وتوقّف عرض مسرحية "العرس" بعد عرض الافتتاح على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق في 15/3/1998. توقف في اليوم التالي من أجل اجراء تعديلات مشروطة على النص البصري، منها ما كان لمصلحته، ومنها ما كان لمصلحته أيضاً. الاولى، خَدَمَتْهُ فنياً. والثانية كانت تأشيرة مروره ثانية على الخشبة. كانت الصحافة المحلية ترافق تحضيرات العرض والبروفات. ومن ثم تزفّ لقرائها نبأ قرب موعد مسرحية "العرس" المأخوذة عن احدى اوائل مسرحيات برتولت بريشت التي كتبها عام 1926 وهي "عرس البورجوازي الصغير". وكانت الصحافة نفسها عرّفت بالمخرج المسرحي العراقي عوني كرومي الذي دعاه المعهد بصفة استاذاً زائراً من المانيا حيث يعمل هناك عضواً في فرقة مسرح الرور، كي يُشرف على مشروع تخرّج طلبة السنة الرابعة قسم التمثيل وتحديداً على اخراج مسرحية لبريشت في مناسبة مرور الذكرى المئوية لميلاده. وكرومي، خريج اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد 1965. دكتوراه في الفلسفة وفي علوم المسرح في المانيا 1977. شارك في تأسيس ورشات مسرحية عربية، في الاردن والكويت. واخرج خلال حياته المهنية تسع مسرحيات لبرتولت بريشت. ويعتقد كرومي ان مكان المسرح هو الحرية. لذا، فتح بعض بروفات تحضير "العرس" على الجمهور الخارجي وطلبة المعهد انفسهم والصحافة، وفتح نافذة للحوار حول عمله والمسرح عموماً. كما اعطى طلابه دوراً في الارتجال والاجتهاد واعادة اعداد النص الذي ترجمه وأعده نبيل حفّار. ويعتبر كرومي ان "الوظيفة الاجتماعية للمسرح من وجهة نظر بريشت لا زالت تمتلك امكانية الاجتهاد. طالما الصراع قائم بين الطبقات والفئات الاجتماعية في الحياة. ومتواصل في مشهدية العرض الفكرية. في المرحلة التعليمية الملحمية، كانت المشاهد متراصة والحكاية لا تُبنى على اساس تأزمات بداية. وسط. نهاية فقد تتكرّر البداية، والحدث قد يتلوه الحدث، كبؤر تسلط الضوء المسرحي، ولا تعطي حلولاً. إذ أنها تطلب من المشاهد التفكير، التورط - ان استطاعت - وتمدّ له خيط الحوار حتى مقعده، يبثّ عبره عالمه الداخلي التأملي أو حتى ردود أفعاله". في العرض شخصيات تعيش على الهامش غير قادرة على تغيير حياتها... فتنسلخ عن مواقعها الطبقية نحو مواقع اكثر هشاشة، وأقل اصالة، لتبدو هذه التنقلات وكأنها بدايات عرض متواصلة لبدايات الانسان وهو على الهامش. الانسان الذي يراوح مكانه في حركة يقودها المكان الديكور بطل العمل، حيث يلعب الزمن على منصّته دوراً ثانوياً هو التكرار. لكنه الدور المعجزة!؟ في الوقت ذاته. وعلى هامش العرض، جمهور متنوع، هامشي او مهمّش، وآخر فاعل. وهنا تكمن خطورة الموهبة الابداعية، لأنها هي التي ستمنح تعدّد المتفرج، متعته التي جاء من اجلها اولاً وأخيراً. والتي لن تستطيع أي منفعة نظرية فكرية، تعويضه اياها. خطورة الموهبة. فان فقد العرض اياً من عناصره، هبطت متعة الفرجة، ليحصل الجمهور متعاً متفاوتة، وليكتفي البعض ضمن هذه المعادلة بالمتعة الهابطة التي اعتادها. المتعة الراقية زخم التطور. التطور شرارة الجدل. الجدل روح الخصوصية. الخصوصية هويتنا. وهويتنا، لغة تواصلنا الانسانية مع الكون التي عبرها نبث رسالة مسرحية ما!! "فكيف تُقال الحقيقة؟ أين تكمن؟ كم عدد أشكال قولها؟ هل من يعرفها ذكي ومن لا يعرفها غبي؟ كم حقيقة؟ هل البحث عنها هو الجوهري؟ هل الجوهري هو الحقيقة؟ هل الحقيقة هي نفسها لحظة اكتشافها؟". تساءل كرّومي ردّاً على سؤالنا. اغتراب الانسان عند بريشت فلسفي، وجودي، مادّي. والبحث بحدّ ذاته متعة. وإذا كان البحث عن الحريّة متعة، فالحرية متعة بالضرورة، وليس فقط عملية معاناة من أجل تحرير الفرد. تلك العملية التي تنتج فرداً تعذّبه حريّته. إن نتيجة نقد الظاهرة السلبية وفق بريشت هي نتيجة سياسية، تؤدي الى ايجاد قوانين جديدة للظاهرة المعيشة، تفتحها على الجدل، وربما على عملية التطور. "لو تأملنا المسرحيات العالمية او تلك التي تحمل مضامين سياسية تتفق مع حاجات المرحلة التي نعيشها، لاكتشفنا فيها مستويين يتعذر علينا مطابقتهما. فهي تنطوي على رؤية صحيحة وعلى تحليل عميق ومفيد بالنسبة لنا، لكنها على مستوى البنية المسرحية نجدها مكتوبة - وتلك علامة أصالتها - لكي تتواصل مع جمهور له مستواه الثقافي وتجربته المسرحية. اضافة الى تجربته التاريخية في النضال وفي العمل السياسي" من نص مقابلة اجريت مع الكاتب المسرحي الراحل سعدالله ونوّس. وضمن روحية هذا الوعي كانت نوايا اعداد النصّ البريشتي "عرس البورجوازي الصغير" محلياً. "حاولنا ان نحكي النصّ بالروح المحلية كمادة أولية للارتجال. خلال هذه المرحلة قام نبيل حفّار باعادة الترجمة انطلاقاً من بيئة الشخصيات المحلية، مُتخذاً من مجتمع المدن الكبرى مثل دمشق ومن منطقة الشام وسطاً اجتماعياً. ولم نكتف بهذا القدر من اعادة الصياغة حتى جاءت فكرة تشظية النصّ وتفتيته وايجاد نماذج اجتماعية موازية على مستوى الفكر والسلوك. ربما كان الهدف هو جعل النصّ مناسباً لعدد العاملين في العرض، حيث رأينا من المناسب اشراك الجميع في حياة المسرحية، ونتجت عن هذه الحالة ضرورة ان يُعاد تأليف النصّ. فازدحمت الاقتراحات على طاولة المناقشة. ان نعود الى بريشت او ان نعود الى الحياة؟ واتخذ القرار بأن نعيد تأليف النص من جديد، وأن نبني تدفقات الحياة وافرازاتها، وأن نُعيد اكتشاف العلاقات الاجتماعية ونؤكد على بعض مرافقها. وحوّلنا كل ما ننجزه يومياً الى جزء صغير يُبنى ويكبر به العمل". هذا ما كتبه عوني كرّومي في بروشور المسرحية. لكن، وكما وَرَدَ. لا تكمن الصعوبة في تقديم بريشت او غيره من المسرحيين العالميين في مضمون النص المسرحي فقط. وانما في البنية الشكلية التي يقوم عليها هذا النصّ. والبنية هي عمق البحث المشهدي، لكي يكون لهذا "المشهدي" مبرّراته الجذرية الأصيلة، أي البحث الموازي "للكتابي"، طالما "المشهدي" هو البعد الديناميكي للبحث الاجتماعي. يحاول البورجوازي الصغير في "عرس البورجوازي الصغير" الانسلاخ عن طبقته الهشة. مقلداً طبقة أخرى يطمح بالوصول الى بريقيها الذي يُبهره فيه متانته المادية. يصنع العروسان أثاث منزل كأثاث بيوت الأغنياء. وإذ يحاولان وضيوف حفلة العرس استخدامه على أساس ارتقائهم الشكلي تنكسر الطاولة… الكراسي… وأخيراً سرير العرس. أما معهد المسرح في دمشق، فقد أعد النص محلياً، ثم فتحه على باب الارتجال واللهجات المحلية والعربية ليبدأ الخلل منذ البداية. فلا يُقدم العرض أو النص مبررات أصيلة تستدعي استخدام هذه اللهجة أو سواها دون الفُصحى المخففة مثلاً... من اجل صبّ الكل الفني في بوتقة المضمون الشكلي، وليس في بوتقات التأويلات النظرية لعمل جوهره "المشهدية". فاذا اعتبرنا اللهجة العامية هي حامل المزاج المعرفي - التراثي الجماعي لمجموعة من البشر لا تتجانس ثقافياً أو مزاجياً أو طبقياً، فلا يمكننا بهذا اعتبار اللهجة مرآة مسطحة مُعممة لأفراد مختلفين. فان لم يحمل العرض بمكوناته التقنية والفنية ما يبرر/ درامياً/ ذلك، أي بورجوازية وادعاء اللهجة اللبنانية، وسطوة "الشامية" وفجاجة "الجبلية" فلسوف تأتي الحلول التي اعتمدها الطلاب/ لطليعة المسرح السوري/ سلفية. بمعنى اطلاق أحكام مسبقة التصنيع الفني، واقتحام العرض بها، مما تسبب في شرخ بنيان المشهد البصري المعاصر الذي قدموه والقائم على اسلوبية كشف التباين عن طريق عرض الظاهرة السلبية ونقدها من داخلها، عبر منهج جدلي تحليلي وليس تلقيمياً. يقودنا هذا، الى مسؤولية المشرف ومخرج العمل كرّومي في عدم ضبط هذا السياق. ويقودنا التساؤل الى تساؤل أعمق ربما! وهو أهمية ان يتحمل الطالب مسؤولية خيارات حلوله الفنية حتى النهاية، مع المجازفة حتى بالنتائج. الأمر الذي يتطلب جرأة وايماناً بهذا المنهج التربوي القائم على البحث. البحث طريق المتعة والمعرفة، وهذا أمر يُشهد لكرومي. لكن هذا المنهج التربوي ذاته، يستلزم زمناً تقليدياً يحتاجه من يخطو عليه خطواته الأولى ربما! لكي تكتسب هذه الخطوات سماتها الحرة... سماتها التي هي بمثابة أُسس مشروع مسرح طليعي حر، متحرر من القالب والتعليب الذي يتخذ احياناً شكل التابوت. وعلى الرغم من كل هذا، ومن كل ما تقدم، يتحمل هذا المسرح الطليعي مسؤولية المساهمة ولو بعرض مسرحي واحد، في تكريس ذائقة فنية لجمهور تربى على الفراغ الثقافي، ولكن على الحضور الدائم لأفلام العنف ونكتة الشتيمة والألفاظ المباشرة الهجائية. أي على تجميل البشاعة التي لا خيار له بها ولا لها به. وعلى اعتبار التقليدي والمعلب معاصراً، أي لا بديل عنه!!. لكن، وبنفس الوقت ليس د. كرومي ولا طلاب المعهد بمسؤولين عن وجود جمهورٍ شابٍ ينفجر ضاحكاً كلما سمع شتيمة دون ان يمتلك أي حس نقدي أو انتقائي تجاه ما يسمع. ان غياب تنويعات الثقافة، تعدديتها واستمراريتها، الا في مناسبات - وان بدت متكررة في السنوات الأخيرة وناشطة، يتم من خلالها تقديم أعمال مهمة ممتعة جادة - لا يمكنها من ترسيخ استمرارية مشروع ثقافي، وبالتالي قدرة هذا المشروع على ان يكون جزءاً من المشهد البصري اليومي للشارع. فالمواطن لا يخرج من بيته ضمن خياره الشخصي، ليذهب الى المسرح أو السينما... الخ. بل تبرمج له المناسبات من أهل ثقافته المتقطعة، ليس كدقات الساعة. بل كنبض قلب جميل، لكن ضعيف. الثقافة بفروعها، كالماء للانسان. لذا، ففي حال العطش هذه، يقصد المرء السراب. والماء الصافي مرامه. قسم "العرس" الجمهور النخبة، بين محب ورافض ووسط ومتأمل ومتأنٍ ورافضٍ جداً حتى ايقاف العمل!. إن الحرية التي يسعى اليها هذا المنهج الديموقراطي الذي يعتمده كرّومي، هي أثمن من اية انتكاسات تحملها واحدة من محاولاته - فهل حقق كرومي ما أراد، بتوريط المشاهد!؟. حُذفَ بعض التلامس الجسدي الذي كان في العرض الأول. حذفت الألفاظ المباشرة والشتائم التي لم تخدم أساساً جوهر العرض، بل كانت في أدائها المشهدي موازية لأدائها اللفظي السطحي، أي أن بعض الشروط الرقابية كانت لصالح العرض فنياً، مع العلم ان كرّومي أصر على أنه قام بكافة التعديلات عن قناعة. وهنا يتساءل المرء: هل الشروط الرقابية هذه - وإن كان بعضها في هذا المثال الصالح العمل - هي لصالح المسرح أو الثقافة؟ والجواب بالتأكيد هو: لا. لأن مبدأ الرقابة هو الحد من حرية الآخر وتكريس ثقافة متشابهة تلغي التعددية.. فتلغي الخصوصية فتلغي الابداع. هذا السياق يوصلنا إلى موطن أمان، وهو ان العمل الابداعي والموهبة القوية التي تمتلك عناصر وجودها وتطورها، هي التي تتخطى الحواجز، بل قد ترقى بشروط الرقابة. فالرقابة نفسها ما هي إلا بنت الواقع. وينطبق الأمر على المسرح السوري والعربي والعالمي. لم تنسلخ الطبقة البورجوازية الصغيرة في "العرس" عن طبقتها في محاولة تقليد الطبقة الأخرى. لكنها ومن موقعها الهش، وعلى أثاثها سيء التصنيع، قامت بعرقلة حركة أفرادها. أي أنها لم تمتلك حتى جرأة الانسلاخ. فما بالك بوعي التغيير؟! تكررت البؤر المشهدية، تتالت، بدأت ثم تواترت البدايات المتشابهة التي تفضي إلى نهايات مفتوحة على بدايات مغلقة، تعيد فيها الطبقة نفسها اجترار محاولة الانسلاخ من موقعها عبر تعرية عنيفة للذات: القبلة التي تليها حال تقيؤ تشي بموقف كرومي العميق من مفرداته ودلالاتها الاجتماعية والمسرحية. فالجنس لم يكن جنساً للاثارة، بل موقفاً. الأمر الذي ينجح العرض - مع الأسف - في إبرازه دائماً. مشهد البداية كان كثيفاً. والمتعة إحدى أهم عناصره. المتعة، ذلك الخيط الذي وصل الخشبة بالمتفرج، فضحك وسخط وتململ وكره وأحب وانتقد، وأحياناً تمنى منع العمل. فالمثقف سلطه، إذا اراد! في المشهد الأول، أساس العمل، اثاث "العرس" الديكور الثابت. غرفة النوم المطلة عالياً، المفصولة بستائر شفافة. الخزانة في الطابق السفلي. الكراسي وأجنحة الجلوس والطاولة الكبيرة مركز الاحتفال. المشهد الأول، هو البؤرة المشهدية التي انفتحت على البؤر المشهدية الأخرى. التي احتوت جميعها في ما بعد كافة عناصر المشهد الأول. فلم يفارقنا خيط المتعة بسبب اخلاص استعداد الطلاب، الممثلين، منذ البداية للفرح. لم يدع "العرس" تقديم وعي جاهز. بقدر ما اتجه إلى تقديم بنية شكلية معاصرة مجددة مفتوحة على الاحتمالات. وعلى حوار تنفتح فيه عناصر العرض أمام المتفرج. النص والخشبة وساحة الفرجة بكافة تبايناتها، احتمالات كان من أغربها عدم قدرة المتفرج على ضبط قدرة الممثل الابداعية. فرغم ان اسلوبية العمل توحي بالانفلاش والانفتاح، إلا أنها في أحد محاورها الابداعية كانت شديدة التماسك، وهذا المحور إذا اردنا التعبير عنه، فهو "دينامو" التوتر الدرامي للشكل والمضمون. وخليط من الضعف والقوة والنجاح والصبر والفشل. فشل "العرس"، فشل المحتفلين، كل فرد أمام الآخر وأمام ذاته، وفي أعماق العرض. فشل "أثاث العرس" وفشل العرض توقيفه، من أجل إعادة عرضه ضمن شروط حاولت لملمة الفضيحة التي أثارها. الفضيحة التي تكمن في لعب المسرحية على حدود الخطر، في الابتذال والافتعال والصّدم وإثارة الأسئلة من جذورها. جذورها التي يمكن تلخيصها بمحاولة العيش في واقعنا وفي مهامنا الصغرى قبل طرح القضايا الكبرى، أي بالتالي امكانية الحديث عن كل شيء... كل شيء... كل شيء. فأثارا بذلك المتفرج العادي. وأثار غضب بعض النخبة الثقافية والمسرحية بدمشق أكثر مما أثار اعجابها. وصدم الذاتية المعتادة على تجنب التابو الاجتماعي، اللغوي، الديني، الاقليمي. من هنا قد يكون العرض الذي قدمه معهد المسرح بدمشق باشراف كرّومي، وبأداء الطلاب، عملاً مهماً. ومن جانب العمل الآخر، الأكثر اشكالية، ينبع ربما جانبه الأكثر أهمية، وهو طبيعته التجريبية التي أثارت وتثير عاصفة من ردود الفعل والتساؤلات والنقاشات. وهذه النقطة أيضاً تسجل للعمل ولكروّمي ولمنطق بريشت المسرحي في المقام الأول.