احتفل الآشوريون منذ آلاف خلت من السنين، وما زالوا، بعيدهم القومي "اكيتو" في الأول من نيسان ابريل رأس السنة الآشورية، واحتفل معهم الأقوام الأخرى المتأثرة بمختلف مناحيهم ومنها اعتمادهم التقويم الآشوري الذي ما زال متداولاً إلى يومنا هذا. كان لطبقة من البابليين البابليون والآشوريون شعب واحد متحدر من الأكديين، تركز الآشوريون في شمال بلاد ما بين النهرين والبابليون في جنوبها ولع كبير بالنجوم والكواكب وقراءة أسرارها. وكانت هذه الطبقة تسمى بالكلدان، أي المنجمين أو الفلكيين. والكلدنة هي التنجيم أو الفلك باللغة الآشورية القديمة. وكان للملوك الآشوريين والبابليين اهتمام خاص وكبير بالفلك والنجوم والكواكب، إذ كانوا يعتقدون بدورها في معرفة المستقبل وكشف خفاياه، فنال المنجمون الكلدان حظوة كبيرة لدى ملوكهم. ويمكننا التثبت من حقيقة انتشار العمل بالتقويم الآشوري من خلال الرقم الطينية المكتشفة هنا وهناك أو الكتب القديمة التي وضعت قبل الميلاد. فإن كانت صعبة المنال أو ليست في متناول اليد، فيمكننا الحصول وبسهولة على نسخة من العهد القديم وتذكر فيه تواريخ الأحداث نسبة إلى السنة الآشورية التي تبدأ من شهر نيسان وتنتهي بنهاية شهر آذار مارس. استنبطت فكرة الاحتفال برأس السنة الآشورية قديماً من ملحمة الخليقة أو "الاينوما اليش"، وهي أولى الكلمات التي تبدأ بها الملحمة وتعني "حينما في العلى" كتبت حوالى 2000 سنة ق.م، كذلك من ملحمة عشتار وتموز المعروفة. كانت الاحتفالات بعيد رأس السنة تستمر لاثني عشر يوماً متتالية تمارس فيها فعاليات مختلفة يشارك فيها الشعب عموماً، وكذلك الملكة وطبقة الكهنة. وما يهمنا هنا هو اليوم الخامس من الاحتفالات حين يمارس الملك دوره في التمثيلية التي تتطلب منه الاختفاء، فتتم تنحيته من منصبه من قبل الكاهن الأعظم لتصبح البلاد بلا ملك ولا حكومة. حينها تعم الفوضى والمشاكل وعدم الاستقرار نتيجة لغياب دور الحاكم أو الملك في تسيير شؤون البلاد وضبط الأمن والنظام، ولكن سرعان ما يعود الملك عند المساء ليعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي، فيستتب الأمن والاستقرار في البلاد كأن الشعب عاش في كذبة حقيقية وفي وضع يستخلص منه العبر والدروس. إن هذه الكذبة "التمثيلية" المأخوذة طبعاً من أحداث الملحمة المشهورة "حينما في العلى" تبين بجلاء دور الملك في الحياة. فهو المنظم والمسيّر لأمور البلاد، ومن دونه تدب الفوضى والانفلات في جوانب الحياة كافة. وهذه اللعبة "الكذبة"، كذبة عدم وجود الملك واختفائه، تحولت بمرور الزمن وعوامله ومؤثراته إلى أن وصلت إلينا في يومنا هذا بالشكل الذي يمارسه الناس وبمختلف ثقافاتها وفي أصقاع الأرض كافة. إنه يوم ليس كباقي الأيام حين تخرج الناس عن عاداتها وروتينها المعهود، فيكون الكذب سبيلها إلى تغيير نصاب الأمور بالكلام عن أحداث لم تحدث واقناع الآخرين بأمور بعيدة عن تصورهم. فغياب النظام أو الروتين وتغيير الأحداث الطبيعية لمجرى الأمور اليومية هما المقصود بهذه الكذبة، وهي نفسها التي كانت تمارس باحتفال يشارك فيه الملك وشعبه في خامس أيام الاحتفال برأس السنة الآشورية. ومن سخرية الأقدار أن يحتفل العالم أجمع ب "كذبة نيسان" التي هي إحدى فعاليات الاحتفال برأس السنة الآشورية، بينما لا يعرف معظم من يحتفل ويمارس "الكذب" في هذا اليوم أي شيء عن أصل هذا الاحتفال ومصدره. وفي ما يخص الآشوريين أنفسهم، فهم ما زالوا يحتفلون بهذا اليوم ضمن احتفالاتهم بعيد رأس السنة الآشورية التي هي عيدهم القومي في مناطق وجودهم وانتشارهم في أرجاء شاسعة من العالم. ويتميز اليوم الأول بمشاركة أعداد كبيرة منهم في مسيرة جماهيرية وموكب كبير يشمل العربات المزيّنة وبأشكال وتصاميم مستنبطة من تاريخهم العريق بما يحمله من معانٍ عميقة ومتجذرة فيهم، تلك المسيرة الراجلة التي تشبه إلى حد ما الموكب الضخم الذي كان يعبر بوابة عشتار أيام عظمة الامبراطورية الآشورية. ومن ثم يتم تنظيم احتفالات ضخمة تتخللها فعاليات مختلفة عدة، وكما هي العادة منذ قرون يقوم الناس بوضع باقة من العشب الأخضر على أبواب ومداخل بيوتهم دلالة على قدوم الربيع وتعبيراً عن الخصب والخير والازدهار في السنة الجديدة حينما تلبس الأرض حلتها الخضراء الجديدة. ومن الشعائر الأخرى التي استنبطت من احتفالات رأس السنة، اليوم العاشر الذي هو يوم زواج الملك آشور من عشتار حسب قصة الاينوما اليش، وقد أصبح التعبير عنه في أيامنا هذه باحتفالات الزواج الكثيرة التي تقام في هذا اليوم في القرى الآشورية التي ما تزال عامرة في شمال العراق خصوصاً وأخرى في سورية وتركيا وإيران. واعيد الاحتفال رسمياً في شمال العراق بيوم الأول من نيسان، ويقام لمدة اثني عشر يوماً متتالية، فيستهل اليوم الأول منه بمسيرة راجلة تنطلق منذ الصباح الباكر بمشاركة ألوف الآشوريين، ثم يتم التجمع في إحدى الساحات الواسعة المفتوحة، فتبدأ الاحتفالات والفعاليات معلنة بداية السنة الجديدة التي تناسب العيد العريق الذي يتجذر في أعماق التاريخ ويرمز لبدء الخليقة. كما تبدأ الأرض بالتزيّن بحلة خضراء وبازدهار رائع، معلنة بداية دورة جديدة للحياة. وتخصص الأيام التالية لنشاطات رياضية واجتماعية تتمحور حول هذه المناسبة العريقة، معيدة إلى الأذهان ما كان يدور في تلك الأيام الاثني عشر، لتكون أهم وأطول مناسبة يتم الاحتفال بها كل عام، وترمز لحياة هذا الشعب العريق الذي لا يزال يصارع ويقاوم من أجل الحفاظ على هويته المتميزة التي يفتخر بها والتي يجب على الجميع العمل من أجل الحفاظ عليها لما لها من أهمية وتأثير على المدى الإنساني بمختلف توجهاته.