الكثير من المهن الحرفية التي تعتمد على موهبة الحرفي، ثم على مدى اتقانه اليدوي في استخدام الأدوات التي تحتاجها تلك المهن بدأت في التواري في الظل، بعدما بدأت التكنولوجيا تغزو مناطق تلك الحرف من خلال أدوات الانتاج الجماعي، مثل الانتاج بشكل ضخم، كما هو الحال بالنسبة لحرف الغزل والنسيج، مما أدى في النهاية إلى انقراض الحرف المتعلقة بها، بعدما أصبح الحصول على قطعة قماش منسوجة ميكانيكياً أفضل وأرخص من شراء قطعة يدوية، على رغم ما يبديه البعض من حنين تجاه الغزل والنسيج القديم، ثم تبع ذلك تواري المهن المرتبطة بها مثل مهنة "الترزية" أو "الحياكة"، والتي أخذت طريقها نحو الانقراض بعد أن أصبح ثمن "بدلة جاهزة" يوازي تقريباً أجر "التفصيل". وهناك العديد من المهن والحرف الأخرى التي اختفت أو توارت وبدأت تسلك طريقها إلى الانقراض. لكن بعض الحرفيين يصرون على مواجهة عوامل التقدم التي تشبه تماماً عوامل التعرية في الطبيعة، فيقررون مواجهة رياح الحياة العاتية ويقفون في وجه الأمواج، مع أنهم يعلمون تماماً ان مقاومتهم لا أمل فيها، والمستقبل يحمل لهم اندثاراً محققاً مهما طال الزمن. من هذه المهن التي تحتاج إلى موهبة حقيقية، والتي انقرضت بالفعل، مهنة التصوير الضوئي، أو ما يسميه البعض "التصوير المائي"، على اعتبار ان الماء يلعب جزءاً مهماً فيها، وهي تسمية خاطئة بحسب ما يقول محترفوها، لأن ذلك السائل الذي يعتقد البعض أنه ماء ليس إلا أحماضاً يستخدمها المصور في "تظهير" الصورة السلبية، والماء لا يدخل إلا في المرحلة النهائية، والتي تدخل في "غسيل" الصورة وتنظيفها من الأحماض. هذه المهنة أو الحرفة لم تكن تعتمد فقط على ماكينات التصوير الضوئي، بل كانت تعتمد على موهبة من يقف خلف تلك الماكينة البدائية، ويدخل رأسه في "كم" من القماش الأسود، ويظل يراقب الجالس أمامه وانعكاسه على المرايا العاكسة، ويحلل لونه وكمية الضوء المنعكسة عليه. وكل هذا يتطلب موهبة لم تعد مهنة التصوير الحديثة في حاجة إليها. فتلك أمور أصبح من الصعب وجودها في ظل التقدم التكنولوجي الذي يخرج على الدنيا بشكل مختلف عن سابقه، ولم تعد هناك حاجة إلى "فنان موهوب" يقف خلف الكاميرا، لأن الكاميرات الحديثة تحلل الضوء وتضبط كميته وتنطلق بشكل "اوتوماتيكي". هؤلاء الحرفيون يرون أن عملهم يشبه عمل الفنان لا زمن له ولا عمر، لذلك قرروا مواجهة آلة التقدم "الجهنمية" التي تحولت إلى "غول" يأكل من يواجهه، ومن محترفي مهنة التصوير الضوئي من وضع آلته في مكان عام كما كان يحدث سابقاً، وقرر أن يقول للعالم "أنا هنا"، ومن هؤلاء "العم رامون"، أو "التيو رامون" كما يطلقون عليه في مدينة سيغوبيا الاسبانية، التي يعيش فيها منذ مولده قبل تسعين عاماً، قضى معظمها يمارس مهنة التصوير الضوئي. يقول العم رامون إنه قضى في تلك المهنة أكثر من خمسة وسبعين عاماً، لأنه مارس تلك المهنة منذ أن كان في الرابعة عشرة تقريباً، بعد أن مارسها كهواية في البداية، ثم سرعان ما تعلق بها لتكون مهنته، عرف خلال تلك السنوات - كما يقول - "السفح والقمة والهاوية"، لأنه بدأ مساعداً لأحد المصورين، فكان يحمل الماكينة على كتفه، ويتوجه إلى الاماكن التي كانت في حاجة ماسة إلى التصوير، مثل الوقوف أمام أبواب المحاكم أو المجلس البلدي، أو أمام مكاتب "استخراج الهوية الشخصية". مر الزمن وذهبت معه مرارة التعرض للبرد والأمطار وحرارة الصيف، وجاء وقت من الأوقات كان فيه رامون "نجماً" حقيقياً عندما كان يمتلك معملاً خاصاً به، فكان فناناً في تصوير الحفلات والأفراح والليالي الملاح، وكان البعض "يحجز" في طلبه مقدماً، وتلبية الطلب تخضع لوقت رامون الفنان، إذ، كما يؤكد رامون، في الكثير من الأحيان، كانت حفلات وأفراح وأعراس يتم تأجيلها لأن "الفنان رامون" مشغول. وشيئاً فشيئاً بدأ الزمن يكشر له أنيابه، فدخلت التكنولوجيا إلى عالم التصوير، ورغم ذلك أصر رامون على أن يكون فناناً هاوياً في "معمله"، أي عاد إلى زمن الهواية من جديد، وظل يقف على قدميه يقاوم اختفاء الزبائن، وتحولهم عنه إلى الماكينات الملونة، ثم سرعان ما غزت الماكينات التصويرية الحديثة هذا العالم، ولم يعد المصور في حاجة إلى موهبة كما كان الحال سابقاً. وفجأة وجد العم رامون ان العمر تقدم به ايضاً، وأصبح وماكينته خارج هذا الزمن السريع الخطوات، إلا أنه قرر أن يظل هو رامون ما تبقى له من عمر. فخرج من معمله بعد أن تعب من الايجار وتكلفة الأدوات، وحمل ماكينته على كتفه وعاد من جديد إلى الشارع، لكنه هذه المرة لم يقف أمام أبواب المحاكم ومكاتب استخراج الهويات الشخصية كما كان يفعل في الماضي، لأن تلك الأماكن لم تعد تحتاج إليه، بل اتجه إلى الاماكن السياحية التي يقبل عليها السياح بحثاً عن متعة المشاهدة، مشاهدة أي شيء تاريخي قديم، و"العم رامون" جزء من تاريخ مدينته، وجزء من تلك المشاهدة الممتعة التي يبحث عنها السائح. لذلك وضع ماكينته القديمة إلى جوار آثارها، ووقف يراقب الجميع. ومن وقت لآخر يجد من يطلب منه صورة تذكارية، صورة يلتقطها له أمام بعض الاشكال التي كان يستخدمها رامون في الماضي لجذب الزبائن. رامون تحول إلى قطعة أثرية تماماً كالماكينة التي يتعامل معها. إنه يعرف ذلك. وتطل السعادة من عينيه عندما يجد أن عمله تحول إلى هدف "ماكينات التصوير" المعاصرة، التي يحملها السياح بين أيديهم، ويلتقطون له صورة ببساطة تفوق الوصف، بينما قلبه ينبض بشدة وهو يمسك بماكينته القديمة، ويتحسر على الزمن الذي كانت فيه مهنة التصوير فناً حقيقياً.