ما بين الثلاثين من آذار مارس الماضي والثاني من نيسان ابريل الجاري تمكنت اليونسكو من عقد "المؤتمر العالمي حول السياسات الثقافية" في استوكهولم عاصمة السويد. ونجاح اليونسكو في عقد هذا المؤتمر يُعد أمراً ملفتاً للنظر، وذلك لأن جوهر الأطروحة التي ينهض عليها كانت وستظل موضوع نزاع، امتد الى أروقة المؤتمر. والاطروحة الجوهرية التي انطلقت اليونسكو للدفاع عنها، وإدراجها في جدول أعمال المجتمع الدولي هي إعادة صوغ مفهوم التنمية لكي تندرج فيه الحقوق والممارسات والحريات الثقافية. وتعكس هذه الأطروحة الاحتجاجات والتجديدات التي جاء بها جيل كامل من العلماء والمؤلفين ضد النظريات الساذجة للتنمية، التي راجت خصوصاً في عقدي الستينات والسبعينات. وانصبت الاحتجاجات في التأكيد على أن المعايير الاقتصادية وحدها لا تؤلف تعريفاً كافياً للتنمية، لجهة أن الهدف النهائي هو الإنسان، وتأكيد كرامته وضمان تطوره المتوازن والمبدع. وتبنت هيئات دولية عدة، ومن بينها برنامج الأممالمتحدة للتنمية هذا المدخل، فأكدت على تعريف جديد للتنمية بوصفها "عملية توسيع نطاق الاختيارات المتاحة للناس". ويبدو أن اهتمام اليونسكو بالربط بين الثقافة والتنمية أثار عدداً لا بأس به من حكومات العالم الثالث. فقد لا يكون هناك من بأس في تنسيق السياسات البيئية كما حدث في ريو دي جانيرو، أو السياسات الاجتماعية كما حدث في كوبنهاغن، أو سياسات السكان والتنمية كما حدث في القاهرة. أما السياسات الثقافية فتثير المخاوف من السيطرة والهيمنة عبر دور الثقافة المباشر في تشكيل الوعي، أو التلاعب به. وخلال عقدي السبعينات والثمانينات أصرت هذه الحكومات على أن السياسة الثقافية ليست موضوعاً للتنسيق بين دول العالم، وأنها يجب أن تخضع كلية للسيادة الوطنية. وخلال المؤتمر العالمي السابق لليونسكو في المكسيك العام 1982 حول السياسات الثقافية، رفضت حكومات كثيرة الاعتراف بالحاجة الى إدخال الثقافة كبعد رئيسي في التنمية. كما رفضت توسيع معنى الثقافة المعمول به في الهيئات الدولية لكي يشمل لا مجال الفنون والآداب والتراث فحسب، بل والرؤى العالمية وأنظمة القيم وأساليب الحياة المتميزة كذلك. وحدا هذا الرفض باليونسكو الى إجراء نشاط منفصل باسم "العقد العالمي للتنمية الثقافية" صدوعاً لاعتراض حكومات كثيرة على إدماج البعد الثقافي في "عقود التنمية" التي تصممها وتعلنها الأممالمتحدة كإطار للتعاون الدولي، ولفلسفة التنمية في العالم. غير أن هذه الاعتراضات لم تحبط اليونسكو، التي نجحت أمانتها العامة في استصدار قرار من المؤتمر العام للمنظمة في 1991 بإنشاء لجنة مختصة ومستقلة لوضع تقرير عالمي عن الثقافة والتنمية، وتقديم اقتراحات في شأن "التدابير العاجلة وطويلة الأجل التي تعين اتخاذها لتلبية الحاجات الثقافية في سياق التنمية". ووضعت اللجنة التي رأسها الأمين العام السابق للأمم المتحدة خافيير بيريز دي كويللار تقريرها المشهور باسم "التنوع الانساني المبدع" عام 1995. وأوصى التقرير بعقد سلسلة من الأنشطة الضرورية لتمهيد تنسيق السياسات الثقافية على الصعيد العالمي، تشمل عقد مؤتمر للوزراء المختصين بالثقافة، وهو المؤتمر الذي نتحدث عنه، وصولاً الى عقد قمة عالمية حول السياسات الثقافية في العام المقبل. لكن لماذا اعترضت حكومات كثيرة من العالم الثالث على إدخال الثقافة كبعد أصيل وأساسي للتنمية؟ ولماذا رفضت توسيع مفهوم الثقافة، أو إصدار خطط عمل عالمية محددة وقابلة للمراقبة كموجهات للسياسات الثقافية على الصعيد الوطني؟ ثمة، بالطبع تباينات كثيرة بين مواقف حكومات العالم الثالث، لكنها جميعاً تستند على المخاوف والتحفظات نفسها. إن الشعور الرائج بين الحكومات المعارضة هو أن اليونسكو تدفع نحو تنسيق السياسات الثقافية كأجندة موصى بها من الدول العظمى، وتحديداً الولاياتالمتحدة، وأنها بذلك تساهم في التحفيز لما يسمى بالنظام العالمي الجديد بإقامة قاعدة ثقافية له. والهدف الكامن وراء هذا التحضير هو توسيع مجال نفوذ الولاياتالمتحدة وقوى السوق العملاقة المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسية في ميدان الثقافة وغيره من الميادين عن طريق تقويض سلطة جهاز الدولة الوطنية على الثقافة والتدفقات الثقافية في مجتمعاتها. وترى هذه الحكومات أن التأكيد الذي حفلت به الوثيقة الرئيسية للمؤتمر على "التنوع الثقافي" في الساحة المحلية يطعن في فكرة الدولة - القومية ويخلخل مشروعيتها. والغرب الذي يضغط في اتجاه تمكين الجماعات الثقافية - الدينية واللغوية - من ممارسة حقوق ثقافية موسعة، يستهدف تفتيت الدول المستقلة حديثاً، ومضاعفة صعوبات التوحيد القومي. وتعتقد دول معينة مثل الدول العربية والإسلامية أن تركيز الغرب على التنوع والتعبير الحر والمستقل عن الذاتية الثقافية للجماعات المتميزة، هو مدخل جديد لغرض استعماري قديم، وهو اللعب على مسألة الأقليات، واستغلالها لمزيد من إملاء الشروط وإخضاع هذه الدول الجديدة للهيمنة. كما أن توسيع تعريف الثقافة ليس سوى حركة إلتفاف حول مسألة الاقليات نفسها، وأن دمج الثقافة في تعريف التنمية هو طرحه على الوتر نفسه، وعودة لمحاولة فرض تعريف موسع للحقوق الثقافية على المجتمعات القديمة والدول النامية عموماً، بعد أن باءت المحاولات السابقة بالفشل. وإذا كان هذا هو التفسير الذي دفع حكومات كثيرة للمعارضة والتحفظ، فثمة تفسير آخر ومضاد تماماً لفلسفة المؤتمر، وأطروحته الجوهرية. فأولاًَ ليست سوى صلة واهية للغاية بين هذه الفلسفة من ناحية والفكر الرسمي الأميركي من ناحية ثانية. فالأخير أكد نظرية "البوتقة" التي تُعنى بصهر الجماعات المختلفة ثقافياً وعرقياً في تيار ثقافي رئيسي واحد. ويقدم النموذج الأميركي كقدوة لهذه الفلسفة الاندماجية. ومن ناحية أخرى، فإن التقرير الذي وضعته لجنة من الخبراء المستقلين الذين ينتمون الى مختلف مناطق العالم الثقافية أكد بقوة أكبر التنوع الثقافي في المعترك العالمي. وعلى الطريق إلى هذا التأكيد، أثار التقرير تحفظات شتى على عملية العولمة، وما تمثله من خطر فرض التجانس لمصلحة هيمنة ثقافة واحدة، والمقصود بالطبع هو الثقافة الأميركية. ومن ناحية ثالثة، فإن المصدر الحقيقي للأطروحات المركزية للمؤتمر وللتقرير ليس هو الفكر الاميركي، وإنما هو فكر ما بعد الحداثة عموماً، الذي وإن كان قد تبلور نظرياً على يد طائفة من العلماء والفلاسفة الأوروبيين وبالذات الفرنسيين فإنه وجد تأييداً قوياً من جانب مفكري العالم الثالث، بمن في ذلك مفكرو التيار الإسلامي، وغيره من التيارات الثقافية السياسية التي تركز على الهوية كنهضة انطلاق، وليس على الفعل كما يدعو الفكر الأوروبي الحديث. والوثيقة الرئيسية للمؤتمر، التي أعدتها سكرتارية اليونسكو هي تعبير عن مزيج من الآمال الديموقراطية، ومنطلقات ما بعد الحداثة التي تحتفل بالتنوع والتعايش بين الثقافات. وهي تعامل التنوع بالطريقة نفسها على المستوى العالمي والمستوى المحلي على السواء. والوثيقة التي تسمى بخطة العمل تحتوي على ديباجة، ومتن يشمل خمسة أهداف للسياسات الثقافية الوطنية، وتوصية للأمين العام لليونسكو بالعمل على عقد قمة عالمية للثقافة. وفي الديباجة، وضعت أهم المبادئ التي تدعو لها اليونسكو. ومن بين أهم هذه الأهداف جملة تقول بأن "التنمية يمكن أن تُعرف في نهاية المطاف بمصطلحات ثقافية، وإن ازدهار الثقافة هو أهم غايات التنمية". وتؤكد الديباجة كذلك على أن السياسة الثقافية يجب أن تشجع الإبداع بكل أشكاله، وأن تثري الشعور بالهوية والانتماء لدى كل فرد وجماعة وتضمن حريتهم في التعبير، وأنها يجب أن تستهدف خلق شعور بالأمة "كجماعة متعددة الأوجه" ومغروسة في "قيم مشتركة"، وتحترم الحقوق المتساوية للرجال والنساء. وأن صنع السياسة الثقافية يجب أن يكون أمراً مشتركاً بين الحكومة والمجتمع المدني. أما الأهداف التي تتوخاها الخطة فتشمل توسيع مجال السياسة الثقافية، وإتاحة مزيد من الموارد للتنمية الثقافية. وتدعيم الابداع الثقافي وحماية التراث، ودعم الصناعات الثقافية، وضمان التنوع الثقافي في ومن أجل مجتمع المعلومات. وتتخلل هذه الأهداف جميعاً آليات عمل يبرز فيها الاتجاه لمنح المجتمعات المحلية واللغوية والثقافية داخل الدولة حقوقاً واسعة في التعبير عن ذاتها. القراءة المتمعنة لوثيقة "خطة العمل" التي عرضت على المؤتمر العالمي تكشف عن صراع مكتوم بين نموذجين متناقضين للسياسة الثقافية. الأول يدور حول مفهوم الدولة القومية، والثاني يتألف من جملة من العناصر التي تقود الى "مجتمع عالمي للثقافات". أو الى سوق ثقافية عالمية مفتوحة تلعب فيها الدولة القومية دوراً ملموساً لكنه غير مسيطر. ومالت الوثيقة - على رغم الدقة الشديدة في صياغة مصطلحاتها - الى النموذج الثاني بكل وضوح. وكان من المحتم أن يشتعل الخلاف على مجال واسع من المواضيع التي تلتقي جذورها جميعاً من مسألة النموذج: أي نمط وحال السلطة على التدفقات الثقافية. كان من الطبيعي أن تتزعم الدول العربية والاسلامية جبهة النضال من أجل إسقاط النموذج المضمر في الوثيقة الذي يضعف سلطة "الدولة القومية" على الثقافة. لذلك جاءت التعديلات المقترحة من جانب هذه الدول لتركز على الحد من الحريات ووسائل التعبير المستقلة التي منحتها وثيقة خطة العمل للجماعات المحلية الصغيرة، وللجماعات اللغوية والدينية، ولتؤكد على "الوحدة القومية". بينما ناضلت أمانة اليونسكو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نموذج، المجتمع الثقافي المتعايش بحرية، من خلال الدفاع عن توسيع فضاء الحرية والتعبير المستقل للجماعات المحلية على أساس من اللامركزية الثقافية. وفي غضون الأيام الأربعة للمؤتمر، برزت اتجاهات كبرى حددت طبيعة الوثيقة النهائية، أو خطة العمل: الأول هو على عكس كل التوقعات الأولية، اذ كشف عن الضعف الشديد للدور الأميركي في المؤتمر. وانجرفت كل الدول الكبرى والصغرى الى التعبير الراديكالي المتشدد عن رفض كل صور وادعاءات الهيمنة الثقافية الاميركية. وتكوّن تحالف تلقائي شمل عشرات من دول الشمال وأخرى من دول الجنوب يدين من اتفق على تسميته ب"كوكلة COALIGAHIN" العالم: أي "طغيان ثقافة الكوكوكولا الاميركية على العالم". وتمثل الاتجاه الثاني في الحد بكل الصور الممكنة من سلطان نموذج، المجتمع الثقافي العالمي على الوثيقة الأساسية للمؤتمر، وهو ما برز من نجاح الكتلة العربية/ الاسلامية بالتعاون مع غيرها في نسق كل الجمل والفقرات التي منحت حقوق التعبير الذاتي المستقل والحر عن الهويات الثقافية المتنوعة داخل الدولة. وبالتالي، صارت هذه الجمل والفقرات مقيدة في الحقيقة بإرادة الدولة وتجسيدها في الحكومة التي تسيطر على وسائل الإعلام الجماهيري، وخصوصاً الإذاعة والتلفزيون. أما الاتجاه الثالث فهو التأكيد على الحقوق الثقافية لدول العالم الثالث حيال دول الشمال. وترجم هذا الاتجاه في الاهتمام البارز بحق استعادة التراث المسروق بصور غير شرعية من دول الجنوب، وغيرها من الحقوق. وبهذا، تحول المؤتمر الى ساحة للفكر الحكومي العالم ثالثي، وضد الاتجاه الاصلي لسكرتارية اليونسكو، وهو ما يبرهن على عدم صدق المخاوف من الهيمنة الاميركية أو الهيمنة الغربية. بل إن كثيراً من دول الغرب ذاتها قد انجرفت الى خطاب يكاد يكون مستعاراً من العالم الثالث. لكن هل يعني انتصار خطاب العالم الثالث، أن الصراع على تكييف السلطة مع الثقافة والتدفقات الثقافية، انتهى؟ بالتأكيد ستكون الإجابة عن هذا السؤال بالنفي.