ما الذي فعله "بول جونسون" بالرموز الثقافية الكبيرة: جان جاك روسو، برتولد بريشت، كارل ماركس، إرنست همنغواي، هنريك إبسن، برتراند رسل، ليو تولستوي، جان بول سارتر، شلي؟ لا يبدو السؤال منصفاً على هذا النحو، السؤال الصحيح هو: ما الذي فعله هؤلاء بالناس؟ لماذا هذا التناقض بين أفكارهم وسلوكهم، بين ما دعوا إليه وما عملوه؟ بول جونسون الناقد الانكليزي، الذي عاصر بعضهم كشف التناقض وعرّى الصورة ونقلها بلا رتوش، مستنداً إلى اعترافاتهم ومذكرات القريبين منهم: زوجاتهم، عشيقاتهم، أبنائهم، رفقائهم. وهكذا تبدى لنا أن أصحاب الأفكار العظيمة التي أثرت في مسيرة القرن العشرين كله وأحدثت تحولات مهمة في المسيرة الإنسانية، ليسوا سوى أفاقين وانتهازيين وكذابين وشهوانيين ومرتزقة. الأهم، أنهم جميعاً ناقضوا أفكارهم، ومارسوا ضدها إلى حد ابتذالها، وباستثناء تولستوي، الذي تنازل عن أرضه لفلاحيه وسعى الى تعليمهم، فإن أياً منهم لم يقدم برهاناً عملياً على صلاحية أفكاره للتطبيق، وجميعهم، بمن فيهم تولستوي نفسه، يشتركون في احتقارهم للمرأة والهوس الجنسي الذي لا حد له، حتى ان تولستوي يشكو من شهوته بعد سن الثمانين، والتي وصلت على حد قوله إلى "درجة المرض". كتاب "المثقفون" لبول جونسون نقله الى العربية طلعت الشايب وصدرت الترجمة عن دار شرقيات في القاهرة. و"الشيزوفرينيا" هي الفرضية التي سعى جونسون الى إثباتها، وكذلك إسقاط هؤلاء المثقفين للإنسان الفرد من حساباتهم بزعم انحيازهم للأفكار العظيمة ومجد البشرية، ودوسهم القيم النبيلة التي بشروا بها، سعياً وراء مجدهم الشخصي. وهكذا سقطوا في الإدعاء والخداع. بريشت مثلاً، كان يقضي ساعات يلطخ جسده وأظافره بالطين كي يبدو بالنسبة الى العمال كواحد منهم، فينطلي عليهم خداعه، وماركس داعية الاشتراكية الأعظم، لم يدخل مصنعاً في حياته وعاش وأسرته عالة على صديقه إنجلز، أما الفيلسوف الوقور برتراند رسل، فكان "يطارد أي شيء داخل تنورة". فيما عاش روسو ممزقاً بين "جشعه الشديد للمال، واحتقاره للثروة". معلومات من هذا القبيل تطالعنا- وتصدمنا- في هذا الكتاب، الذي يتعرض بالتحليل لسير مثقفين علمانيين، وأكثرهم من ذوي ميول اشتراكية والشيوعية صريحة، ربما حتى قبل بروز الماركسية كأيديولوجية. الملاحظة الثانية، أن الكتاب ليس "فضائحياً" وإن كان "صادما"، فهو دراسة حالة عن حدود التماثل والتباين بين الفكر والسلوك، يستبدل فيها المؤلف نزع الأقنعة بتثبيتها، من دون أن يبخس أيا منهم حقه كمبدع، باستثناء حالة المسرحي الألماني بريشت، الذي اعتبره لص أفكار بأمتياز، نقل عن همنغواي وشلي وكيلخ وغيرهم، من دون أن يغمض له جفن. من ناحية ثالثة، فإن جونسون لم يطلق الكلام على عواهنه أو يتهم من دون سند، ونظرة سريعة إلى كم المراجع التي استخدمها تؤكد صدقيته. عن "كارل ماركس"، يقول جونسون ان عدم كفاءته في التعامل مع المال، كانت أحد أسباب إحباطه وغضبه الشديد، وماركس الذي نادى دائماً بحقوق العمال وسيادة البروليتاريا، لم يدخل مصنعاً في حياته، ولم يعرف هؤلاء الذين تحدث باسمهم أبداً عن قرب. وإلى جانب الأوصاف التي نقلها عنه رفقاؤه: قذر، هجين، قط، قرد، متعجرف، راشح بالازدراء، له عينان ضيقتان مليئتان بالشر، ينفث حمماً من نيران شريرة، عنيف وقاس. يلتفت المؤلف إلى سلوكه الذي جاء متناقضاً مع ما بشرت به فلسفته، في عبارات نقلها عن بعض رفقاء ماركس: - كان يكرس معظم وقته لجمع ملفات مفصلة عن أعدائه وخصومه السياسيين، ولم يكن يتردد في إيصالها الى الشرطة لخدمة مصلحته. - لم تكن آراء ومشاعر الآخرين ذات قيمة وأهمية بالنسبة إليه أبداً، كان يدير بمفرده أي مؤسسة يعمل بها. أما صاحب العقد الاجتماعي جان جاك روسو فلم يكن سوى زير نساء، مازوشي، "أن تنام عند قدمي سيدة مهيبة، أن تطيع أوامرها، أن تطلب منها العفو، كل ذلك كان متعة فائقة بالنسبة إلي". ويقول أيضاً في "الاعترافات: أحد تناقضاتي الواضحة، هي الجمع بين الجشع الشديد والاحتقار الشديد للثروة". ويقول عنه المؤلف: كان مثل المحارب القديم، المحتال المتمرس، الذي يسلب الآخرين بعد أن يكسب ثقتهم. ويقول عنه صديقه ترونكين: كان روسو أول مثقف يعلن عن نفسه مراراً وتكراراً أنه صديق للبشر جميعاً، ولكن مع هذا الحب العام للبشرية، كان لديه ميل شديد للخصام والشجار مع الأفراد من البشر. وفي رأي المؤلف، كان روسو خبيراً ممتازاً في الدعاية لنفسه، سواء بوعي أو من دون وعي: أطواره الغريبة، فظاظته الاجتماعية، تطرفه الشخصي، حتى شجاراته، كل ذلك كان يجذب نحوه قدراً كبيراً من الاهتمام، وبينما كان يتظاهر بالعفوية، فقد كان حذراً وماكراً. ثمة ملمح مهم آخر في سيرة روسو، هو ميله الشديد للنساء، يقول في "الاعترافات": "عاملات الخياطة والبائعات والخادمات لسن مرادي، بغيتي صغيرات السن". وفي وقت كان يردد باستمرار أن في قلبه متسعاً لكل آلام البشر، وأنه الأكثر رقة وعطفاً بين الناس جميعاً، فإنه لم يعط لأي من أبنائه الشرعيين حق أبوته، رفض الاعتراف بهم ووضعهم في مستشفى للأطفال اللقطاء، مبرراً ذلك بأنه جزء من فلسفته التي ترى أن الأطفال هم أبناء الدولة!؟ وفي رأي المؤلف، كان الارتباك الذي أحاط بأفكار روسو السياسية، أحد أسباب الاهتمام بها. روسو الذي قال عنه تولستوي أنه والإنجيل كان لهما أكبر الأثر في حياته، قال عنه كلود ليفي شتراوس في مقدمة كتاب "أحزان إستوائية": سيدنا وأخونا، كل صفحة من هذا الكتاب كان يمكن أن تهدى لك، لولا أنها لا تليق بذكراك العظيمة. والذي وصفه "كانت" بأنه "كانت لديه حساسية روح كمالها لا يضارع". روسو الذي يجد كل هذا التقدير من هؤلاء وسواهم، لخص أحد الاكاديميين شخصيته في سطور، يقول عنه: مازوكي، محب للمظاهر، مصاب بوسواس مرضي، ممارس للعادة السرية، شاذ جنسياً شذوذ كامن، لحوح، عاجز عن الحب الأبوي، شديد الارتياب في الآخرين، نرجسي، شديد الإنطواء، يملأه شعور بالذنب، جبان الى درجة مرضية، مريض بالسرقة، صبياني السلوك، سريع الاستثارة، بخيل. ومثل روسو، كان للشاعر الانكليزي شلي عدد من الأطفال غير الشرعيين الذين أجبر على الاعتراف ببعضهم، ومثل روسو أيضاً، كان يحب الانسانية بشكل عام، لكنه شديد القسوة مع الأفراد. كان يقترض باستمرار، ولا يرد ما يقترضه. ويبدو أن المسرحي الالماني بريشت جمع المثالب كلها متفوقاً على معاصريه من المبدعين، واختار المؤلف للفصل الخاص به عنواناً دالاً "قلب من الجليد". وكما أشرنا، فإن صاحب "دائرة الطباشير القوقازية" و"أوبرا البنسات الثلاثة" و"الأم شجاعة" لم يكن سوى لص، سرق أفكار غيره واعاد توليفها وتقديمها منسوبة الى نفسه، مستفيداً من الدعاية لنفسه، وعلاقاته الواسعة، ومستفيداً أكثر من الدعم الذي تلقاه من الحزب الشيوعي، الذي جعله بدءاً من العام 1930 واجهته الثقافية الرئيسية. يصفه المؤلف بأنه كان فظاً غليظ القلب وشكاكاً، كذاباً، ومحتالاً. "وكان موقفه من النساء متسقاً اتساقاً مرعباً، جعلهن جميعاً في خدمة أغراضه"، وهكذا تعددت ضحاياه اللاتي كن يعملن تحت يده كسكرتيرات أو خادمات أو ممثلات في مسرحه، حتى أنه رفض ان تكمل سكرتيرته العلاج، وفضل أن تموت وهي في الثالثة والثلاثين، لأنه كان في حاجة الى عملها. لم يهتم كثيراً أبداً بأطفاله، وكان لديه على الأقل طفلان غير شرعيين، ولم تكن دعوته للشيوعية صادقة تماماً، فقد كان يكره الفقر والعمال، "كان يقضي ساعات يضع الطين تحت أظافره ليبدو مثل العمال". لكنه حصل على دعم الحزب الشيوعي الألماني وجواز سفر نمسوي، وحساب كبير في مصرف سويسري. يقول عنه المؤلف في الختام: "لم تكن لديه معتقدات حقيقية ثابتة، كان يحب أن يجمع بين الأضداد، أن يكون غامضاً، ملتبساً، كان يغطي عقله بحجاب ذكي، كما يلف جسمه بملابس العمال. وحش جنسي لا يشبع: هذا هو الوصف الذي يليق بليو تولستوي فإلى جانب عشرات القصص عن غرامياته ونزواته التي يوردها المؤلف نقلاً عن اعترافات تولستوي نفسه، فإن الشخص الذي نشعر تجاهه بالعطف فعلاً هي زوجته سونيا التي أكرهت على نزواته الجنسية على رغم تقدمها في السن، وكانت حياتهما معاً بكل تفاصيلها، معروضة على الأرصفة في مؤلفاته، إنه نوع من القهر العلني. لكننا لا نملك سوى احترام هذا الشيخ الذي تنازل بإرادته عن أرضه لأقنانه، والذي فتح مدرسة لتعليم الفلاحين عمل فيها بنفسه، لكنه في سعيه لتحقيق حلمه الخاص بالبشرية، لم يلتفت لأسرته فحطمها بالاجراءات التي اتخذها وتركها فقيرة معوزة. وعلى رغم النزعة الاشتراكية في سلوك تولستوي فإنه لم يتحالف معهم، كتب يقول: "لو حلت العقيدة الماركسية بالفعل، فإن الشيء الوحيد الذي سيحدث هو انتقال الاستبداد. الرأسماليون يحكمون الآن، وحينذاك مدراء العمل هم الذين سيحكمون". وها نحن أمام نموذج لمبدع أميركي: أرنست همنغواي وبصحبته نحن في الحقيقة أمام سكير لا يرتوي، يكره أمه إلى درجة وصفها بالزانية، أما منهجه في الكتابة، فقام على صدق الفعل لا صلاحية القيمة، بمعنى أنه اراد أن يكتب عن الاشياء والناس كما هم وليس كما يفترض أن يكونوا، ولذا كان ولوعاً بالتعرف على الطبقات الدنيا من المجتمع. لكن ما أن ننتهي من ذلك الذي نعتبره مدحاً، حتى ينقلنا المؤلف الى تناقضات شخصيته، وأولها أنه كان بارعاً في الكذب، كما كان - على رغم إشادته بمزايا الصداقة في أدبه - غير قادر على الاحتفاظ بصديق لفترة طويلة، كان شديد الغيرة من نجاحات الآخرين، شريراً وعنيفاً. وبسبب إدمانه الكحول، وعجزه عن تطوير فنه في الاتجاه الذي يريد، أقدم على الانتحار بعدما فشلت محاولات علاجه من الاكتئاب والبارانويا. وفي سنة 1961، أمسك ببندقيته الانكليزية المفضلة ذات الماسورتين، وضع بها خزنتين من الرصاص وفجر رأسه. همنغواي بهذا المعنى، رجل قتل فنه. ويقول بول جونسون في ختام الفصل الخاص بهمنغواي: "كان هناك شيء لا ينقصه، الصدق الفني، النزاهة الفنية، التي ظلت تضيء كالمنارة طوال حياته، لقد وضع أمام نفسه مهمة أن يخلق أسلوباً جديداً في الكتابة والأدب الروائي، ونجح". وكان الفيلسوف برتراند رسل، صاحب أطول مرحلة في تاريخ المثقفين في تقديم النصح والارشاد للبشرية، فقد عاش قرابة القرن 1872-1970. والنتيجة نحو 70 كتاباً، وآلاف المقالات في صحف ومجلات شتى. كان مشروعه الاساسي أن ينقل الفلسفة من برجها العاجي الى الشوارع والأسواق، كان يبشر بالحرية الجنسية وينتقد المحرمات، كان مغروراً وجشعاً للمال بدرجة كبيرة. من الناحية النظرية، كان نصيراً لحركة تحرير المرأة، لكنه فعلياً كان يحتقر المرأة، وعلى رغم عمره المتقدم، قال عنه الفيلسوف "هوك": كان يطارد أي شيء داخل تنورة. في جنازة جان بول سارتر، كان أكثر من خمسين ألف شخص معظمهم من الشباب بعضهم تسلق الأشجار لكي يرى جيداً، وأحدهم سقط فوق النعش مباشرة. هكذا كان جان بول سارتر وحشاً مقدساً آخر كما يصفه المؤلف. نعرف، بعد أن يطوّف بنا المؤلف في طفولته ونشأته أنه كان شخصاً أنوياً من الدرجة الأولى. وحين تتبع المؤلف مسار حياته، محاولاً تطبيق أفكاره عليها، سنكتشف أنه ليس سوى كذاب ومخادع من طراز فريد. لم تكن فلسفته الوجودية شيئاً يقرأ، إنما جنون يستمتع به الشباب، ساعد في انتشارها وشيوعها الحرب وما خلفته. أما رفيقته الشهيرة سيمون دي بوفوار فلم يخلص لها أبداً، وإن كان سيطر عليها سيطرة فكرية أكيدة، حتى أنه كان يغوي تلميذاتها بمعرفتها، لدرجة أن أحد آباء هؤلاء البنات اتهمها بالقوادة وإغواء إبنته، وحكم عليها بالسجن ستة أشهر، وبالغرامة وطردت من الجامعة. هذا كله دفع بول جونسون للتساؤل في النهاية، مندهشاً من هذا الحشد الذي سار خلف جنازة سارتر: تكريماً لأي قضية جاء كل هؤلاء؟ أي عقيدة؟ أي حقيقة مشرقة عن الانسانية كانوا يحاولون أن يؤكدوها بذلك الحضور الجماهيري الضخم؟