في حين جرت العادة ان يصطحب رؤساء الجمهوريات زائريهم الى المواقع والمعالم الحضارية، اصطحب نيلسون مانديلا رئيس جمهورية جنوب افريقيا نظيره الاميركي بيل كلينتون الى الزنزانة التي أمضى فيها قرابة الربع قرن، والتي غدت قرينة لنصب الجندي المجهول، وواحدة من الاشارات المكتنزة بالدلالات الفورية العميقة. صورتان تنتميان الى منظومتين مفاهيميتين ليستا فقط على خصام، وانما هما، فوق ذلك، متصادمتان على نحو لا ينتج غير العنف والإبادة والنفي: انها صورة الضحية في مواجهة "أليفة" مع صورة الجلاد، وهما صورتان ليس بمقدور زمن غير نهايات القرن الحالي ان يؤالف بينهما الى الحد الذي تعترفه فيه الأغلال: نعم هذا ما جنته عليّ سلطتي الغاشمة! نهايات القرن الآفل تَدْفُقُ المزيد من التناقضات في وجه النمط والعادة والألفة بما هي - أي المعاني الثلاثة الأخيرة - مدعاة للطمأنينة وتأجيل الهواجس وقلقها الممض. فالزنزانة التي حنّت طوال خمسة وعشرين عاماً لبصيص ضوء، والجلد الأسود الذي هرأته العفونة والعطونة واللزوجة والكوة التي كان يحادث من خلالها مانديلا زوجته ورفيقة دربه ويني التي انفصل عنها أخيراً... كلها نهضت وذكّرت السيد الأبيض وزعيم أكبر دولة في العالم بمظالم شعب غضت على حدود الموت أشواقه، ونُهبت ثرواته احتجاجاً على قسمة البيولوجيا التي انتجت إنسيين بيضاً وآخرين سوداً، فدفعوا ضريبة الصدفة البيولوجية تكاليف باهظة من أرواحهم ومقدراتهم وحقهم الطبيعي في الانتماء الى المجتمع البشري الذي صار قرية كونية هم خارجها. ولم يكن التمييز العنصري سوى ذريعة أو نتيجة تفتقت عنها ذهنية الإبادة الاميركية للسيطرة على ثروات هذا البلد الذي ابتلي بالغزاة منذ نزل فيها جان فان ريبيك "أول ممثل لشركة الهندالشرقية - الهولندية" في 6 نيسان ابريل 1652 وجاء بموظفيه كي يضعوا ايديهم على المحاصيل الزراعية لتجيء بعد هولندا انكلترا في عام 1814 واستمرت حتى مطالع القرن العشرين لتعود شهوة الاستعمار فتتأجج على أيدي الاميركان البيض الذين اقاموا دولة عنصرية بقوة النار والبارود ولم تلبث ان انهارت تحت معاول الحركة الوطنية والثوار الأفارقة الذين ألهبوا ضمير العالم بمطالبهم العادلة وببؤس "الحضارة" الاميركية الاستبدادية. قوة البارود البشري الأسود تلك كسرت قيود الزنزانة، وطوحت بقضبانها في وجه الريح وهتكت عتمة اللزوجة، وأعادت الاعتبار لأقدم سجين سياسي في العالم وانتخبته رئىساً في خطوة أزالت الفارق بين الحلم والواقع، ونفخت في روح الأفكار الكبرى قبساً من حكمة الحياة وتجاربها الملهمة. كلينتون ومانديلا: مؤاخاة الضرورة البراغماتية حيث جنوب افريقيا ما تزال منجماً للثروات، تماماً كما كانت قبل زمن قصير منجماً للعذابات والبهجات المسفوحة، وحيث المصالح تقتضي ان يغض المرء الطرف قليلاً، ويؤجل الاحقاد والاحتقانات أو يتناساها الى حين توقيع اتفاقية أو المصادقة على معاهدة سرعان ما يجف حبرها وتحتضنها الملفات والأرشيف. الزنزانة باقية كمعلم حضاري. الزنزانة تذكر، والقضبان ألسنة خرساء. كم من دموع تحجرت في الزوايا وانساحت على الاسمنت البارد وكم من الاحلام اطلقت جنوب افريقيا كي يكون بمقدورها ان "تجلب" رئيس أكبر دولة في العالم - الدولة التي سامتها سوء الاضطهاد كيما تجعله يقرأ اسطورة الشعوب، اذ تقلب الطاولة مرغمة إياه ان يقبر أوهامه ويسجنها في تلك الزنزانة. لكنه لا يتعظ فالقوة الغاشمة أوكسجينها الزنازين وفضاؤها العتمة... ولكن مصيرها العار والنسيان!