ارجأت لجنة التحكيم الخاصة بمستقبل مدينة برتشكو اتخاذ قرار نهائي حول مستقبل المدينة المتنازع عليها بين الاطراف البوسنية حتى نهاية العام الجاري، وذلك للمرة الثانية بعد ان كانت اللجنة اتخذت قراراً مماثلاً مطلع العام الماضي. تتألف اللجنة من ثلاثة اعضاء، احدهما مسلم والآخر صربي، والثالث هو الحقوقي الاميركي روبرت اوين الذي يرأسها وبيده كل مفاتيح القضية، لأن العضوين الآخرين مختلفان دائماً ويقف كل منهما الى جانب الطرف الذي يمثله. اعتماداً على موقعه المتنفذ أعلن أوين انه استند في قراره الخاص بالتأجيل الى ثلاث نقاط رئيسية: اولاها ان القيادة السياسية للحزب الديموقراطي الصربي المتشدد التي تولت السلطة في الجمهورية الصربية خلال عام 1997 تعمدت اعاقة مهمة المشرف الدولي على منطقة برتشكو في تنفيذ اتفاق دايتون، لكن الزعامة الجديدة للجمهورية قدمت مؤشرات الى تغيير فعّال للتوجه السابق وتسعى الى تنفيذ اصلاحات كبيرة في المنطقة. والسبب الآخر انه اذا حققت الزعامة الصربية الجديدة في وقت قريب انجازاً كبيراً بخصوص توفير التعددية العرقية في برتشكو فإن ذلك سيكون مؤثراً الى درجة كبيرة في خيار قرار التحكيم. والنقطة الثالثة تعود الى ان اللجنة ارتأت ابقاء الوضع الراهن في منطقة برتشكو من أجل توفير الفرصة لحكومة الجمهورية الصربية الجديدة كي تستطيع تنفيذ برامجها الاصلاحية في برتشكو. وأشار التقرير الى ان متطلبات النتيجة النهائية للتحكيم تقع على عاتق الجمهورية الصربية التي يتوجب عليها اقناع هيئة التحكيم بعدم تسليم برتشكو الى الاتحاد الفيديرالي، او تحويلها الى منطقة محايدة تخضع للادارة الديموقراطية الخارجة عن سيطرة اي من الكيانين. اصل المشكلة تقع برتشكو في شمال شرقي البوسنة على الضفة الجنوبية لنهر سافا الذي يشكل الحدود بين البوسنة - الهرسك وكرواتيا، ونظراً لاهميتها الكبيرة في خضم الترتيبات البوسنية الناتجة عن تغييرات الحرب الديموغرافية، كادت ان تخفق مفاوضات الاطراف البوسنية في مدينة دايتون الاميركية نهاية عام 1995، بسبب اصرار كل من الجانبين المسلم والصربي على عائديتها له، الا ان الضغوط الاميركية افلحت في ارجاء حسم مستقبلها الى قرار لجنة تحكيم خاصة. وتضمن الاتفاق السلمي دايتون فقرة ورد فيها "حول مصير برتشكو التي تربط المناطق الصربية في شمال البوسنة، سيُقرر من خلال تحكيم دولي في غضون عام". وجعلت الخرائط التي وضعها الوسطاء الاميركيون لتقسيم البوسنة الى كيانين، مدينة برتشكو في موقع متميز داخل الكيان الصربي الجمهورية الصربية بتشكيلها الممر الضيق الرابط بين اراضي الكيان الشرقية والشمالية الغربية، ما دعا الصرب الى اعتبار هذا الوجود ضمن كيانهم امراً مصيرياً وضرورياً لبقاء ترابطه، في حين حسب المسلمون هذا الوضع مؤقتاً واكدوا على وجوب دخول برتشكو ضمن الاتحاد الفيديرالي، لأنها المنفذ الوحيد الذي يوصلهم الى نهر سافا بسبب ميزته الملاحية في منطقة واسعة من اوروبا. بلغ عدد سكان برتشكو حسب احصاء 1991 الرسمي نحو 87 ألف نسمة، نصفه مسلمون والنصف الآخر مقسم بالتساوي تقريباً بين الصرب والكروات. لكن الصرب الذين هيمنوا عليها منذ بداية الحرب عملوا فيها تطهيراً عرقياً واسعاً واسكنوا فيها عشرات الألوف من صرب ساراييفو ومناطق الاتحاد الفيديرالي الاخرى، الى حد صاروا يشكلون الغالبية فيها حتى في حال عودة الذين نزحوا عنها من المسلمين والكروات. وتأكد ذلك في الانتخابات المحلية التي اجريت العام الماضي وسمحت للاجئين بإرسال اصواتهم الى مناطق ديارهم السابقة. واسفرت الانتخابات التي تمت في برتشكو، باشراف مباشر من المسؤولين الدوليين، على توزع مقاعد مجالسها البلدية كالآتي: 30 للصرب و23 للمسلمين و3 للكروات، ما يعني ان الصرب اصبحوا حالياً التشكيلة العرقية الرئيسية في المدينة. ويدعو اتفاق دايتون الى عودة اللاجئين الى ديارهم ويسمح في الوقت نفسه للبوسنيين باختيار المكان الذي يناسبهم للإقامة الدائمة فيه بعد الحرب. ولا يعارض الاتفاق بقاء الصرب الذين نزحوا عن مناطقهم في كرواتيا كرايينا وسلافونيا الشرقية والعيش في البوسنة الى حين حسم مشكلتهم، ما يعني شرعية استحواذ الصرب من خارج البوسنة على املاك اللاجئين المسلمين في الكيان الصربي الجمهورية الصربية. عم مسلمي البوسنة شعور بالاستياء من هذا القرار وأصدر رئيس الوزراء المناوب عن المسلمين حارث سيلايجيتش بياناً للرأي العام، وصف فيه الاجراء بأنه "استند الى الادلة والتقويمات السياسية وليس القانونية". وأوضح سيلايجيتش ان الحديث عن الزعامة السياسية السابقة للحزب الديموقراطي الصربي ودورها السلبي غير المتعاون "يشكل تناقضاً منطقياً ولا يستند الى واقع سياسي" لأن قيادة هذا الحزب تهيمن على السلطة في بلدية برتشكو حتى الآن، ما يؤكد عدم حدوث تغير في حقيقة السلطة الصربية بالنسبة للمدينة. وأشار سيلايجيتش الى ان اطراء رئيس هيئة التحكيم لحكومة الجمهورية الصربية الجديدة، تجاهل حقيقة ان هذه الحكومة ظهرت نتيجة دعم نواب الائتلاف من اجل البوسنة - الهرسك الموحدة والديموقراطية المسلمين في البرلمان الصربي لرئيسها المعتدل ميلوراد دوديك، فهل من الانصاف ان يُجازى هذا الدعم بسلب حق المسلمين في برتشكو، ام كان ينبغي ان يكافأ بوضع هذه المدينة في مكانها الطبيعي في الاتحاد الفيديرالي؟ وهل تعني هذه الحال ان كل متعاون منا المسلمين سيكافأ بمعاقبته؟ واكد سيلايجيتش ان حكومة الجمهورية الصربية الجديدة لم تحقق اي تقدم بخصوص عودة اللاجئين واقامة مجتمع متعدد الاعراق في برتشكو، اذ لا يزال الوضع الناجم عن جرائم الحرب والابادة الجماعية وانتهاك حقوق الانسان على حاله. واستنتج سيلايجيتش بأن رئاسة التحكيم تعتبر ان برتشكو جزء من اراضي الجمهورية الصربية، ما يعطي الملامح المسبقة لشكل القرار النهائي، ويستدعي طرح سؤال منطقي: لماذا اذن وجود التحكيم وما الفائدة منه اذا كانت القرارات تقدم النصائح للجمهورية الصربية من أجل ان تكون المرحلة النهائية من التحكيم لصالحها على حساب الاتحاد الفيديرالي الذي جُعِلَ مسؤولوه كمراقبين لا غير، وهو ما يشكل انتهاكاً لمبدأ المساواة بين الاطراف في عملية التحكيم. وحمّل رئيس الوزراء البوسني كلاً من المنسق المدني لعملية السلام كارلوس ويستندورب اسباني والمحكم الدولي الاميركي في برتشكو روبرت اوين مسؤولية تطبيق العدالة بمعزل عن الظروف السياسية، نظراً لصلاحياتهما الخاصة في تنفيذ الشطر المدني من اتفاق دايتون. ووصف مستشار الرئاسة البوسنية ميرزا خيريتش قرار هيئة التحكيم حول برتشكو بأنه "أسوأ الحلول بسبب استمرار بقاء 80 في المئة من اللاجئين الذين غادروا المدينة في مصير مجهول". وأشار الى ان ذريعة المحكم الاميركي بأن الاوضاع تتجه نحو الديموقراطية في الجمهورية الصربية بعد تسلم الحكومة الجديدة السلطة، لا تنطبق مع واقع الحال في برتشكو "حيث يسيطر الحزبان الديموقراطي والراديكالي على زمام الامور". ووصف رئيس الحزب الليبرالي البوشناقي محمد فيليبوفيتش تأجيل قرار التحكيم بأنه "من دون اساس او مبدأ قانوني ويضع الاتحاد الفيديرالي في موقع صعب جداً من خلال امكان التلاعب بالاراضي البوسنية مجدداً". تأييد التأجيل اعتبرت رئيسة صرب البوسنة بيليانا بلافيتش تأجيل قرار لجنة التحكيم في شأن برتشكو بأنه "اعتيادي ولا يستوجب اي قلق ما دام يحض الصرب على مزيد من الانجازات كي يكون الحكم النهائي لصالحهم". وعبّر رئيس حكومة صرب البوسنة ميلوراد دوديك عن ارتياحه للتأجيل مؤكداً انه سيعمل مع اعضاء حكومته "على تنفيذ التزامات بنود اتفاق دايتون كلها وتشكيل فريق خاص لتلبية ما يطلبه المجتمع الدولي من الصرب في شأن برتشكو". ووصفَ المنسّق المدني لعملية السلام كارلوس ويستندورب تأجيل الحسم في عائدية برتشكو بأنه جاء بعد تحليلات طويلة قام بها فريق من خبراء القانون الدولي حول افضل التدابير الآنية التي ينبغي اتباعها. وأيدت الولاياتالمتحدة التأجيل "لأنه يخدم مصلحة السلام في البوسنة من خلال الفترة الاضافية التي يمنحها للطرفين المسلم والصربي للبرهنة على احترامهما لاتفاق دايتون". وأشار الناطق باسم الخارجية الاميركية جيمس روبن الى "التقدم الملحوظ الذي تم تحقيقه في برتشكو خلال العام الماضي وتجلى في عملية اصلاح تشكيلات الشرطة وتنظيم السلطة المحلية المتعددة الاعراق وشروع اللاجئين بالعودة، وان كان ذلك بصورة بطيئة نتيجة المقاومة التي واجهته". قضية حساسة ازاء هذه الحال ظلت برتشكو احدى اكثر القضايا حساسية في البوسنة، والى حد صار يعتبر الحصول عليها بالمفهوم البوسني انتصاراً في الحرب التي ارادت لها الاطراف الدولية ان تتمخض من دون غالب او مغلوب، قياساً بالاعراف الحربية المعروفة. وينظر المسلمون الى برتشكو على انها "رمز لقساوة الحرب التي فرضت عليهم" وحلقة وصل لها اهميتها الكبرى في التطوير الاقتصادي للمنطقة بفضل مكانة مينائها الواقع على نهر سافا ويربطها بالطرق المائية الاوروبية الرئيسية. لكن الصرب يصفون هذه الامور ب "الذرائع المبيتة للقضاء على القسم الغربي من الجمهورية الصربية من خلال فصله عن الشطر الشرقي والاراضي الصربية الاخرى" ويردون على الجوانب التاريخية والسكانية للمدينة قبل الحرب بأنه "حتى لو صحت هذه الادعاءات، فهناك مدن عدة تفوقها في هذه الامور للاطراف الثلاثة، اصبح وضعها في خرائط التقسيم واقعاً في الكيان المعاكس لحقيقتها ما قبل الحرب، ما يدفع الى التساؤل عن سبب الاصرار على استثناء برتشكو، في الوقت الذى جرى اعطاء مدينة مسلمة واحدة غوراجدا ممراً واسعاً يحافظ على ارتباطها بجميع انحاء كيان الاتحاد الفيديرالي الذي تنتمي اليه، في حين تجري المحاولات لسلب حق مثل هذا الممر الرابط عن عشرات المدن الصربية ومن بينها عاصمة كيان الجمهورية الصربية واكبر مدنه بانيالوكا". ويسود الاعتقاد على نطاق واسع، ان يكون التأجيل المتواصل يستهدف اشاعة الملل الذي يؤدي الى الابقاء على الامر الواقع الذي يلازم استمرار برتشكو ضمن خريطة الكيان الصربي باشراف دولي لفترة من الوقت، ومن ثم تكريس حالها ضمن اراضي الصرب، ولعله السبب الذي جعل تظاهرات المسلمين تحتشد في ساحات ساراييفو ويخطب فيها الرئيس علي عزت بيغوفيتش وغيره من المسؤولين المقربين منه، اضافة الى نشاطات ولقاءات مكثفة للمسلمين، خصوصاً مع اصحاب القرار في البيت الابيض والكونغرس والمسؤولين الاميركيين في البوسنة، في الاسابيع التي سبقت قرار التأجيل. لكن كل ذلك لم يفد، لأن السياسة علت على الحق، وعروض الولاء لم تنفع امام ضروب المصالح، كما قوّم المسلمون الوضع، لكنّهم اكدوا ان الامل لم يتبدد ما دامت الطريق لا تزال مفتوحة. ودعا الصرب الى استمرار التخلي عن التشدد، ما دام ذلك مطلوباً من اجل برتشكو، سواء كان في غضون عام وفق ما نص اتفاق دايتون، او ثلاثة اعوام كما تبين الآن، حتى اكثر لو ارتأى الاميركي روبرت اوين.