من يستعرض مراحل تطور الطباعة منذ ظهور مطبعة غوتنبرغ سنة 1445، لا بد وان يقف مشدوهاً امام الخطوات الجبارة التي قطعها فن الطباعة منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا. يماثل هذا الاكتشاف البسيط في بدايته، العظيم في فكرته وأثره في نشر المعرفة والعلوم في ارجاء العالم، اكتشاف الابجدية على يد الفينيقيين قبل مولد السيد المسيح، فكان لهم الفضل في ايجاد لغة تفاهم بين مختلف شعوب العصور القديمة، ما يسر للمفكرين المبدعين من نقش نتاجهم الفكري على لوحات حجرية بادئ الامر ثم عبر مخطوطات حملت في طياتها تاريخ حضارة الاقدمين. ويشاء التاريخ ان تشهد هذه البقعة الصغيرة من عالمنا العربي ظهور أول طابعة تصدر اول نسخة من الكتاب المقدس في الشرق. كان ذلك سنة 1610 ميلادية، في دير مار قزحيا المنحوت في صخور وادي قاديشا، ثم تشهد بعد نحو قرن ونصف القرن اول طابعة باللغة العربية في بلدة الخنشارة على يد عبدالله الزاخر. قبل ظهور الطابعة العربية وانتشارها في لبنان والبلدان العربية، كانت المعارف والعلوم حكراً على من كان يجيد القراءة والكتابة، وحبيسة مخطوطات قد يقضي سنوات في تدوينها او نقلها. وكانت المعرفة وقفاً على من يسعى اليها ويتجشم مشقة السفر والترحال بحثاً عن ضالته. اما بعد ظهور المطبعة وتطور فن الطباعة انعكس مسار المعرفة، فأصبحت هي التي تسعى الى طالبيها، ما شجع المفكرين والادباء والعلماء على التأليف ونشر ابداعاتهم بين الناس من دون تمييز او عراقيل. يوم نظمت نقابة اصحاب المطابع في لبنان، في عهد النقيب غالب البحيري احد اصحاب، ومؤسسي دار الاحد في بيروت اسبوع الحرف، دعا لحضور هذه التظاهرة الثقافية، البروفسور روبل رئيس جمعية غوتنبرغ ومدير متحفه في مدينة ماينس الالمانية. وقام النقيب البحيري آنذاك بإهداء متحف غوتنبرغ نسخة عن ناووس اجرام الذي نقشت على جوانبه حروف الأبجدية الفينيقية اشرف بنفسه على تصنيعها بالجفصين ومن ثم توضيبها بشكل يصونها من عاديات النقل وثم نقلها بواسطة احدى طائرات الشرق الاوسط الى ألمانيا. فكانت مفاجأة اذهلت البروفسور روبل فأفرد لها قاعة خاصة في متحف مانيس تقديراً منه لهذا الاثر الحضاري. كيف كانت صورة المطبعة العربية اواسط القرن الماضي منذ ان تأسست عام 1858 اولى المطابع اللبنانية؟ في ارشيف آل البحيري المغفور لهم رأفت وعزمي وشقيقهما غالب وعصام، عثرنا على رسوم نفذها كبيرهم الفنان رأفت لمطبعة البلاغة، التي اسسها والدهم محمد كامل البحيري، الى جانب صحيفة "طرابلس الشام"، عام 1893. افتتاحيات الصحيفة التي تولى تحريرها العلاّمة الشيخ حسين الجسر استاذ البحيري وأول من شجعه على تأسيس المطبعة والصحيفة وساعده لدى الباب العالي للحصول على الترخيص الرسمي. بعد وفاة الشيخ حسين عام 1909 تولى مكانه نجله البكر الشيخ محمد الذي هيمن على السياسة اللبنانية زمن الانتداب الفرنسي فانتخب رئيساً لمجلس النواب، وكاد ينتخب رئيساً للجمهورية بتأييد غالبية النواب المسيحيين قبل المسلمين، لولا تدخل المفوض السامي الفرنسي آنذاك غبريال بيو الذي حل مجلس النواب خشية ان تهتز صورة فرنسا كحامية للمسيحيين في الشرق إذا سمحت لشيخ مسلم ان يحتل اعلى منصب في السلطة. بعد وفاة محمد كامل البحيري عام 1920 توقفت الصحيفة عن الصدور كذلك المطبعة. لكن ابناء البحيري عادوا وأسسوا مطبعة "دار الاحد" في بيروت تنفيذاً لوصية والدهم التي نقلها عنه الشيخ محمد الجسر ولي امرهم اثناء متابعتهم دراستهم في بيروت.