مؤلف هذا الكتاب، ايف لاكوست، يدرس مادة الجغرافيا في جامعة باريس، ملتزم سياسياً، ومتخصص في قضايا العالم الثالث والمغرب. يدير منذ سنوات عدة مجلة "هيرودوت" المرموقة والمشهورة والتي تعنى بمسائل الجغرافيا - السياسية جيوبوليتيك - هذا الموضوع الذي يعتبره الكثيرون في فرنسا نوعاً ما ملكاً فكرياً لايف لاكوست، لما كان له من دور وتأثير في ترويجه في المجالات الجامعية والدراسية والسياسية. الأمة بمفهومها الغربي تعتمد قبل كل شيء على الجغرافيا السياسية، وهي، كما يذهب ايف لاكوست، تصور جيوبوليتيكي اساسي لأنها في جوهرها مسألة السلطات والاستقلال واللغة والأرض. ويرى بأن الأوساط الثقافية والاقتصادية، يمينية كانت أم يسارية، تلك التي تدعي ان مفهوم الأمة مسألة تم تجاوزها اليوم اقتصادياً وسياسياً، تنسى أو تتناسى حقيقة ان المواضيع التي ترتكز عليها المساجلات والمماحكات في فرنسا تتركز حول الديموقراطية والأمة وما يتبعهما من نتائج مهمة، تخدم أو تضعف اليمين المتطرف المتمثل في "الجبهة الوطنية" التي يقودها جان ماري لوبين. يرى لاكوست ان الحديث عن الأمة اصبح مشكوكاً فيه، اذ يحب الحديث عن أوروبا والعولمة. فهذان الأمران لا يمكن تجاوزهما فكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً. لهذا يأخذ اليمين المتطرف مسألة الأمة ويستغلها خدمة لمصالحه السياسية. فعلى المثقفين والسياسيين، اذن، ان لا يتركوا هذه الساحة له. فاليمين المتطرف يجعل من المهاجرين الخطر الأول المحدق بالأمة ويصورهم كمستعمرين وغازين يستعمرون ويغزون بغير الطرق المعروفة في التاريخ القديم. فصيحة "تحيا الأمة" المشهورة التي أطلقها قائد البحرية الفرنسية في 1792 كانت ضد الاحتلال البروسي. اما اليوم فإن هذه الصيحة أصبحت ملكاً للجبهة الوطنية تلعب بها كما تشاء وتشاء مصالحها السياسية الآنية. فصار من الضروري جداً الحديث عن الأمة من جديد مع استمرارية التكوين الأوروبي وتطور العولمة الاقتصادية والثقافية. لكن الحديث هذا يجدر ان لا يكون بهدف تقبيح مفهوم الأمة، مثلما أصبح معتاداً في فرنسا، بل من أجل تكوين فكرة جديدة عنها. فالأمة ليست مهددة في حدودها كما كانت الحال في السابق. اذ ان المانيا التي احتلت فرنسا صارت اليوم حليفة اساسية لها. والتهديد السوفياتي انتهى الى غير رجعة، فاليوم التهديد بالنسبة الى فرنسا من الداخل لا من الخارج وعامله الأول والأساسي هو البطالة التي بدأت قبل عشرين عاماً ولم تتوقف عن الازدياد والتطور رغم محاولات كل الحكومات الفرنسية ايقاف هذا الورم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، ولكن من دون جدوى. فهناك أكثر من ثلاثة ملايين عاطل عن العمل. ومن الممكن، كما ينبهنا الى ذلك لاكوست، ان تؤدي مشكلة البطالة الى تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية وتترتب على ذلك نتائج كبرى تقود الى خيارات سياسية وجيوبوليتيكية جذرية. اذ يزداد كل يوم عدد الفرنسيين ممن يعزون أسباب بطالتهم وصعوباتهم في العيش الى المهاجرين الأجانب الذين يقترب عددهم من أربعة ملايين شخص يعيشون في فرنسا دون أن يكونوا فرنسيين. فهذا العدد يجعل من الأمر مسألة جيوبوليتيكية فيما يخص تجاوزه نطاق الأمة والأجانب، الأرض والدولة، مراقبة الحدود والمحلات التي تتركز فيها الجاليات الأجنبية، لتصبح أيضاً مسألة مهمة في العلاقات الدولية. ولا يتورع جزء من الرأي العام الفرنسي عن توسيع حلقة ما يعنيه مفهوم "المهاجرين" أو "الأجانب"، بدافع الحذر أو النفور الثقافي، ليشمل العديد من الذين ولدوا في فرنسا من آباء ولدوا هم على أرض دول أخرى، والمغربية منها بشكل خاص. ومع أن هذا المنطلق مردود ومرفوض من قبل المثقفين الذين يتهمونه بالعنصرية، إلا أن النقاش حوله يتوسع يوماً بعد يوم والخطر يزداد لأن البطالة والهجرة صارتا مرتبطتين بانعدام الأمن وتزايد نطاق الخوف يومياً. ولا يتردد البعض، اليمين المتطرف بشكل خاص، من استغلال هذه الحالة للحديث عن "غزو" الأجانب والمهاجرين وتهديدهم الهوية الفرنسية وسلامة الأراضي الوطنية. فهذا الخطاب الذي يعتمد عليه اليمين المتطرف يؤثر في الطبقات الشعبية المهددة أكثر من غيرها بالبطالة وانعكاساتها. ويسير هذا الخطاب جنباً الى جنب مع المعارضة والعداء للاتحاد الأوروبي ولازالة الحدود السياسية بين الدول الأوروبية. وما دامت الأمور السياسية في الدول الديموقراطية تعتمد على نتائج الانتخابات فإن هذه الأفكار واستمرار البطالة وما يواكبها من شأنها ان تقود الجبهة الوطنية الى التأثير أكثر فأكثر على الحياة السياسية. وقد تقودها الظروف الى السلطة. وهذا أحد الاحتمالات التي يتحدث عنها ايف لاكوست، رغم أنه لا يعتبرها واقعة بالفعل. إلا أنه كما يقول، من الضروري التفكير بما هو اسوأ الاحتمالات درءاً لحدوثه. ولكنه يؤكد ان الجبهة الوطنية حتى إذا لم تتمكن من الوصول الى دفة الحكم فإنها لا شك ستكون عاملاً أساسياً لحدوث أزمة كبرى لا مفر من حدوثها في السنوات القادمة. أصدر ايف لاكوست كتابه قبل أشهر فجاءت نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في آذار مارس الماضي لتدل على صحة منظوره، على الأقل في ما يتعلق بالخطر المحدق بالأحزاب اليمينية التقليدية، إذ أصبحت الجبهة الوطنية الحكم الذي يقرر نجاح عدد من ممثلي تلك الأحزاب أو هزيمتهم. وصارت اليوم من دون أي شك السلاح المهدد بانفجار بعض التحالفات بين الأحزاب والتيارات اليمينية التقليدية، فتدفعها التطورات الأخيرة الى إعادة ترتيب البيت من جديد قبل أن تعصف به عواصف الجبهة الوطنية في عنفها العنصري. ما يجب عمله لمواجهة صعود اليمين المتطرف في فرنسا هو تغييرات سريعة تتميز بالاستمرارية والتأثير على الحالة الفكرية والتي يمكن انجازها بفضل وسائل الاعلام القوية. فللأفكار أهمية كبرى في التأثير على الوضع السياسي. لذا يجب إحداث تغيير عبر هجوم مضاد على حجة الجبهة الوطنية وبشكل خاص ما يتعلق بفكرة الأمة وسحبها من يدها كأداة للاقناع والتخويف. والهجوم هذا يجب، برأي لاكوست، ان يعيد الاعتبار الى فكرة الأمة ومفهومها، بل بشكل خاص يركز على ماضيها التقدمي سياسياً وانسانياً. وما يقترح دراسته او التفكير فيه هو دور العامل الجزائري في الأزمة السياسية المتعلقة باليمين المتطرف، فآخر أزمة سياسية كبيرة في تاريخ فرنسا تعود الى استقلال الجزائر. اذ انقسم المجتمع الفرنسي بشكل واضح بين مؤيدي الجزائر المستقلة والجزائر الفرنسية. فالعنصرية الحالية النابعة اساساً من بين مؤيدي الجزائر الفرنسية توجه سهامها بدرجة أولى الى العرب المغاربة واحفادهم الجزائريين قبل غيرهم من القوميات الكثيرة المتعددة التي تعيش في فرنسا ولم تعمل الحرب الجزائرية الدائرة منذ سنوات وصعود التطرف الاسلامي ونتائجهما في فرنسا وعليها. وما يعرض منها الاعلام، إلا على تأجيج المشاعر الكمينة المعارضة للاجانب، المسلمين منهم في أول الأمر. ومن بين وسائل الوصول الى هذا الهدف ان تأخذ اللغة الفرنسية اهميتها الكبيرة، فيقترح تعريفاً يقول بأن الفرنسيين "هم الذين يتحدثون، في فرنسا، اللغة الفرنسية ويحترمون قوانين الجمهورية". من الصعب ألا يقبل الانسان بهذه الطريقة لاعادة الاعتبار الى عدد من الافكار القوية التي كونت فرنسا الجمهورية. ومن المفيد التفكير بما يحذر منه المؤلف، قبل ان يحرق نار التطرف ما هو أخضر وما هو يابس.