون كلياً عن الكتابة، فلا بدّ أن تكون كلمته لذلك جدّ مكثفة ومدروسة. أما ما يعترض سبيل تعددية المجتمع اللبناني، في نظر سليم عبو، فهو هذا الخطاب الكلّياني الصادر عن القوميّة العربية، و"الساخط اليوم لأنه يعاني رغم خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية، بقاء الديموقراطية التعددية استثنائياً، وانبعاثها في منطقة لا تتقبّلها". وهنا يخترق سهم النقد قلب الهدف، إذ انه يشير بوضوح الى ما هو حاصل على أرض الواقع في لبنان من عدم تمكّن ابتلاع الخطاب القومي العربي المستورد على أجنحة الأخوّة للتجربة المتنوعة اللبنانية، العصيّة على التبديل لكونها نابعة فعلاً من تجربة محلية طويلة غنيّة ومتشعّبة في تعاطيها داخلياً بين المجموعات اللبنانية المختلفة وخارجياً مع ما يُسمّى الغرب. يؤكد سليم عبو على فرادة هذا الاختلاط الميداني لدرجة أنه يعتبر أن اللبنانيين هم "السكان الأكثر اختلاطاً على وجه الأرض". صحيح ان المجتمعات العربية الأخرى لا تخلو من تجارب اختلاط مشابهة كمصر والعراق وسورية، إلا ان الفارق الكبير الذي يميّز اللبنانيين عن سواهم، على حدّ ما أشار المؤرخ كمال الصليبي في كتابه "بيت بمنازل كثيرة" هو تفاعلهم الطوعي والإيجابي والدائم مع التجربة الغربية المتبلورة والمزدهرة في الحقول كافة. وعصيان التعددية اللبنانية على التوحّد في النموذج العربي العام، المعادي للغرب، رغم انصياعه له، هو الذي يجعل الخطاب القومي العربي مصرّاً على تدمير "الفرادة" اللبنانية، دون ان يعلن جهراً عن نيّته الحقيقية هذه. فصراع ما بعد الحرب في لبنان يتخذ هذا الوجه الثقافي الخفي الذي يكشف عنه سليم عبو ويزيل زيفه بإشارات واضحة. كمثل تلك التي تتعلق بتسييس التراث اللبناني، إذ يشير صاحب الكلمة الى انه، في الحفريات الأركيولوجية القائمة في وسط بيروت المدمَّر، تتم المحافظة فقط على الآثار الفينيقية والإسلامية مع "التضحية بالآثار الرومانية والبيزنطية والعثمانية"، بشكل ايديولوجي ملتو وبغية التوصل الى صورة عامة تتناسب - ولو بشكل زائف - مع بانوراما القوميّة العربية الكليانية والتي تحاول ان تقنع الناس، بغير أسلوب ووسيلة، بصحة تصوّراتها الزائفة والمركَّبة تركيباً مصطنعاً. ومن هنا فان تسييس التراث الذي يجري العمل عليه بصمت، على قدم وساق، يحاول ان يستمد من تجربة الأجداد "ما يخدم الزمر الطائفية المختلفة". الكلام قاسٍ، الا انه صريح، ويوجه الاتهام مباشرة إلى أصحاب القرار السياسي الذين يحاولون الالتفاف على الواقع باستمرار، بغية المحافظة على خيمة كراكوز التي يعيشون تحت سقفها، والتي لا تختلف كثيراً عن الخيمة التي عاش تحتها ستالين والتي سقطت على رأس غورباتشوف أخيراً. والواقع ان العقل القومي، عند العرب كما عند الصرب، كما عند جميع أمم الأرض، عقل لا سوسيولوجي، جامد، يتعاطى مع البشر على أساس أنهم صور لنماذج ثابتة ووحيدة راسية في الماضي الغابر. وهذا ما دفع بالمناسبة المفكر النمسوي كارل بوبر الى نعت أفلاطون، المثالي وأب نظرية أهل الكهف، بشيخ المنظّرين القوميين والتوتاليتارييّن. لذلك يستحيل على العقل القومي التعاطي مع الظاهرة اللبنانية بشكل إيجابي، حيث أنها، عملياً، نقيضه. فالتعددية اللبنانية، كما يسمّيها سليم عبو، هي في الواقع مجموعة تجارب متنوعة لم ينقطع حبلها منذ غابر الأزمنة، في سياق تفاعل أهل هذا البلد الصغير الذي كانت تميّزه غابات أرزه مع جميع القادمين اليه والعابرين فيه. بحيث أنه أخذ عن الجميع شيئاً وحفظه في عاداته وتقاليده الغنية. فميزة هذه التجربة أنها قامت على الانفتاح الدائم، الأمر الذي أخاف ويخيف أصحاب المشاريع المغلقة. غير ان العولمة التي بدأ يشهدها هذا العقد الأخير من القرن العشرين، والتي سوف تتنامى ويزداد أثرها في الألف الثالث، تنصف الخيار اللبناني المنفتح. ويضيف سليم عبو في هذا السياق ان الخطاب الكلياني القومي العربي "هو ساخط أيضاً، على غرار الخطاب الأصولي، بسبب العولمة التي ينظر اليها على انها شكل جديد من أشكال الاستعمار الغربي". بحيث ان هذا الخطاب "لا هو مع جدّه في خير، ولا هو مع جدّته في خير"، على حدّ تعبير المثل الشعبي اللبناني. فالعولمة التي تجتاح مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام منذ الستينات لم تعد مجرد ظاهرة نبتت خلال العقد السادس من القرن العشرين وتعاظم شأنها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العقد التاسع منه، بل أنها غدت الشكل الجديد للحياة المعاصرة. بحيث ان الطرف الذي يفهم عمق هذا التحوّل البنيوي ويتآلف معه إيجابياً، قادر على تأمين مستقبل له حي وفاعل. أما الطرف الذي يعاند الدخول في العولمة، انطلاقاً من خطاب قومي أو اثني ما، مثلما هو الحال بالنسبة الى الخطاب القومي العربي المتخشّب، فسوف يتقوقع وينزوي ويجتر مشاكله الى ما لا نهاية. فالخطاب القومي العربي، اللاسوسيولوجي، عاجز عن التعامل مع العولمة تعاملاً موضوعياً بل انه يتعامل معها من منظور ايديولوجي. ذاك أنه دأب، منذ تكوينه الأول، على وضع التصوّر قبل الفكرة الموضوعية. فالمشكلة هنا مشكلة معرفية، ذلك ان التصوّر هو رؤية مستقبلية، مبنية على افتراضات مستقاة من الماضي. بينما الفكرة الموضوعية قوامها بناء مفاهيمهي مستخرج من تجربة موضوعية في الواقع المعيش. من هنا فأن الذي يبني منظومته الفكرية على التصورات، لا على الأفكار السوسيولوجية، يكون قد شوّه المنظومة الفكرية وتحوّل الى الإيديولوجيا. وهذه هي معضلة جميع الأبنية الفكرية القومية عبر العالم التي تريد ان تخضع الأفكار لعمليات ليّ تصوريّة، ايديولوجية تارة، وعصبية تارة أخرى. إلاّ ان المحصلة النهائية هي دوماً نفسها. فالحياة السياسية، الديموقراطية، تتوقف في البلدان الخاضعة لأحزاب تعتنق هذه العقائد، وتصبح السياسة مجموعة مواقف متشنجة وعصبية تقسم الناس الى فئتين: مَن هم مع صاحب الشركة ومَن هم ضدّه، دون السماح بوجود مواقف وسيطة أو محايدة. كلمة الأب سليم عبو هذه مفيدة للتفكير في مسائل تهمّ اللبنانيين والعرب أجمعين. أما القول بأنها غارقة في مستنقعات الهويّة اللبنانية، كما فعل البعض، والذي طالب صاحب الكلمة بالتفكير في ما يفيد لبنان في وظيفته الجديدة، فيمكن الردّ عليه بأنه، منهجياً، يأتي تحديد وظيفة مجتمع ما من الهوية السوسيو - معرفية لهذا الشعب، وليس العكس. كما أنه يمكننا ان نضيف، من الناحية العملية، السؤال الآتي: أين أصبحنا اليوم في لبنان من "الوظيفة" التي حدّدتها وثيقة الطائفللبنان الجديد؟ والتي أُخضِعَتْ لعملية فتل قوميّة...