ألم الشاعر عباس بيضون يؤلم حقاً، وكلماته حادة تخترقك بنفاذ أسلاك دقيقة تخزك بين عينيك كي تصل الى دماغك، محدثة ضربات صغيرة تشبه صعقات شحنات كهربائية تسبب ألمها المعتاد. ألمه كما يفعل الجرح الذي لا يزال حياً في أيام باردة. والسؤال ما الذي يجعل الشعر شعراً؟ هل هو انغلاقه على نفسه مثل دائرة أو فقاعة، أم مقدرته على جرحك بجرحه، أم اصراره على تمويه هذا الجرح؟ عالمه من الإشارات ومن الطقوس عالم تراجيدي يجعل الآلهة الاغريق يفترشون الأيام كأنها دروب. كما انه عالم سحري تغيره الكلمات التي تنقص أكثر من تلك الحاضرة. انه السحر بالمقلوب اذا كان السحر يعتمد على الكلام وعلى التلفظ به: "القتلة هنا لا يفعلون شيئاً، لكنك تعلم انهم يدفنون شيئاً في صمتهم، وان فقدان كلمة، في لغة سرية، يعني قبراً". عالم قاس: "يروح قلبي يطبع نبضاته براثن وأسماكاً". يزاوج القسوة بالألم، او انه يجعل من الألم سبباً كافياً لها: الكبرياء إذا جرحت لا تسيل دماً بل قسوة، لكن الألم يُصنع بوفرة ويُهرق على الجميع" القسوة أوالية للدفاع عن النفس، وهي تحدث لذة عند صاحبها عندما يكون سادياً، أو ألماً مماثلاً للذي تتسبب به عند من يكون مازوشياً وهي في هذه الحال كالنصل الحاد الذي يجرح من موضع انطلاقه أيضاً كما في موقع اصابته. تتحول عندها الى مرارة: "تنفض شيباً فوق الأزهار أو تحبس حية من الربيع الماضي ولا نسأل كم أبدلنا بلداناً بأحذية". قرأت عن الشاعر تيد هيوز: "ذلك الرجل الذي يخفي روحه خلف قناع صارم يضفي على هيأته مرأى بطل شرير في مسرحية تراجيدية"، ما جعلني أسأل: ماذا يخفي عباس بيضون خلف أقنعته اليومية؟ هل قسوة أم بحث عن مطلق غير موجود؟ أم تطلب مفتاح سحري لا يوجد سوى في ألف ليلة وليلة؟ بحث عن طلسم أو سحر يساعده على الهرب الى عالم دافىء حتى يطلب: "أعطيني يوماً أيتها الشجرة / اكسيني ريشك ايتها البجعة". ففي "ألف ليلة وليلة" ريش البجعة هو ما يساعد على التخفي في عالم مسحور، في عالم الجان بعيد المنال وهو أيضاً ما يستر العري ويحمي من الصقيع. "اجلس محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً". هذا الحضور الذي يتم الالتصاق به يجعل الوحدة أكثر ثقلاً ربما لشدة تطلب شيء جوهري لن يُطال يجعل غيابه من كل وجود غياب. تتحول الطبيعة نفسها مع عباس بيضون الى شيء نطوعه ونطويه، وربما أمتناه بسبب من ذلك: "أيتها الغيمة. منذ متى لا تشبهين الشِّعر. منذ متى نجدك في علبة كبريت بين العيدان الميتة". الطبيعة هنا لا تساعد الشاعر على الانطلاق أو على تهدئة المشاعر، بل العكس، تلتقط مشاعره هذه الطبيعة نفسها وتطعجها وتسجنها في علبة كبريت، تميتها كما العيدان الميتة. ذلك ان ما لا نستطيع انتزاعه مما بين العينين نقوم بسجنه وتحجيره. له قدرة على تحويل الأشياء وجعلها اقرب الى جماد إذا أمكن القول، وهي قدرة تطال ما يصعب الإمساك به وما لا يمكن حجزه مثل غيمة، فتحوله وتجعله شبيهاً بأشياء صلبة وجامدة. انه الضباب يسوق التلال الى القاعة الطبيعية محوّرة دائماً ومسجونة وأقرب الى ان تلفظ أوساخاً: "الأمواج كانت تبصق هناك، وفي الصباح هلال أبيض جاف حول أشياء خضراء، وبقع أو أيضاً كان الملح يقوى ويكبر والمحارة تتقلب في طمثها". توحي لي كلمة محارة بكل ما هو مغلق على سر لا يمكن البوح به لأنه يشبه بوح فيروز باسم من تحب، والذي سوف يتسبب مجرد ذكرها لاسمه بجعل الليلك يفوح بأريجه في الأنحاء. هذا المحار يتحول مع الشاعر الى محارة تتقلب في طمثها. هذه الكلمة "الطمث" تحمل ثقلاً في داخلها، لا أدري لماذا، ربما بسبب التربية الذي تجعل من هذه الكلمات رمزاً للنجاسة، لكني في معزل عن ذلك أجدها ثقيلة كما يمكن ان نقول ان فلاناً ثقيل الدم دون ان نعرف لماذا، ربما بسبب احرفها الثقيلة المجموعة قسراً أيضاً. ينتج عن ذلك صورة صدفة مدماة تتخبط في دمها ذاك وتتقلب كما على وجعٍ صافٍ، فتفقد كلمة صدفة سحرها المرتبط بلفظها ويختفي عنها تعبير Nacrژ الذي يلتصق في ذهني بهذه الصور التي تلتمع بخشية وخفر ما بين الزهري الخافت والرمادي: "لم تنتبه الموجة الى انها فقدت عُرفها وهي تقلب وعادت شهيقاً كان ذلك حين بات البحر عمقاً فقط". عندما نريد اعطاء المعاني بُعدها الأغنى نصفها بأنها عميقة، لكن العمق هنا يفقد هذه الصفة ويتحول الى شيء يُقصد منه ان يدلنا على ما هو صالح للغرق أو لأن نُفقَد فيه. يتحول الى ما يشبه الجورة. والموجة التي تعود أو تتحول الى شهيق فقط، أي التنفس المتعب والمحتقن، الذي لا يجلب الراحة بل يوحي فقط بالصعوبة البالغة وبالبحث عن التقاط حبات الأوكسجين. انه التنفس الذي يسبق الاختناق: "اولى بالأزهار ان تنتظر من ينحتها". ذلك انها أزهار فقدت شكلها وتحتاج الى من يعيدها الى هيأتها الأولى، لكنها سوف تبقى حجراً مع ذلك. لكن الأشياء الجامدة وحتى الجليدية، تتألم: "الآثار العاصية في الجليد تتألم" ربما ذلك كله بسبب الحياة التي تنفلت من بين الأصابع مع الإحساس الدائم أننا خارجها: "الحياة جارتي أو في هذه الحياة التي لا أمل في أن تعاش" مع انها في متناول أكثر الأشياء ابتذالاً: "من هذه الحياة التي تملأ الزقاق" وهي مع أنها تملأ الأزقة، أي رخيصة ومبتذلة، الا انها مستعصية وأبعد من أن تنال، ذلك ان ليس "هذه الحياة" هي التي يريدها الشاعر، فهذه لا تساوي سوى اليأس: "لا نسأل إذا كدسنا اليأس أو كدسنا الحياة". ما يريده واحدة أخرى ربما لم يعرف ان يوجدها لنفسه بعد. وان بحثنا عن سببٍ لهذه القسوة والخيبة سوف نجدها عند البشر أو المرأة تحديداً، وهو ذكرني بعنوان قصيدة لأدونيس في "الكتاب" الجزء الأول: "للنجوم الصداقة أين البشر؟ ليس كلامنا ولا غناؤنا للبشر لا لأحد قلت اسمكِ لا لاحد تركنا الرجاء سالماً كنا نقتل حيواناً لنكسب درة لكننا لم نقتل كلمة بضربة ولا شجرة يلزمنا لذلك صقيع طويل". قتل حيوان أسهل من قتل كلمة، الكلمات التي لن تموت، والتي نواظب على تخيل سماعها، إذ ان الصمت يصعّد كلماته "فيسمعها" من يريد ذلك مع أنه لم يفعل، لتخيل الكلمات هنا دور هام كما في رائز رورشاخ. وقتل إنسان أسهل أيضاً من قتل كلمة: "ما كان يبنغي أن أعيدك حية أو أرمي في ذيلك حجراً وأمضي... أيتها الخرساء... كلك نواة ولن تتركي لي فرعاً واحداً... أو يؤذيني عطرك...". في فيلم "مكان الجريمة" يقول الجد للابنة كاترين دونوف وهو يفتح علبة الصيد التي تخصه: انظري ماذا افعل بالذبابة التي تزعجني رامياً اياها بعيداً. ولكنني لا استطيع ان أفعل هكذا معكم، لذا اصمت فتعتقدون انني متسامح، لكنني لست كذلك. رغم اللاتسامح الذي تشي به الأبيات، الا ان الخيبة والشقاء سبب هذه القسوة وما يتبعها: "ما وُزن بالذهب كان قلباً" يستخدم هنا الشاعر تورية الذهب، للدلالة على قيمة ما فُقِد. شخصياً لا أجد في الذهب سوى معدن بارد أصفر ملتمع. لكن استخدامه ربما من أجل صفة ملتصقة بالذهب وتعطيه قيمته، وهي ثباته. المفارقة هنا ان الشاعر يستخدمه من أجل هذه الصفة ومن أجل نقيضها أيضاً، طالما انه تغير ونحا صوب الانتقام. ربما هذه صفة الانتقام المفارقة بحد ذاتها، والتي تعلن من أحب أنه تسبب لنفسه بخسارة أكثر الأشياء ثباتاً ودواماً، فكيف نخسر ما هو ثابت! او توقيعي كله يبدو عجوزاً مع انني كنت امنح نفسي. وهذا ربما بسبب علة المفارقات التي تحكم حياة البشر واللاتزامن المترافق مع التأويل السحري، او من فرط ما نتطلب من الحياة او نتوقع منها، الىأس الكثير يسبقه ربما امل اكبر منه، مع ان الشاعر يزعم العكس: كان يطلب ليحيا نفساً واحداً على سطح مكشوف. هناك طريقة يستخدمها عالم نفس بلجيكي اسمه موني، مفادها: "اذا كنت تحبني، لا تحبني" ان التأويل المتعلق بتاريخ كل شخص هو سبب أساسي لكل نزاع، كما ان التطلب الكثير هو سبب الخيبة الكثيرة.