رحل قبل أيام الشاعر والمفكر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث الحائز على جائزة نوبيل للآداب عام 1990، وجائزة ثرفانتيس التي تعتبر أكبر جائزة عالمية في الآداب المكتوبة باللغة الاسبانية - عام 1981، لكن تلك الجوائز لم تكن سبباً في شهرة هذا الكاتب والمفكر، لأنه لم يكن مجرد كاتب عادي يعيش في برجه العاجي ويكتب الاشعار ويلهث خلف الجوائز، بل يعتبر من أبرز المفكرين الذين عاشوا القرن العشرين وكان شاهداً ومشاركاً في الكثير من احداثه، ولم يفته اي حدث ثقافي او سياسي او اجتماعي جرى في هذا القرن الا وكان شاهداً عليه من موقع المشاركة، لأنه كان كاتباً ملتزماً بكل المعنى الذي يعنيه هذا التعبير، لأن قدره وضعه منذ بداية طريقه الأدبي في مختبر الالتزام، الذي كان يعتبر سمة النصف الأول من القرن العشرين. كان أوكتافيو باث شاهداً على الحرب الأهلية الاسبانية، ومشاركاً فيها كمقاتل في الجانب الجمهوري الذي كان يناضل ضد الفاشية، تلك الحرب التي يعتبرها كتاب اميركا اللاتينية اكثر أهمية من الحربين الكبريين، الحرب الكونية الأولى والثانية، بعد ان جمعت الصفوف الجمهورية ابرز الاسماء التي عرفها الفكر في القرن العشرين، شارك اوكتافيو باث في هذه الحرب الى جوار اندريه مالرو وبابلو نيرودا، وأندريه بريتون، وغيرهم من أبرز الكتّاب والفنانين الأوروبيين الذين اعتنقوا الفكر اليساري، ورأوا ان الكتابة وحدها لا تكفي للمشاركة في حركة تغيير المجتمع. ثم كان الشاعر المكسيكي شاهداً ومشاركاً في ميلاد الحركة "السريالية"، بل كان من ابرز الموقعين على بيانها الأول مع اندريه بريتون، خاصة لو أننا تذكرنا ان هذا "المانفستو" او "البيان" صدر في المكسيك، ثم قاد اوكتافيو باث العديد من المجلات الادبية التي حاولت ان تجعل من الاندماج ما بين فعل الكتابة والواقع الفاعل شيئاً واحداً، فعاش سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية في باريس، وحاول ان يكون مشاركاً في اعادة بناء اوروبا الجريحة في تلك الحرب. ثم قاده قدره ليكون سفيراً لبلاده في عدد من الدول، وعندما كان يقوم بعمله في الهند كسفير لبلاده هناك فاجأته الحركة الطلابية الشهيرة، المعروفة باسم "ربيع 1968"، تلك الحركة الشبابية التي امتدت الى جميع انحاء العالم، مطالبة بعالم افضل وأكثر عدالة، وراح لها ضحايا كثيرون، منهم طلاب جامعة المكسيك الذين سقطوا ضحايا لرصاص البوليس، مما دفع اوكتافيو باث الى الاستقالة من منصبه كسفير لدى الهند احتجاجاً على القمع الذي مارسته حكومة بلاده ضد الطلاب. بعدها قرر اوكتافيو باث ان يستمر في التزامه تجاه القضايا العامة، التي وجه اليها اكثر نشاطه، وتفرغ لادارة العديد من المجلات التي واكبت حركة الواقعية السحرية في اميركا اللاتينية، وقام بالقاء المحاضرات في العديد من جامعات العالم، وأصبح اسمه يتردد في قاعات الدرس، وتحول ادبه وحياته الى مادة للعديد من اطروحات الدكتوراه. يمكننا أن نؤكد ان هذا الشاعر كان من ذلك النوع الموسوعي الذي يندر ان نجد مثله حالياً في لغة اخرى، لأنه كتب الشعر والدراسات النقدية الادبية، والتاريخية والسياسية، ومن اجمل كتبه التي صدرت مؤخراً كتاب "اللهب المزدوج" الذي يعتبر من اجمل ما كتب في فلسفة الحب والشهوانية، ويلقي الضوء بشكل موسوعي على جانب هام من اهتمامات هذا الكتاب. كتاباته السياسية كانت الجانب الذي لم يفلت فيه اوكتافيو باث من الانتقادات الحادة في الفترة الاخيرة من حياته، وربما كانت آراؤه خلال السنوات العشر الاخيرة فيها الكثير من العودة عن الافكار التي اعتنقها دائماً، كان طوال حياته مفكراً يسارياً، يرى في السياسة وأنشطتها أدوات لتطوير الانسان والتأكيد على عدالة تلبية احتياجاته، كان من ابرز مؤيدي الحركات الثورية في اميركا اللاتينية باعتبارها حركات نشأت لتلبية حاجة شعوب تلك المنطقة الى الحرية والحياة بكرامة حقيقية، خاصة الثورة الكوبية التي كان يدعمها بكل افكاره، الا ان مع التحول الذي حدث في الغرب في السنوات الاخيرة باتجاه الليبرالية السياسية التي تواكبها الليبرالية الاقتصادية المدمرة، تحول اكتافيو باث الى عدو للثورة الكوبية، وصفق كثيراً لسقوط "حائط برلين"، واعتبر الكثير من زملائه وأصدقائه تلك الآراء تراجعاً يشبه ذلك الذي يصيب الانسان في سنوات الشيخوخة، ثم كانت سقطته الكبرى عندما أعلن صراحة تأييده لقمع حركة "الجيش الثاباتي" التي انطلقت في منطقة "تشياباس" المكسيكية، وأيد قمعها واتهم زعماء تلك الحركة بالعمالة للخارج في وقت كان يعرف فيه انه لم يعد هناك احد في الخارج يمكنه ان يحرك ثورة او تمرداً بعد ان سقط الاتحاد السوفياتي وغرقت مخلفاته في حروب داخلية، تأييد اوكتافيو باث لقمع حركة تشياباس وضعه في موقف لا يحسد عليه، وتعرض بسببه الى انتقادات لاذعة من عدد من كبار الكتاب في المكسيك في مقدمتهم الكاتب المعروف "كارلوس فوينتس" الذي اتهمه بالتراجع امام تقدم الفاشية الجديدة. رغم كل ذلك فان اوكتافيو باث يبقى في موقع مهم من الحياة الفكرية العالمية، لأن تلك الآراء التي تعرض بسببها للنقد العنيف، لا تستطيع ان تنكر عليه دوره الادبي والفني، ولا تستطيع ان تمحو بصماته التي تركها في الأدب العالمي اجمع. ولد عام 1914، درس بالجامعة الوطنية بالعاصمة المكسيكية وحصل على شهادات مختلفة، ثم عمل في السلك الديبلوماسي في عواصم عالمية مختلفة، وتولى منصب سفير بلاده في فرنساوالهند. نشر اشعاره ودراساته النقدية منذ عام 1938 في العديد من المجلات الأدبية، وشارك في انشاء الحركة السوريالية عندما كان في باريس عام 1945، وكان صديقاً لأندريه بريتون. من أهم أعماله الشعرية: القمر البري 1933 جذور الانسان 1937 تحت ظلك الأبيض وقصائد اخرى عن اسبانيا 1937 الماء والريح 1959 العودة 1976 اللهب المزدوج 1993.