تواجه العلاقات المصرية - الأميركية حالات متواصلة من التوتر السياسي ارتفعت حدته خلال الأيام القليلة الماضية إثر تحذير أصدرته وزارة الخارجية الأميركية للرعايا الأميركيين في مصر من "هجوم إرهابي قريب" على أيدي جماعات أصولية. وكان من الطبيعي أن يُقابل هذا التحذير بانتقاد المسؤولين في القاهرة، خصوصاً أن اعلانه تلازم مع مشروع قانون وضعته لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس يصنف مصر بين خمس عشرة دولة متورطة ب "اضطهاد الأقليات الدينية". وعلى رغم حذف أسماء الدول من قائمة الصيغة المعدلة، إلا أن مصر اعتبرت المشروع تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية... ومساً بصلابة الوحدة الوطنية القائمة منذ مئات السنين بين الأقباط والمسلمين. وأعد هذا المشروع وتبناه أرلين سبيكتر رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس وأحد أبرز المؤيدين لاسرائيل. وتكمن خطورة المشروع في أنه يعطي الكونغرس الحق في اصدار قرارات بمعاقبة كل دولة تضطهد الأقليات الدينية، علماً أنه يترك لرئيس الجمهورية صلاحية النقض الفيتو إذا رأى ان ذلك يضر مصالح البلاد. وواضح من مراجعة الأحداث التي قادت الى تنامي هذه الأزمة الصامتة بين واشنطن والقاهرة، ان هناك دوافع سياسية عميقة تحرك موقف الكونغرس وتدفع الإدارة الأميركية الى افتعال خلافات مع مصر. ويقارن المراقبون بين تعاطي أميركا مع السياسة المصرية الحالية، وبين تعاطيها سابقاً مع سياسة اليونان في عهد باباندريو. والثابت في سجلات وزارة الداخلية ان الاستخبارات الأميركية زرعت ثلاث قنابل في مطار أثينا، ومنعت الفرق الموسيقية وشركات السفر والسياحة من التعامل بحرية مع اليونان، مما أحدث انهياراً في القطاع السياحي في هذا البلد. وأعلن باباندريو في رده على الموقف الأميركي أنه موقف ذيلي ينفذ سياسة اسرائيل التي انزعجت من استقبال اليونان ياسر عرفات وزعماء المقاومة الفلسطينية. وبالمقارنة يمكن تفسير سلوك الادارة الأميركية والكونغرس نحو مصر بأنه نوع من التبعية المرتبطة باستراتيجية اسرائيل في المنطقة. وبناء على هذه الافتراضات فسّر بعض المحللين مذبحة الأقصر بأنها عقاب أمني للسياحة في مصر رداً على قرار القاهرة مقاطعة المؤتمر الاقتصادي. ودليلهم على ذلك أن الوزيرة الأميركية مادلين أولبرايت كانت اعربت في احدى المقابلات التلفزيونية عن شكوكها في أن يحمي قرار المقاطعة الأمن الوطني، وحذرت المقاطعين بقولها ان الأذى سيلحق بهم، ودعمت عناصر هذا الافتراض وسائل الإعلام الاسرائيلية التي بثت خبر المذبحة لحظة حدوثها كأن هناك معرفة مسبقة بالحادث. ويستدل من هذا الترابط الذي يسيّر السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لمصلحة اسرائيل، أن الاختلاف مع مصر كان دائماً يخدم اسرائيل. مثال ذلك ان الاستخبارات الأميركية اتهمت القاهرة بالتورط بتسليم المعارض الليبي منصور الكيخيا الى القذافي، عندما يئست اسرائيل من احتمال الافراج عن الجاسوس عزّام المحتجز في مصر. ورد الرئيس حسني مبارك على هذه الافتراءات باتهام الاستخبارات الاميركية باخفاء الكيخيا مذكراً بدورها في عملية اخراج سفير كوريا الشمالية من القاهرة. يجمع المحللون على ان الولاياتالمتحدة واسرائيل تحاولان عزل مصر أو إضعاف دورها الاقليمي، بعدما ضمنتا خروجها من دائرة الحروب عن طريق اتفاق السلام. وتنبه الرئيس مبارك الى اخطار مشروع الشرق الأوسطية الذي تعتبره اسرائيل بديلاً من بناء موقف عربي سليم وموحد. وحذر من عواقب خلق محاور لاستقطاب أطراف عربية بهدف قلب التوازنات القائمة، وقال في خطبه أن إعادة ترتيب المشرق العربي على نحو لا يخدم مصالح شعوبه تمثل معادلة صعبة التحقيق. ويرى المسؤولون في القاهرة ان حديث أميركا عن الارهاب في مصر... والاضطهاد الديني في الدول المناهضة لسياسة اسرائيل، ليس أكثر من ظاهرة عرضية لحملة تشويش يراد بها تغيير سياسة مصر، أي السياسية المبنية على الثوابت الآتية: أولاً - ان اعلان المبادئ الفلسطيني - الاسرائيلي نص على أن القدس موضوع تفاوض... وان الاجراءات الاسرائيلية في المدينة باطلة وغير شرعية، وبالتالي فإن مصر تعتبر القدس جزءاً من الأراضي العربية المحتلة، وترفض كل عمليات تهويدها واعتبارها عاصمة نهائية لاسرائيل. والقدس قضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل جميع العرب والمسلمين، لذلك يستحيل على مصر الوقوف على الحياد في شأنها. ثانياً - ترفض مصر وضع مبادئ جديدة لعملية السلام، وتطالب بتنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، اضافة الى اتفاقات أوسلو. ثالثاً - ربط أهداف المؤتمرات الاقتصادية المتعددة الأطراف بأهداف عملية السلام، وضرورة تأمين السيادة والحرية للجانب الفلسطيني بحيث يستطيع ممارسة حقوقه استناداً الى المواثيق الدولية. رابعاً - وقف سياسة الاستيطان لأنها تشكل انتكاساً لعملية السلام، وتهديداً لطموحات الفلسطينيين، وتحريضاً على نمو حركات العنف وتيارات التطرف. خامساً: عودة الأرض الى أصحابها في الضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان، كوسيلة لتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي. هذه الثوابت تحدد السياسة العربية لمصر والتي تتعارض في بعض جوانبها مع سياسة اميركا في المنطقة. وهي ترى مثلاً ان رعاية واشنطن لعملية السلام لا تسمح لها باستخدام الفيتو مرتين، كأنها بذلك تعطي الضوء الاخضر لاسرائيل بحيث تستمر في سياستها الاستيطانية. ومثل هذا الانتقاد اعتبرته الادارة الاميركية رفضاً لسياستها عموماً في وقت ترفض مصر الممارسات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، وانحياز اميركا الى هذه الممارسات. كما ترى واشنطن ان القاهرة هي التي تحمي موقف عرفات وتدعمه في مواجهة نتانياهو، مما "يعرقل" مسيرة السلام. وفي رده على هذا الاتهام يقول وزير خارجية مصر عمرو موسى ان بلاده تؤيد حق تقرير المصير للفلسطينيين، وحقهم في الدولة والارض. وهو يتوقع تردي الموقف التفاوضي لأن نتانياهو لا يريد التحرك باتجاه عملية السلام. والشاهد على ذلك الاجراءات الاسرائيلية، سواء في المستوطنات، أم في القدس، ام في كل الاراضي المحتلة، بدءاً بالضفة مروراً بجنوب لبنان وانتهاء بالجولان. ويؤكد الوزير موسى دائماً ان بلاده تريد من وراء مصارحتها وصداقتها للولايات المتحدة اظهار المواقف التي تخدم عملية السلام بحيث لا تحرم واشنطن من دورها كوسيط نزيه. وعلى رغم ان مصر لم تفقد الامل بموضوعية الموقف الاميركي، مثل سورية، الا انها كسورية بدأت تراهن على كسب الموقف الاوروبي لعلها توازن به عملية التردي التي أصابت العلاقات العربية - الاميركية. وهذا يستدعي بالضرورة تحسين شروط العلاقات مع كل دول المنطقة بما فيها ايران، والحفاظ على الاستقرار الداخلي بطريقة تمنع التدخل الخارجي. وأعطى الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني شهادته في هذا الاطار، مؤكداً ان النضال ضد الكيان الصهيوني صعب من دون مصر. وربما تشاطره واشنطن هذا التقويم، خصوصاً بعد فشلها في ربط مصر بدائرة نفوذها الاستراتيجي، بعد مرور عشرين سنة على اطلاق المساعدات الاقتصادية. وعلى رغم الارباك الذي احدثته عمليات الأصوليين، إلا ان الاقتصاد المصري يمر في أفضل اختباراته، فالاحتياط النقدي وصل الى 22 بليون دولار… اضافة الى الاعلان عن 29 مشروعاً صناعياً تبلغ نفقاتها 31 بليون دولار. وفي تقديرات الخبراء ان "مشروع توشكي" الذي ستبلغ نفقات تنفيذه 90 بليون دولار، سيحل مشكلة الاسكان في رقعة تزيد على 25 في المئة من الأراضي الصالحة للاستيعاب أكثر من 20 مليون شخص. في مجال المقارنة بين الموقفين الأميركي والأوروبي من مصر، يقول المسؤولون ان أميركا أصدرت تحذيراً لرعاياها من احتمال حدوث هجوم ارهابي في مصر… في وقت رفضت لندن منح ثلاثة ناشطين اسلاميين مصريين تأشيرات لحضور مؤتمر في بريطانيا. ووصل الى القاهرة قبل توني بلير وفد مؤلف من 14 نائباً بريطانياً يمثلون الأحزاب الثلاثة برئاسة كين برغز، مسؤول العلاقات الخارجية في حزب العمال. ويتوقع ان تتناول محادثاتهم العلاقات السياسية والاقتصادية من منظور العملية السلمية التي تعتبر أوروبا نفسها شريكة في ترسيخها. كما تتناول الحديث عن النظام السياسي في مصر، وكل ما يتعلق بالتطور الديموقراطي وأسلوب التعامل مع جماعات الاسلام السياسي بكل فصائلها. ومع مراجعة الموقف الاقليمي يتبين ان مصر كانت أقرب الى أوروبا منها الى أميركا، في التعاطي مع أزمة العراق الأخيرة. ويبدو ان واشنطن قلقة من فك ارتباط غالبية الدول العربية بها، والاتجاه نحو أوروبا المتوافقة معها ازاء عدد كبير من الامور السياسية والامنية والاقتصادية. ويمكن وضع زيارة الوزير موسى للبابا يوحنا بولس الثاني في هذا الاطار، وهي الزيارة التي ركزت على موضوع الحملة الغربية ضد مصر في شأن معاملة الأقباط. والحملة استهدفت البابا شنودة الثالث بسبب موقفه من القدس ومنعه الاقباط من زيارة الأماكن المقدسة كونها ما زالت تحت الاحتلال الاسرائيلي. وتدخل اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة مع فريق من الكونغرس متعاطف مع الدولة العبرية، لخلق ما يسمى جمعية اقباط المهجر، تماماً كما شكلت جمعية المسيحيين - الصهيونيين. وعلى الفور تقرر وضع مشروع مراقبة "الاضطهاد الديني" الذي يعنى بموضوع معاملة الاقليات الدينية في بلدان مثل الصين ومصر والسودان. واستغرب المستشار السياسي للرئيس المصري الدكتور اسامة الباز الادعاءات الاميركية في شأن اقباط مصر، وقال ان لا فرق بينهم وبين المسلمين، لا في الحقوق ولا في الواجبات. وكتبت الصحف في ردها على هذه الحملة المتجنية تؤكد ان قنابل الجماعات المسلحة حصدت من المسلمين اكثر مما حصدت من المسيحيين، وان اعطاء هذه الاحداث بُعداً طائفياً هو مشروع فتنة داخلية يصعب تنفيذه في بلد عرف بالتسامح والتعايش. حدث بعد احتلاله القدس عام 1967، ان التحق الجنرال اوزي ناركيس بجامعة هارفرد حيث كان يدرّس هنري كيسنجر مادة التاريخ والاستراتيجيا. وسأله هنري مرة عن المدة التي تستطيع اسرائيل خلالها احتمال وضع الاحتلال. وأجابه ناركيس بعنجهية مستشهداً بكلام نابليون، وقوله ان الجيش الذي يحتل بلداً ما مدة خمس سنوات من دون ان يواجه مقاومة يمكنه ان يستمر في الاحتلال خمس عشرة سنة. وأكمل الجنرال الاسرائيلي جوابه بتأكيد ان اسرائيل تستطيع ممارسة الاحتلال خمسين سنة. عندئذ رد عليه كيسنجر محذراً: اخشى يا أوزي ان نصل الى وقت تصبح فيه اسرائيل وأميركا في جهة... بين الدول العربية ومعها كل دول العالم في جهة اخرى، اذا استمر العمل في تطبيق قاعدة القوة على النحو الذي ذكرت. وفي عهد نتانياهو لا بد ان تصدق نظرية اوزي ناركيس