من المعروف ان العالم العربي انقطع عن تطور الفنون الجميلة الذي استمر في أوروبا لأكثر من اثني عشر قرناً من الزمان. وأخذت الفنون في العالم العربي وغيره من دول العالم الإسلامي تأخذ اتجاهاً خاصاً تبلور في مدارس متميزة، وهذا الاتجاه هو ما نعنيه بمصطلح الفن الإسلامي طوال هذه القرون. وفي إطار هذا الفن اختفى الرسم والتصوير والنحت بأشكالها الأوروبية من أنواع الفنون في العالم العربي، وحتى عاودت الظهور من جديد مع المستعمرين الأوروبيين فرنسا وانكلترا الذين بدأوا في غزو العالم العربي منذ نهاية القرن الثامن عشر. إلا أن العرب أنفسهم لم يبدأوا في ممارسة هذه الفنون إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومن المنطقي أن التأريخ والنقد تاليان للإبداع. ومن هنا فإن السؤال هو: هل عرف العرب تأريخ أو نقد الفنون الإسلامية قبل القرن العشرين؟ حدث فعلاً نوع من الحديث عن الفنون الإسلامية - وليس التأريخ أو النقد - على فترات متفاوتة. و نذكر ملاحظتين في هذا الصدد: الأولى: أن ذكر الفنون الإسلامية، وغيرها من فنون الحضارات الأخرى التي عرفها المسلمون خصوصاً الإيرانية والهندية، ورد متناثراً في كتب التراث، وكتب المؤرخين المسلمين الاوائل. وهي كتب لم تخصص لتأريخ الفن أو الكتابة عنه مثل كتاب ياقوت الحموي "معجم البلدان"، وكتاب "الاغاني" لأبي الفرج الاصفهاني وغيرهما. الثانية: ذكرها العلامة أحمد تيمور باشا في مقدمة كتابه "المهندسون في العصر الإسلامي" بقوله: "وإنما ضاعت علينا ثمار هذه الجهود بالزهد فيها والرغبة عنها بعد تقهقر العلم بالمشرق، وقصر الاشتغال على فروع معلومة منه، حتى بلغ الأمر ببعض منتحليه الى القول بكراهة النظر في كتب التاريخ، لأنها في رأيه أحاديث ملفقة وأكاذيب منمقة. فما الذي كان ينتظر بعد هذا سوى أن تحول هذه النفائس الى مسارح للعث في الخزائن، أو لفائف للحلوى في الأسواق. بل ليس لنا أن نقول: ألفوا ولم يؤلفوا بعد ما رزئت خزائن الشرق والغرب بمن جعلها طعمة للماء والنار، وفيها جمهرة ما أنتجته العقول في العصور الإسلامية"1. ومعنى كلام أحمد تيمور هو أن التخلف الذي عاش فيه العالم العربي أثّر في علم التاريخ نفسه لفترات طويلة فأضعفه، وأن التخلف أيضاً أضاع علينا ما قد يكون المؤلفون قد ألفوه فعلاً. والدليل على كلام العلامة تيمور هو أن المقريزي في خططه يشير الى كتاب مدهش العنوان اسمه "ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس". لكننا لم نعثر لهذا الكتاب على أي أثر. ومن الأرجح أن المقصود بالمزوقين هم الرسامون أو المصورون بالمصطلح الحديث. وتُقابل الباحث عن الظروف التي ساعدت في نشأة التصوير الإسلامي صعوبة نتجت عن عدم وصول مخطوطات مصورة ترجع الى اوائل العصور الإسلامية. إذ على رغم ما يذكره بعض المصادر الأوروبية والتاريخية عموماً عن وجود مخطوطات مصورة من القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، فإن ما وصل إلينا نقلاً يرجع إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، مع ملاحظة أنه وصل الينا بعض أوراق بردي مصورة من القرنين التاسع والعاشر الميلاديين عثر عليها في بلدة الأشمونين في مصر وهي محفوظة الآن في متحف فيينا ضمن مجموعة الأرشيدوق رينر، وهي من القلة، إذ لا يتجاوز عددها أصابع اليد، بحيث لا تجدي نفعاً. ويرجع السبب في فقد هذه المخطوطات إلى عوامل عدة: أولها ما أشيع عن عداوة الإسلام للتصوير. وهو، وإن كان لم يمنع الإقبال على التصوير، إلا أنه كان يحد من نشاط الفنانين في أوائل العصور الإسلامية، كما كان يدفع بعض الأشخاص الى إتلاف المخطوطات أو على الأقل تشويه الصور الموجودة بها. وثاني هذه العوامل هو كثرة النفقات والأموال التي تستلزمها هذه المخطوطات، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الأمراء وأصحاب الثراء. وهذا العامل من شأنه أن يقلل من كمية المخطوطات في أوائل العصور الإسلامية عندما كان السلطان ينحصر في الأسرة الحاكمة. علماً أن الأسرات الحاكمة لم تكن تعددت، كما حدث في العصور الوسطى مثلا، وتنافسَ الحكام في ما بينهم في مضمار الفنون. وثالثها الحالة الجوية متمثلة في الحرارة الشديدة والأمطار والحشرات... كل هذه تؤدي إلى تلف المخطوطات، إذ لم توجد العناية الكافية لحفظها وصيانتها. ورابعها الحرائق التي كانت تشب في المكتبات فتلتهم ما فيها من مخطوطات وغيرها. مثل الحريق الذي شب في المكتبة الساسانية العام 998 م. أو تخريب تلك المكتبات على يد الأمراء والحكام نتيجة للنزاع، كما فعل السلطان محمود في المكتبة البويهية في مدينة الري العام 1029م. و أخيراً التخريب الذي أصاب العالم الإسلامي من جراء غارات المغول وما حدث في بغداد العام 1258م. وعلى رغم الكتابات المتناثرة عن فنانين أو أعمال فنية كالتي استشهدت بها هنا، أو تلك التي استشهد بها الباحث شاكر لعيبي في مقاله المهم في جريدة "الحياة" عدد 2 شباط/ فبراير 1998، فإنها لا تسمح لنا بالقول إن المسلمين أرخوا للفنون التشكيلية قبل القرن العشرين. على نقيض ما حدث في الحضارة الأوروبية وفي تأريخ فنونها. يؤكد ذلك ما يلي: 1- أنه على رغم الجهد الكبير الذي بذله العلامة أحمد تيمور باشا في كتبه التي ضمَّنها فصلاً خاصاً لأسماء المصورين العرب، فهو لم يستطع تسجيل أكثر من 32 اسماً على مدى القرون السابقة. ولا يمكن بالطبع أن يكون هذا العدد هو فقط عدد المصورين العرب عبر حوالي ثلاثة عشر قرناً. ويقول الدكتور زكي محمد حسن ان في المصادر التاريخية والأدبية وعلى التحف والآثار أسماء مصورين لم يذكرهم أحمد تيمور، وجاء ذكر بعضهم في ما نُشر له من دراسات في الفنون الإسلامية، فضلاً عمّا كتبه المتخصصون في هذا الصدد. ويرجع ذلك الى أن تيمور اعتمد على كتب الأدب والتاريخ في استخراج اسماء من ذكرهم من المصورين. وأورد تيمور باشا عن معظم الاسماء التي أوردها معلومات بسيطة جداً لا تزيد عند بعضهم على سطرين فقط. مثلاً، يقول عن مرشد بن محمد المعروف بابن المصري إنه "أجاد صناعة التذهيب وغيرها، وكان موجوداً سنة 894ه". ويذكر عن محمد الدمشقي أن "له بدار الآثار لوحاً من القيشاني عليه صورة مكة والكعبة صورها سنة 1139 ه وكتب عليه اسمه". وأطول الفقرات في ترجمة المصورين كتبها أحمد تيمور عن اثنين: ابن العميد وفاضل بن علي. 2- ان كل الكتب التي أرّخت للفنون الإسلامية استندت الى كتب التراث في معلوماتها، ولم يكن مؤلفوها معنيين بتأريخ الفن وترجمة حياة الفنانين، بل أتى ذكرهم عرضاً وشديد الاختصار. 3- ان كل كتب تأريخ الفن الإسلامي التي وضعها مسلمون نشرت بعد بداية القرن العشرين. 4- يضاف الى ذلك أن هذه الكتب تحدثت عن الفنون وبخاصة في ايران والهند وتركيا. وكان نصيب الفنون العربية أو الإسلامية في المنطقة العربية حالياً قليلاً ويكاد ينحصر في كتاب احمد تيمور "التصوير عند العرب". يقول الدكتور زكي محمد حسن في تصديره لهذا الكتاب إنه من "المعروف أن التصوير في العصر الإسلامي كان أكثر ازدهاراً بين الشعوب الإيرانية والهندية والتركية، فلم يظفر العرب منه إلا بنصيب محدود، ولكن المؤلف وقف في كتابه هذا عند الناطقين بالضاد ليدحض قول القائلين بقصور العرب في هذا الفن البديع" ص1. ويضيف: "أكبر الظن أن العرب لم يعرفوا التصوير على الجدران في الجاهلية إلا في بلاد اليمن، وفي الأقاليم المتصلة بالروم والفرس كالحيرة وأرض الغساسنة والنبط، ثم في مكة نفسها حيث كانت تلتقي التيارات المختلفة، ويجتمع العرب المتأثرون بما رأوه في أسفارهم ورحلاتهم التجارية. ولكن ما وصل إلينا من الصور والتزاويق على جدران العمائر العربية في العصر الجاهلي هو نادر جداً" ص177. ويتابع قائلاً: "أما بلاد العرب الشمالية فإن الصور التي نعرفها من العصر الجاهلي فيها معظمها نقوش محفورة في الحجر، صفوية وثمودية ونبطية، تمثل رسوم آلهة ورسوماً آدمية ورسوم حيوانات كالجمل والحصان. على أن جُل الآثار الفنية في بادية الشام وحوران وبلاد الجزيرة قبل الإسلام تتبع الطرز الفنية التي ازدهرت على يد البارثيين والساسانيين، أو على يد أهل الشام المتأثرين بالثقافة الفنية الهلينية. فلا يمكننا أن نحسبها من منتجات العرب في العصر الجاهلي" ص 118، 119. بل ويقول الدكتور حسن: "يدل تاريخ الساميين عموماً على أنه لم يكن لشعب منهم فنون تصويرية، اللهم إلا إذا قامت على أكتاف شعوب أجنبية. فالبابليون مثلا قامت فنونهم على يد السومريين، أما الاشوريون فكان مصوروهم من القبائل التي أخضعوها في شمال بلاد الجزيرة، واليهود لم تكن لهم فنون تصويرية خاصة بهم" ص 136. 5- إن دراسة الفنون والآثار الإسلامية لم تكن ناضجة في مصر حين كتب تيمور باشا كتبه، أي في بدايات القرن العشرين وليس قبله. وحتى هو نفسه - على رغم جهده - لم يكن، كما يقول الدكتور زكي محمد حسن، أخصائياً وثيق الصلة بالدراسات الأثرية في الغرب... ما دفع الدكتور زكي الى التوسع في التعليق على كتاب "التصوير عند العرب" وتوضيحه بالصور. فبلغت تعليقاته وشروح الصور 150 صفحة. 6- إن كل الكتب التي ورد فيها ذكر لأعمال فنية في الدول الاسلامية سواء من كتب التراث الإسلامي أو تلك التي نشرت في النصف الاول من القرن العشرين لم تقصر الحديث على فنون التصوير والنحت، بل تحدثت عن زخرفة الثياب والأواني والنقود ورسم المخطوطات وتذهيبها، وغير ذلك2. إن التأريخ الحقيقي الذي قام به العرب سواء للفنون الاسلامية أو لغيرها من الفنون بدأ بعد بدايات القرن العشرين. بل يمكن القول إنه ازدهر في النصف الأول من هذا القرن وخبا بعد ذلك، ولذلك حديث آخر بإذن الله. هوامش 1- أحمد تيمور "المهندسون في العصر الاسلامي" لجنة نشر المؤلفات التيمورية، دار نهضة مصر للطبع والنشر- القاهرة ص12. 2- أحمد تيمور باشا "التصوير عند العرب" لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة 1942، ص 213