كوفي انان رجل هادئ متواضع، ومن نوع يوحي بأنه يمكن أن يكون محل ثقة، ومفاوضاً جيداً، وسياسياً غير منحاز إلا لقرارات مجلس الأمن ومصلحة الأممالمتحدة. هذه الاوصاف، وكلها إيجابية، وكثير غيرها وأيضاً إيجابية، أضفت على الأمين العام للأمم المتحدة هالة رافقته خلال رحلته في ربوع الشرق الأوسط. ولم تتخل عنه. وهو لم يفعل ما يقلل جمال هذه الهالة ورهبتها. ومن ناحية المضيفين فهؤلاء كذلك لم ينقصوا من مكانة الرجل أو استحقاقه هذه الهالة ففي كل عاصمة عربية، ابتداء من بغداد في الرحلة الاولى، حتى آخر محطة في القدس العربية كان الكل العربي، السياسي كالإعلامي، حريصاً على تأكيد اقتناعه بهذه الصورة للرجل الذي اختارته - أو رشحته وشجعت على اختياره - الولاياتالمتحدة ليحل محل بطرس غالي أميناً عاماً للامم المتحدة. بدأ أنان مهمته في إصلاح الاممالمتحدة بداية جيدة، لكنه لم يحصل على رضا الجمهوريين في الكونغرس الاميركي. ولكن اختلف التعبير عن الرضا هذه المرة عن التعبير عن عدم الرضا في عهد غالي. في الأصل والجوهر لم يتغير شيء. فالجمهوريون، وقطاع يميني متطرف في الرأي العام الأميركي، رافضون لمبدأ المنظمة الدولية. هم أيضاً رافضون - من دون إعلان - لكل المنظمات الدولية الأخرى مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية، لأنهم يعرفون أن تطبيق مبادئ تحرير التجارة وبعض قواعد العولمة وتقاليدها سيتعارض يوماً، مع مصالح اميركية. يريدون هذه المنظمات - جميعها - منفذة حقيقية وواقعاً لإرادة الولاياتالمتحدة، وتابعة لها. لكنهم يدركون ان هذه التبعية لن تتحقق كاملة تحت أي ظرف، لأن العالم مازال مسرحاً يتعدد فيه الممثلون واللاعبون وكل ممثل أو لاعب يريد أن يمارس دوراً ولو بين الحين والآخر، ولكل ممثل أو لاعب مصلحة أو نظام قيم قد يختلف قليلاً جداً مع المصلحة الأميركية. يبقي ان المشكلة في العقل اليميني الاميركي هي بين الاقتراب الذهني الشديد من فكرة أن الولاياتالمتحدة صارت مركزا امبراطوريا وبين الواقع غير المريح المتمثل في ان التعدديات السياسية والثقافية والقيمية مازالت اقوى من ان تستسلم لوحدانية امبراطورية اميركية. وأظن أن وزارة الخارجية الاميركية تعرف هذه الحقيقة أكثر من غيرها. وأظن ايضا ان قسطا كبيرا من جهودها مخصص لإقناع قادة جمهوريين، وقطاعات في الرأي العام بأن السياسة الخارجية الاميركية بشقيها العسكري والديبلوماسي تعمل لتحقيق هذا الهدف الامبراطوري ولكن تحت مسميات اخرى تكون اكثر انسجاما واتساقا مع مفاهيم العصر، وفي الوقت نفسه تراعي التدرج والواقعية. فالواقع اثبت في اكثر من قضية ان الولاياتالمتحدة مازالت بعيدة جدا عن تحقيق هذا الهدف، ومازالت تجد صعوبة في تنفيذ سياسات هيمنة كثيرة خططتها ونسقتها بدقة شديدة، ولكن عند التنفيذ الفعلي اصطدمت بعقبة واقع التعددية السياسية والرأي العام الدولي. واذا راجعنا ببعض الدقة احداث الازمة الاخيرة بين العراقوالولاياتالمتحدة سنجد ما يؤكد - في ما اظن - جانبا أو جوانب من هذه المشكلة الاميركية. فزيارة كوفي انان لبغداد، بعدما كان تقرر الغاء رحلته الى الشرق الاوسط هي حدث من هذه الاحداث التي تؤكد مشكلة اميركا. اذ تردد - واظن انه صحيح - ان الزيارة تمت بناء على رغبة - في أساسها - اميركية، وليس كما قيل آنذاك بموافقة اميركية بعد تردد طويل. اعتقد ان واشنطن شعرت عند لحظة معينة في الازمة انها في هذه الازمة استندت اكثر مما يجب الى الحق الامبراطوري في التدخل المنفرد، اكتشفت آنذاك ان المقاومة للتدخل العسكري، منفرداً أو غير منفرد، كانت اقوى واشد فاعلية مما حسبه المخططون والمسؤولون عن ادارة الازمة. واكتشفت - وهو الاهم - ان الرفض للحق الامبراطوري كان مدوياً لأنه جاء من اقاليم ودول وشعوب افترض اليمين الاميركي انها جميعا - بفضل اتفاقات ثنائية وجماعية ومعونات اقتصادية ونفوذ سياسي واختراق في عمق الاعماق - اصبحت جزءاً مندمجاً في الوضع الامبراطوري الاميركي. ان القادة الجمهوريين الذين انتقدوا رحلة أنان الى بغداد ثم هاجموا الاتفاق الذي توصل اليه، لم يعرفوا وقتها كما يبدو، ان الامين العام كان في بغداد في مهمة اميركية واقعاً و"دولية" شكلاً ولم يعرفوا انه ربما كان ممكناً أن يبذل جهدا ويصل الى اتفاق يؤجل تنفيذ القرار الاميركي بضرب العراق، وانه يستطيع ان يقدم - بصفته الدولية - تنازلات "اكثر قليلاً من لا شيء وأقل قليلا من شيء". بذلك يحصل العراق على ما ينقذ ماء الوجه وإن كان رمزياً، وتحصل واشنطن على ما يؤجل الضرب وإن كان ايضاً رمزياً. ويهدأ الرأي العام الدولي والإقليمي، ويحصل الامين العام على اعتراف "عربي" ودولي بأهليته للثقة، وتتكون له صدقية تنفع يوم تحتاج واشنطن الى استئناف تنفيذ عملية ضرب العراق، أو أي عملية تدخل اخرى. وأعتقد أن الامين العام تأكد من خلال رحلته الأخيرة الى عواصم الشرق الأوسط انه حاصل فعلاً على ثقة المسؤولين العرب وإعجابهم، وكذلك الإعلاميين العرب. ولكن يبدو أن هذه "النعمة" التي يتمناها اي مسؤول دولي كبير ولا يحصل عليها بسهولة تسبب لكوفي أنان بعض القلق. وواضح ان التوقعات في المنطقة مما يمكن ان يفعله الامين العام ارتفعت الى حدود لم يكن انان ولا الاميركيون يريدون ان ترتفع اليها. فلا انان قادراً أو مكلفاً أو مؤهلاً لترتيب ما يسمى مسيرة التسوية في الشرق الاوسط، ولا اميركا جاهزة لأن تقدم للمسؤولين العرب والرأي العام العربي في الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي وغيره ما يجمل صورتها التي بدت قبيحة خلال ايام الازمة مع العراق. لكن المهم - وهو ما تفعله الآن الادارة الاميركية واجهزة الاعلام الغربية - ان تتحسن سمعة الشرعية الدولية التي يجسدها انان في شكل مؤثر ومتحضر. فالشرعية الدولية وإن فشلت او قصرت في تحقيق التسوية العادلة للصراع العربي - الاسرائيلي إلا انها استعادت على الأقل بعض مكانة قد تنفع في احياء جبهة جديدة مناهضة للعراق او تشكيل جبهة مناهضة لايران ان احتاج الامر. وللحق كان أنان صادقاً على رغم انبهاره بحرارة الاستقبال العربي، إذ قال ما معناه انه ساحر لكنه لا يمارس العاباً سحرية. وربما قصد ان سحره الذي نفع في بغداد لا ينفع في اسرائيل أو ربما أراد القول انه أتى الى هذه الرحلة غير مزود مؤهلات السحر التي استخدمها في بغداد. كاد يقول في الواقع أنه لم يأتِ الى المنطقة من اجل الصراع العربي - الاسرائيلي، لذلك لم يزد ما قاله في هذا الموضوع عن الاشارة الى المستوطنات الاسرائيلية. فالاشارة هنا آمنة لأن قرارات في شأنها صدرت عن الاممالمتحدة، وهي ايضاً دافعة للثقة لأنها تداعب المشاعر العربية او تدغدغها. وعلى كل حال هذا تماماً ما فعله روبن كوك خلال زيارة صاخبة للمنطقة لم يستفد الفلسطينيون وبقية العرب منها سوى الموقف اللفظي من قضية توسيع المستوطنات. عند هذا الموقف انتهت الزيارة، وبهذا الموقف تكون أوروبا، كالأمين العام، وكالولاياتالمتحدة من خلال مبادرتها الجديدة، ابرأت ذمتها.