يدعم بعض الدول مؤسسات وشركات عامة بهدف توفير السلع الاساسية والضرورية لقطاع كبير من المجتمع متحملة الخسائر الناتجة عن فرق الاسعار. وقد يؤدي بيع هذه الشركات الى القطاع الخاص الى رفع الدعم عن سلع أساسية وحرمان شريحة كبيرة من السكان منها. كما قد يكون هناك هدر وانتقاص في الكفاءة الانتاجية بلغ حدوداً غير مقبولة، ففي مثل هذه الحال تتعاظم الضرورة لوقف الهدر ووضع نظم رقابية جيدة وفعالة. وفي دول العالم الثالث ومنها الدول العربية، نجد ان مؤسسات عامة وشركات حكومية، أو مختلطة تعمل بكفاءة عالية، وتحقق دخلاً للدولة. لذلك يتساءل المرء ما هو الهدف من إلغاء هذه الشركات التي تحقق مورداً للدولة، وما هي الحكمة من بيعها؟ هل هو فقط إذعان لتعليمات المؤسسات الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين؟ أم ان المقصود من التخصيص انتقال ملكية هذه الشركات الى يد شريحة واحدة سواء محلية أو اجنبية كما لو كنا ننقل الأرباح الى جيوب فئة معينة، واذا كان الهدف الحفاظ على موازنة الدولة ووقف الهدر في دعم شركات خاسرة لا تعمل بكفاءة انتاجية، توجب استخدام حصيلة التخصيص إما لتسديد قرض داخلي سندات محلية أو دعم موازنة الدولة في استحداث المرافق الاجتماعية التعليم، الصحة... الخ. وفي دول العالم الثالث يتفادى المسؤولون الربط بين المشاكل الاجتماعية - السياسية والاقتصادية ويعمد هؤلاء الى الالتفاف بمفاهيم اقتصادية حول جذور المشاكل الاجتماعية والسياسية فتأتي حلولهم علاجاً للأعراض وليس للأمراض، خصوصاً في ظل أكذوبة السوق الحرة، التي لا تأخذ الاختلال الكبير في العملية الانتاجية بين الدول المتقدمة ودول العالم الثالث. ثم إن القول بعدم تدخل الدولة قول طوباوي لأنه يعتقد ان السوق قادرة على اعادة التوازن، وهو ما لم يحدث قط من دون تدخل الدولة سواء وفقاً للسياسة التي تقوم على التحكم في عرض النقود وسعر الفائدة واستخدام الآليات النقدية لتحقيق التوازن، أو تلك التي تضع حوافز لكبح التضخم ورفع نسبة العمالة. وخلال أكثر من 40 عاماً مضت والى أقل من 15 عاماً ووفقاً للنظرية الكينزية كانت الدول الأوروبية تتدخل في السوق بآليات مختلفة فماذا حدث اليوم لتقلب السوق رأساً على عقب؟ من الذي يستطيع ان يدعي ان هناك سوقاً واحدة في العالم - حتى في الدول الغربية - لا تسودها الاحتكارات، سواء المطلقة أو احتكارات القلة؟ أليست الشركات العابرة للقارات والتي لا يزيد عددها عن ألف شركة تتحكم في أكثر من 50 في المئة من الناتج العالمي؟ أليس هذا هو الاحتكار بعينه؟ فما معنى السوق الحرة في ظل الاحتكار الرهيب؟ ثم أي تجارة حرة تحجب عنا نقل التكنولوجيا؟ أليست المعلومة سلعة؟ واذا كانت لماذا تحتكر، وما هو نوع الاستقرار الاقتصادي الذي تسعى اليه المنظمات الدولية في ظل الخلل الاجتماعي؟ وأي استقرار اقتصادي سيتحقق ونسبة البطالة في ازدياد في دول العالم الثالث؟ وهل هناك وصفة سحرية تبرر للجائع قبول الجوع؟ إن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، وهو نشأ كعلم مرتبط بالعلوم الاجتماعية، وسينقلب على نفسه عندما يفقد بعده الاجتماعي ويتحول الى أرقام جوفاء، فعلى سبيل المثال يتحدث صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة الدولية عن معدل دخل الفرد وهذا أكبر رقم وهمي في علم الاقتصاد؟ لماذا لا يتحدثون عن الدخل الحقيقي للأفراد؟ لماذا لا يتحدثون عن أثر توزيع الدخل في المجتمعات على التنمية؟ إن الدعوة القائلة بأن زيادة الأرباح تؤدي حتماً الى توافر الأموال لدى الملاك لإعادة ضخها في الاستثمار وبالتالي احداث وظائف جديدة دعوة لا يؤيدها الواقع لأي رأس مال انتهازي. والدول الغربية تشتكي اليوم من هجرة رؤوس الاموال، الى حيث الأيدي العاملة الرخيصة في العالم الثالث، ما أدى الى زيادة البطالة لديهم، وساهمت الشركات الكبرى في عملية انتهاز الفرص والهروب من مواطنها الأصلية لتجنب ارتفاع الأجور الى الدول ذات الأجور المنخفضة، فلا هي اسهمت في رفع نسبة النمو في بلدانها ولا هي أعطت العامل حقه في دول العالم الثالث. ان نظرية حد الكفاف في الفكر الاقتصادي الغربي ما زالت مسيطرة على منهج التفكير التطبيقي، وفي بلدان العالم الثالث وجدت الارباح طريقها للاستثمار خارج هذه الدول بحثاً عن السرية والأمان، والسبب في عدم توفر الأمن في هذه البلدان هو الخلل الاجتماعي والسياسي وعدم توافر فرص العمل الجيدة والمتكافئة، ويمكن للأجور ان تصبح محركاً قوياً للتنمية لأن من يتقاضون الأجور لا يميلون للادخار. ومعظم أموالهم تنفق في السوق وبالتالي تدعم الطلب الذي يؤدي الى الارتفاع، الأمر الذي يؤثر على عناصر الانتاج المختلفة، ومنها حجم الأيدي العاملة. والغريب ان تهلل الدول لارتفاع نسبة النمو وفي الوقت نفسه تغفل ارتفاع نسبة من يعيشون تحت خط الفقر ونصيب الفرد من الانفاق على التعليم، والمياه العذبة والصحة ونظم الأمن الاجتماعية الضمان الاجتماعي، ضمان البطالة، التأمينات الاجتماعية، التأمين الصحي لذلك نحن بحاجة الى معايير جديدة توضح النمو الحقيقي وليس الى أرقام مطلقة. كما يجب قوننة رؤوس الأموال الاجنبية، فليس كل استثمار اجنبي مطلوباً، واذا أخذنا ماليزيا كمثال لوجدنا ان هناك أنواعاً من الاستثمارات مضرة، فما يسمونه الاموال الساخنة التي تأتي لانتهاز الفرص في شكل مضاربات تدمر سوق رأس المال الثانوية وسوق الاسهم حتى أصبحت قيمة الشركات في الاسواق الثانوية لا تعبر عن حقيقتها، فهناك شركة تباع بأقل من قيمة أصولها، واخرى تشترى بأضعاف قيمتها الحقيقية، وهذا اختلال في الموازين يمكن تشبيهه بالمقامرة. في الماضي كان الدعم الخارجي يأتي على شكل قروض ومعونات، أما الآن فأصبح على صيغة استثمارات سريعة أموال ساخنة، ومعظمها عاد بالضرر علينا، فكما ان للقروض فوائد تصاعدية كبلت دول العالم الثالث خصوصاً انها وجهت الى انفاق استهلاكي وليس تنموياً، فإن أرباح الاموال الساخنة الآن تقوم بالدور نفسه ولكن بشكل أخطر، لأنها تقتنص فرص فروق الأسعار في المضاربات سواء فروق عملة، أو انخفاض قيمة الاسهم نتيجة للمضاربة، وإلا ما معنى ان تفقد عملة ماليزيا 50 في المئة من قيمتها و60 في المئة من قيمة اسهمها؟ إن أكبر الديون التي تلقتها دول العالم الثالث لم تحقق خسارة كهذه! وإذا كانت بلدان العالم المتقدمة بحاجة الى سوق رأس مال ثانوية يتيح لمن يريد تسييل أصوله الى أموال، فقد انحرفت هذه السوق عن مهمتها وأصبحت مركزاً للمقامرة، لا تختلف كثيراً عن أي نادٍ من نوادي القمار، أضف الى ذلك أننا في دول العالم الثالث بحاجة الى سوق أولية وليس ثانوية والى صناعات جديدة توفر مزيداً من فرص العمل وتخفف الضغط على ميزان المدفوعات بإحلال المنتجات المحلية محل الواردات. وتدور معظم حلول المؤسسات الدولية حول الاستقرار المالي للدولة غافلة عن الاستقرار السياسي والاجتماعي، وكأن مهمة الدول انحصرت في موازنة الموازنة ثم بعد ذلك لا يهم اذا دخلت الدولة في مواجهة مع شعوبها، ونشأت الاضطرابات والقلاقل بل ودمرت الأصول المنتجة من جراء الحركات الغوغائية التي أصابت الكثير من الدول وأصبحت مصادر الثروات لا تقوم على اسس عقلانية، فتصبح الدخول تتحدد وفقاً لأمور خارجة عن الأهلية الشخصية ومستوى التعليم، بل ترتكز على التسيب والفساد والمحسوبية. وتشير دراسات عدة الى اضمحلال الطبقة الوسطى في العديد من دول العالم علماً ان ازدياد حجم هذه الطبقة يعني الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فما معنى ان يمتلك 5 في المئة من السكان 80 في المئة من الدخل القومي؟ فهل هذا هو الهدف من التنمية؟ ان الاعتقاد ان المستثمرين الاجانب وحدهم قادرون على مساعدة الدول المتخلفة في التنمية مفهوم يفتقد الى المصداقية، فقبل الانفتاح المطلق أمام حركة الرساميل، يجب بناء الاقتصاد ووقف الممارسات اللاأخلاقية فيه من احتكار وتسيب ورشوة واستغلال. ان وضع النظم والضوابط الحقيقية تجعل الرساميل تعمل في قنوات الاستثمار وبشروط التنافس الحقيقي، وفي هذا مصلحة للمجتمع تحميه من مغبة التوجه نحو الاستهلاك والمضاربات. يتوهم كثير من الناس ان النمو الاقتصادي سار بوتيرة واحدة في جميع أنحاء العالم تطوراً من الاقطاع الى البورجوازية الصناعية التي تحملت أعباء الثورة الصناعية، وهذا أمر غير صحيح، إذ ان طبقة رجال الاعمال في دول العالم الثالث لم تمر بمكابدة الانتاج الصناعي الشاق، فقد نمت في ظل المضاربات والتسيب، لذلك لا ينطبق علينا ما انطبق عليهم، نظراً لاختلاف الوعي الاستثماري بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة. نحن بحاجة الى اعادة نظر جديدة للتنمية في دول العالم الثالث لا تأخذ النظريات الغربية كأمور مسلم بها، فما يصلح لديهم لا يصلح بالضرورة لنا. فأموال المصارف تخصص لتمويل التجارة. وأقل من 10 في المئة يوجه نحو الصناعات التحويلية فأصبحت المصارف وبالاً على الدول لأنها تنمي الاستيراد ومضاربات الأسهم والمضاربات العقارية. كاتب اقتصادي سعود