ليس كفرنسا ولعاً باستذكار أحداث التاريخ. ففي فرنسا، ربما أكثر من سواها، يحتل سابق الأحداث صدارة وسائل الإعلام، أو هو يزاحم راهنها عليها، فيُبعث حياً، وتستعاد تفاصيله، وتسترجع بلا هوادة، وتنشر حوله المقالات والكتب، وتعدّ حوله البرامج الخاصة في التلفزيون، حتى يصبح هذا الفصل أو ذاك من فصول الماضي حاضراً يلابس مشاغل اللحظة ومجرياتها. وبذلك تتداخل الأزمنة، ويمازج بعضها بعضاً، فإذا هي في وعي الناس سواسية، أو تكاد، بل أحياناً ما يبزّ الآنفُ اللاحق، ويطغى عليه. هكذا، عاشت فرنسا خلال الفترة الوجيزة الماضية حدثين بالغي الخطورة: حلول الذكرى الثلاثين لثورة أيار مايو 1968 الشبابية، وإقرار ال "يورو" عملة أوروبية موحدة، في قمة فرانكفورت الأخيرة. أما الأول فقد مر عليه جيل من الزمن، ويبدو من خلال صوره القديمة بالأبيض والأسود، وقد أعيد نشرها حتى الثمالة، وكأنه آت من سحيق تاريخ ولى. وأما الثاني فيلزم حاضر البلاد ومستقبلها، ليزجّ بها في إطار أوروبي أشمل، وفي أفق عولمة أرحب، قاطعاً مع إرث راسخ من الدولة - الأمة، تلك التي تكاد أن تكون مفهوماً فرنسياً بالتعريف وبامتياز، لا يعود فقط إلى فجر الحداثة، مع ثورة 1789، بل طويلاً قبل ذلك إلى عصور الملكية المطلقة. لكن المفارقة ان الحدث الأول هو الذي استحوذ على الاهتمام ونال منه قدراً بالغاً طاغياً، ما كان من نصيب صنوه الراهن. فغلب استذكار التاريخ الماضي، وقد أصبح في حكم اليقين، على التاريخ الجاري، وما يعد به من احتمالات مقلقة أو مثيرة. والحقيقة ان ثورة أيار 1968 الشبابية احتلت على الدوام مكانة خاصة لدى الفرنسيين، حتى باتت تبدو، حتى في الخارج، وكأنها حدث فرنسي بالدرجة الأولى وبما يشبه التخصيص، مثلها في ذلك مثل الثورة الفرنسية، قبل نحو القرنين من ذلك، علماً بأن تلك الأحداث التي شهدتها باريس ربيع سنة 1968 تلك ما كانت غير جزء، في بعض الأحيان أقل شأناً، من تحرك شبابي كان أيامها كونياً، انطلق من بعض الجامعات الأميركية، وشمل العالم الغربي، بل العالم بأسره، وتخللته في بعض الأحيان مواجهات كانت أكثر حدة بما لا يقاس من كل ما جدّ بين الشرطة والطلاب الباريسيين من رشق بالحجارة ومن هجوم مضاد بالهراوات. كما أن تلك الثورة الشبابية قد أفرزت في بعض البلدان قدراً من الراديكالية السياسية، اتخذت في بعض الأحيان منحى دموياً، بقيت فرنسا، في نهاية المطاف، بمنأى عنه. إذ لم تبرز في هذا البلد مجموعات من اليسار المتطرف بلغ بها هوسها بتغيير العالم درجة اعتماد العنف والارهاب، كما حدث في ايطاليا مع الألوية الحمراء، أو في المانيا مع عصابة بادرماينهوف أو في اليابان مع الجيش الأحمر. وإن كانت قد ظهرت في فرنسا مجموعة "العمل المباشر"، فقد بقي فعلها طفيفاً محدوداً قياساً إلى نظيرتها من المجموعات التي سبق ذكرها، فهي ما أتت أعمال عنف بحجم ما اقترفت تلك، ولا برز بين صفوفها "نجوم" من صف الألمانية ماغدالينا كروب مثلاً لا حصراً، ولا منظرين للثورة من قبيل الايطالي انطونيو نيغري، مثلاً لا حصراً كذلك. وحتى لو نظرنا إلى تلك الفورة الشبابية الكونية من زاوية المفعول الثقافي، ابداعاً واستلهاماً، للاحظنا بأن إسهام أيار الفرنسي كان فيها محدوداً. فالملهم الفكري لتلك الأحداث كان آنذاك، على سبيل المثال، هيربرت مركيوز، الألماني الأصل، الأميركي التدريس والإقامة، في حين أن مفكرين فرنسيين كباراً مثل جان بول سارتر أو لوي التوسير أو ألان تورين وسواهم، قد واكبوا تلك الأحداث، وإن من موقع التعاطف الشديد، بل المساهمة الفاعلة، أكثر مما وجهوها. أما التعبيرات الثقافية التمردية لشباب تلك الفترة، فقد تأتّت في الغالب من الولاياتالمتحدة، أو من العالم الانغلوساكسوني، خصوصاً وغالباً، في ذلك موسيقى البيتلز والرولينغ ستونز، أو موضة الألبسة. وكذلك الأمر بالنسبة لثقافة الاندروغراوند، أو لظاهرة ك "الصحافة الجديدة"، تلك التي ابتدعها مثقفون مثل نورمان مايلر وسوزان سونتاغ وسواهما، كإعادة نظر جذرية في الممارسة الاعلامية الأميركية التي كانت سائدة آنذاك، وهي التي لم تدخل فرنسا إلا بعد ذلك بكثير، عبر صحيفة "ليبيراسيون" التي تأسست سنة 1973، برعاية جان بول سارتر. وقس على ذلك بعض أشكال التظاهر، مثل "الست إن"، أي الجلوس الاحتجاجي، وقد طلعت، كممارسة وكتسمية، من الجامعات الأميركية. أما الايقونات السياسية لتلك الحقبة ولذلك الجيل، فقد تمثلت في الغالب في ثوريين من العالم الثالث: تشي غيفارا أو ماو تسي تونغ أو هو شي منه. ما الذي جعل أيار الفرنسي يحتل، مع ذلك، هذه المكانة التي تبدو له خاصة، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل حتى في نظرة الخارج إليه؟ ربما تضمنت الفقرة السابقة بعض عناصر الإجابة. ففي الولاياتالمتحدة، كانت تلك الثورة الشبابية جزءاً من عملية تحديث أشمل، ما كانت هي إلا من بين روافدها المتعددة. فعقد الستينات كان في أميركا ذلك الذي شهد وصول رئيس كجون كينيدي إلى البيت الأبيض، شاب يعد بفتح أبواب المستقبل، في حين أنه كان في فرنسا عقد الجنرال ديغول، بطل قومي على الطريقة القديمة، يعود ذهنياً إلى القرن التاسع عشر، ينظر إلى الحكم على أنه فعل سلطة، بل بعض تسلط، وإلى الفرنسيين على أنهم "أمة" مشدودة إلى ماضٍ سحيق ونحو هدف أشبه بالرسالة، لا ك "مجتمع"، بكل ما لذلك من دلالات تنوع ومشاركة في عصرنا هذا. والولاياتالمتحدة كانت خلال عقد الستينات ذاك تمور بالاحتجاجات، ومن أبرزها حركة الحقوق المدنية التي كان قد أطلقها الزنوج، بقيادة مارتن لوثر كنغ، وتلك كانت تسعى إلى توسيع معنى المواطنة، وهي كانت تتمتع بذلك بشرعيتها الخاصة، وبمنطقها، وما كانت تبعاً لذلك رديفاً لذلك التمرد الشبابي وإن تقاطعت معه. أما فرنسا، فكانت آنذاك تنوء تحت وطأة تقليدية رتيبة، بلداً لا يزال شديد الانغراس في ماضيه الزراعي، يقنن الحزب الشيوعي، وكان آنذاك بالغ القوة، كل احتجاج داخله، بما لا يهدد أي خروج عن "الخطة" وبما لا يزعج سلطة الجنرال ديغول، ذلك الذي كان يتقاسم معه النفوذ ضمنياً، باسم تحالف نشأ منذ أيام المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية. لقد كان البلد في وضع عبر عنه أحد كتّاب صحيفة "لوموند"، قبيل انفجار أحداث أيار، على أفضل وجه عندما كتب: "فرنسا تشعر بالسأم". لكل ذلك، وما عداه من أسباب مشابهة يطول ايرادها، تتمتع ثورة أيار في فرنسا بموقع خاص، يميزها عن كل تحرك لها صنو في بلاد الغرب الأخرى أو في بعضها. فإذا كان التحرك الشبابي في الولاياتالمتحدة مثلاً رافداً، وإن كبيراً، داخل حركة تحديث أشمل، ثقافي ومدني، وسياسي وإعلامي، كان المساهمون فيها كثراً، فإن شباب فرنسا كان عليهم أن يضطعلوا بتلك المهمة التحديثية بمفردهم وعوضاً عن الجميع من دون أن يكونوا بالضرورة على وعي بمغزى ما كانوا يفعلون. وذلك ما قد يفسر أن أيار الفرنسي هو الوحيد الذي كان له وقع سياسي مباشر، على الحياة السياسية، إذ كاد أن يؤدي إلى اسقاط الجنرال ديغول، بل أفضى بعد ذلك، في سنة 1969 إلى انسحابه من الحياة السياسية. أي أن أيار الفرنسي ما كان فعلاً تضافر مع سواه داخل تيار تحديثي متعدد المصادر والمظاهر، بل كان أقرب إلى الانقلاب الفجائي داخل وضع متآكل متهالك، ولكنه منكفئ في أزمته لا يطرح على نفسه أي مهمة تجديد ذاتي. ومن هنا كان أيار الفرنسي محدوداً أكثر من سواه في بعض بلدان الغرب الأخرى، لأنه ما كان يتغذى من مناخ تجديدي يتعداه ويكتنفه، ولكنه أدى إلى نتائج تغييرية تجاوزته كثيراً وبعيداً. وأهمية ثورة أيار، بهذا المعنى، أنها أعادت ربط فرنسا بالعالم الحديث، وقربتها من ايقاعه، ومن هنا جاء ربما ذلك الاهتمام البالغ بها استذكاراً واحتفالاً، كأنما يسعى هذا البلد إلى إعادة تحقيب تاريخه، ليجعله يتماشى مع ما هو مقبل عليه من أوروبة وعولمة. وهي مهمة يقبل عليها بشكل محموم، سواء تعلق الأمر بثورة أيار أو سواها من أحداث تاريخه الحديث، وكأنها أمر بالغ الإلحاح، بل هي بالتأكيد كذلك.