تابعت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن وما تخللها من لقاءات عقدها وزراء المال في الدول الاقتصادية السبع الكبرى وتسجل هنا اهم ما دار في تلك الاجتماعات وما يمكن ان يترتب على الخطوات التي توصل اليها المشاركون. توصَّل كبار المسؤولين الماليين في العالم، في خلال اللقاءات التي عُقدت في واشنطن الاسبوع الماضي، الى اجماع على انه سيكون على الدول النامية ان تتقيد بمعايير ومقاييس أشد صرامة من المعايير الراهنة في قطاعاتها المالية. ويتمحور معظم المحادثات التي اجراها وزراء المال ورؤساء المصارف المركزية في العالم، في خلال لقاءات الربيع الخاصة بالبنك وصندوق النقد الدوليين، على طرق تحسين فعالية صندوق النقد الدولي "كشرطي" لأسواق المال الدولية بغية تجنب أزمة مالية اخرى كالتي شهدتها اسيا. وتُعزى الازمة التي شهدتها آسيا في الصيف الماضي اجمالاً الى تراخي الانظمة والقوانين التي تنظم أنشطة الاسواق المالية في تايلاند وكوريا الجنوبية واندونيسيا. وبحلول نهاية المحادثات الدولية كان قد تبلور عدد من الاصلاحات المفتاح الرامية الى تعزيز الدور الذي يمارسه صندوق النقد الدولي ورفع شأنه. وخلاصة هذه الاصلاحات انها تُجبر الدول على تحسين مستوى المعلومات التي تقدمها الى صندوق النقد الدولي، وعلى تمكين هذا الصندوق من توسيع نطاق اشرافه على سياسات الدول الاعضاء فيه المالية. وظهرت بوادر ايضاً دلت على ان الصندوق الدولي سيُسمح له بالاعلان عن انتقاداته لسياسات الدول الاعضاء فيه اذا شذّت هذه السياسات عن طريقها المنتظر والمطلوب وهددت بانفجار أزمة مالية. وسيُضمن ترتيب من هذا القبيل في نظام "ردّي ذي ثلاث مراحل" تمثل كل مرحلة منها اشتداد لهجة الصندوق الدولي التحذيرية وتصعيد قساوتها فيما بلغت الصندوق الى ان الدولة المعنية بالتحذير تتجه نحو الخطر. والمعلوم ان الصندوق الدولي يراجع حالياً الاوضاع الاقتصادية سنوياً في معظم الدول الاعضاء فيه البالغ عددها 182 دولة. وبدأ الصندوق الدولي لتوّه نشر خلاصات عن نتائج مراجعاته السنوية لكن فقط بالنسبة الى الدول التي توافق على هذا النشر. وفي بيان ختامي، صدر عند نهاية لقاء الخميس الماضي، الذي عقدته "اللجنة الموقتة" التي تُرسي أسس سياسة صندوق النقد الدولي، ذُكرت خطوات اخرى ترمي الى تعزيز الدور الذي يمارسه الصندوق الدولي وتقويته. ومن هذه الخطوات ان على الصندوق ان يشدد اشرافه على المسائل المرتبطة بالقطاع المالي وعلى تدفق الرساميل في العالم، وان على الدول الاعضاء في الصندوق، من جهتها، الوفاء بالتزاماتها الخاصة بتقديم معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب الى الهيئة المالية الدولية. وجاء في البيان الختامي: "من شأن النواقص المتكررة المتمادية في الافصاح عن المعلومات والاحصاءات ذات الصلة بالموضوع المالي للصندوق الدولي ان تعرقل على نحو خطير عمليات الاشراف والرصد". ويضيف البيان الختامي ان الافصاح مهم جداً بحيث قد ينظر الصندوق في وقف مراجعته السنوية لاقتصاد من الاقتصادات اذا كانت المعلومات المعطاة عن هذا الاقتصاد غير مكتملة. ممارسات ودعمت لقاءات الربيع ايضاً نظاماً من الممارسات الجيدة في مجال الشفافية الضريبية كل ما له علاقة بعائدات الدول الرسمية، وهو النظام الذي كشف صندوق النقد الدولي النقاب عنه في خلال الاسبوع الماضي ليكون نبراساً تهتدي به الدول فيما تحسِّن شفافيتها الضريبية، ما يعزز بدوره صدقية السياسة الضريبية وعنصر المساءلة فيها كملمح أساسي من ملامح الحكم الصالح. ولفتت الازمة الآسيوية الى الصعوبات التي تواجهها الدول النامية عندما تفتح حساباتها الرأسمالية سعياً وراء مزيد من الاستثمارات الخاصة. وقال وزراء المال الذين اجتمعوا في واشنطن الاسبوع الماضي، ان الازمة الآسيوية لفتت الى أهمية ان يحصل تحرير الاسواق والحسابات المالية الرأسمالية على نحو "منتظم ومنضبط وممرحل في شكل مناسب جيد". وتحقيقاً لهذا الغرض بالذات وافق المجتمعون على دعم تلبية رغبة صندوق النقد الدولي في المضي بتبني تعديل، أثار خلافات كبيرة في الرأي، يتناول "مواد الاتفاق" الميثاق الذي أنشيء بموجبه صندوق النقد الدولي بما يوسِّع صلاحيات الهيئة المالية الدولية في هذا المجال. وساهمت الدول الصناعية السبع الأكبر، أي الولاياتالمتحدة وكندا والمملكة المتحدة والمانيا وفرنسا وايطاليا واليابان، "بحصة الأسد" من المناقشات التي تناولت كيفية تقوية الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في الحؤول دون انفجار أزمات مالية في المستقبل. ومن المنتظر ان يواصل المعنيون بلورة هذه الافكار وأفكار اخرى غيرها تتناول اصلاح النظام المالي الدولي قبل انعقاد اجتماع وزراء المال في الدول الصناعية السبع الأكبر في بريطانيا في مطلع الشهر المقبل. مخاطر ومن وجهة نظر الدول النامية، لفتت الازمة الآسيوية الى مخاطر عولمة اقتصادها بسرعة. وعبَّرت عن وجهة نظر الدول النامية مجموعة الدول الأربع والعشرين التي دعت الى انشاء لجنة تتولى اعادة نظر شاملة بالدور الذي تمارسه المؤسسات المالية الدولية في الحؤول دون انفجار الازمات المالية وفي الرد عليها. وحثت هذه الدول النامية على ان تشمل اعادة النظر الشاملة النظر في ما اذا كانت وصفات هذه المؤسسات المالية الدولية وحلولها المقترحة مناسبة وملائمة، وقالت ان سياسات الدول الصناعية الرئيسية تتطلب ايضاً مزيداً من الرصد والاشراف عليها لأنها هذه السياسات تؤثر كثيراً على متغيرات مالية وغير مالية بما فيها تدفق الرساميل. وأعربت الدول النامية عن قلقها حيال مقدرتها على المضي بسرعة في طريق التحرير الرأسمالي، وأوصت بأن يهدف التغيير المقترح في "مواد الاتفاق" الى ان يكون تحرير الحساب الرأسمالي "حذراً وممرحلاً على نحو جيد". وجاء في البيان الذي أصدرته مجموعة الدول الأربع والعشرين ايضاً ان على صندوق النقد الدولي ان يتحسس بوضع كل دولة من الدول وان يراعي هذا الوضع، وان يقدم المساعدة الفنية الكافية حيث تدعو الحاجة اليها لأن عملية تحرير الرساميل معقدة. وأضافت مجموعة الدول الاربع والعشرين انه على اللجنة المشتركة ان تدرس ايضاً طلب الدول النامية الذي يتناول زيادة مشاركتها وتمثيلها في الهيئات التي تصنع القرار في المؤسسات المالية الدولية، وذلك لعكس تنامي أهمية الدور الذي تلعبه الدول النامية في الاقتصاد الدولي. وبالنسبة الى الحكم، كرر وزراء المال في الدول الاربع والعشرين التزام دولهم بمبادئ الحكم الصالح بما في ذلك الشفافية والمساءلة وحكم القانون وسيادته، وقال الوزراء ايضاً انهم يدعمون مكافحة الفساد وغسل الاموال وأشكال الجرائم الاقتصادية كافة، كما أكد الوزراء على ان الدول الصناعية مسؤولة ايضاً عن مكافحة الفساد. وقال وزير المال الماليزي، أنور ابراهيم، بعد انفضاض اجتماع "لجنة التنمية"، التي تحدد سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين في الدول النامية، "آن على دول آسيا النامية والدول النامية الاخرى ألا تكون في موقع الدفاع فمسألة الحكم وطبيعته حاسمة في مجال التنمية ولهذا يجب ألا نظن أو نفكر بأن بحث هذه المسألة من المحرمات. والأمر نفسه ينطبق على الرأسمالية المزيفة الفاسدة... والأمر الوحيد الذي أود اضافته هو ان البعض يعتقد ان الفساد موجود فقط في الدول النامية...". وأضاف أنور ابراهيم، الذي ترأس لقاءات لجنة التنمية، ان ثمة حاجة الى الرد على القلق الذي أعرب عنه عدد كبير من الدول النامية من ان التفويض الممنوح للبنك الدولي لكي يدعم محو الفقر والعوز ولكي يموّل المشاريع التنموية يجب ألا يوضع في الظل فيما تجري عملية تقوية الهندسة المالية العالمية. وانتقد بعض الدول الاسراع في منح البنك الدولي مبالغ طائلة لكوريا الجنوبية وتايلاند واندونيسيا. انقاذ والمعلوم ان صفقة الانقاذ الآسيوية، التي كلفت بلايين الدولارات، سببت ضيقاً شديداً لسيولة البنك الدولي بعد مرور سنتين فقط تقريباً على اقدام هذا البنك على انقاذ المكسيك. ويقترح المسؤولون في البنك الدولي ان يُطلب من الدول ذات الدخل المتوسط دفع بدلات أكبر لقاء الخدمات التي يقدمها لها. وسيكون من أكبر التغييرات المقترحة الغاء 50 في المئة من رسم الالتزام الذي هو عادة 75 نقطة أساسية. كما ينظر المعنيون في الغاء الاعفاء الخاص بالفوائد البالغ 50 نقطة أساسية. وأعترف رئيس البنك الدولي جيمس وولفنسون بأن موازنة البنك الدولي ترزح تحت ضغوط وقال ان الأزمة الاسيوية سلطت الاضواء على هذه الضغوط لكنه يقلق ايضاً حيال مشكلة مصادر دخل البنك منذ نحو عامين. أما وزير الخزانة الاميركي روبرت روبن فقد دعم فكرة زيادة البدلات التي يتناولها البنك الدولي وقال: "افهم عزوف المقترضين عن فكرة زيادة البدلات وامتعاضهم منها، لكن من مصلحة هؤلاء المقترضين، كمستفيدين رئيسيين من مؤسسة مالية سليمة، تقوية طاقة البنك على البقاء متمكناً من الاقراض وتقوية وضعه المالي". لكن الصين، التي تتضرر كثيراً من الغاء الاعفاءات، عارضت ما قاله الوزير الاميركي، فقد قال وزير المال الصيني شيانغ هواتشنغ أمام لجنة التنمية "اذا بدّل البنك الدولي سياسته الخاصة بالاقراض التقليدي وسعى الى جني الربح من المقترضين فسيكون شذَّ على نحو أساسي عن رسالته التنموية وسيفقد دعم عدد كبير من زبائنه وثقته فيه". شكوى وشكا بعض الوفود من ان البنك الدولي، تحت رئاسة وولفنسون، يتورط في عدد كبير من المبادرات التي تتقاسم موارده البنك المحدودة وخصوصاً في الوقت الذي بات من المنتظر ان يتدنى دخله. ومن هذه المبادرات مبادرته المشتركة مع صندوق النقد الدولي التي تسعى الى مساعدة الدول المثقلة بالديون بواسطة صندوق منح جديد يُعطى منه للدول الخارجة من صراعات مسلحة، ومبادرة جديدة جداً تتناول التعاون مع جماعات دينية. وثمة قلق ايضاً من ان البنك الدولي قد يطلب من زبائنه دفع بدلات لقاء خدمات يقدمها كما تفعل المصارف التجارية أو الشركات الاستشارية. وشكا مشارك في اللقاءات من هذا كله قائلاً متسائلاً: "ماذا يمنع الزبائن في هذه الحال عن الذهاب الى أية هيئة استشارية اخرى قد لا تعود عليهم بأي نفع". ويجري هذا كله فيما تدنى حجم المساعدات التنموية الرسمية، التي تمنحها دول مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية نادي الدول الصناعية الغنية الى أقل من 25.0 في المئة من ناتج هذه الدول المحلي الاجمالي، أي الى أدنى ما وصل اليه في خلال العقود الثلاثة الماضية. واسفرت اللقاءات عن اتفاق على زيادة رأسمال وكالة ضمان الاستثمارات الدولية ميغا التي من شأنها حفز تدفق مزيد من الاستثمارات الخاصة الى الدول النامية. ومن جهة اخرى دافع صندوق النقد والبنك الدوليان عن نفسيهما بعدما وجهت اليهما انتقادات تتناول عدم قيامهما بما يجعل مبادرة دعم الدول المثقلة بالديون تحرز تقدماً كافياً. وحتى الآن وافقت المؤسستان الدوليتان على منح ستة بلايين دولار لست دول فقط من أصل 41 دولة مرشحة للاستفادة من المبادرة بالنظر الى حجم ديونها الكبير. وتقول دراسة نشرتها هيئة "مبادرة هاليفاكس"، نحو 400 مليون انسان مدينون معاً بما يزيد على مئة بليون دولار. لكن على هذا الكم الهائل من البشر ان ينتظر دوره لتلقي المساعدات بسبب معايير استحقاق هذه المساعدات وأسسه. وتقول الدراسة ايضاً ان على هذه المعايير والاسس ان تتضمن الاخذ في الاعتبار مؤشرات اجتماعية مثل مدى انتشار أو تفشي الفقر والجوع وسوء العناية الصحية. ويُعتبر اليمن من الدول المرشحة للاستفادة من مبادرة مساعدة الدول المثقلة بالديون، لكن عليه الانتظار. وتقول المعلومات المدرجة في الدراسة ان 24 في المئة من اليمنيين فقط ينعمون بالتمديدات الصحية، وان 61 في المئة فقط من اليمنيين ينعمون بماء آمن، فيما لا يتجاوز متوسط أعمار "المعمرين" 55 عاماً لأسباب منها النسبة الكبيرة من الامهات اللواتي يقضين يمتن مبكراً، وتدني عدد مراكز العناية الصحية وتكاثر عدد الاطفال ذوي الاوزان التي تقل عن المعدل والوسطي. والمفترض ان تمكِّن مبادرة مساعدة الدول المثقلة بالديون هذه الدول من زيادة انفاقها على الموارد البشرية وعلى التنمية.