في فترة الأزمة بين العراق وأميركا، وهي لا تزال قائمة على رغم الاتفاق الذي وقعه الأمين العام للأمم المتحدة مع الحكومةالعراقية في 23 شباط فبراير الماضي، اتخذت ظاهرة التعاطف العربي مع الرئيس العراقي صدام حسين ابعاداً واسعة تستدعي التوقف عندها. واللافت ان الظاهرة لم تقتصر على الشارع الشعبي فحسب، بل شملت دولاً وحكومات عربية عدة وانعكست على شكل زيارات مفاجئة الى بغداد وتبادل الرسائل مع القيادة العراقية. وكل ذلك، أعطى في الواقع قوة انتشار سريعة للظاهرة وجدت بعض صورها في تظاهرات وأعمال شغب شهدتها مدن عربية كمعان الأردنية مثلاً. والواقع ان الظاهرة، على رغم مبرراتها، تستدعي بعض التأمل والتوقف، خصوصاً ان تأثيراتها لم تنعكس على شكل نشوء الرغبة لدى الدول العربية في بلورة رأي عربي أو دور عربي لحل المشكلة العراقية فحسب. ولا على شكل الرغبة في ابداء المساهمة العربية المطلوبة لإبعاد أشباح الحرب والاضطرابات عن الشرق الأوسط فحسب. بل شملت أيضاً تأثيرات عكسية مدمرة ليس أقلها تشجيع القيادة العراقية على الإندفاع نحو المغامرات واللعب الدموي على حبال الأزمات، انطلاقاً من اعتقادها الخاطئ بأن الدعم الشعبي والرسمي العربي يبرر لها انتهاج سياسة افتعال الأزمات من دون حساب نتائجها المدمرة على العراق والمنطقة بأسرها. والأرجح ان أسباب اندفاع بعض الأوساط للتعاطف مع الموقف العراقي متباينة، ومنها أسباب متعلقة بالتعقيدات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تكمن في بنية الشرق الأوسط. ومنها ايضاً الثغرات التي عانت منها المواقف الدولية، خصوصاً الموقف الأميركي، حيال الحكومة العراقية منذ عام 1992، والتي كانت تهيئ أمام بغداد مجالاً واسعاً للمناورة عبر تلك الثغرات، واستثارة النفوس العربية على أساس الانتماء القومي المشترك. ومنها أيضاً الدوافع الانسانية البحتة التي تستمد شرعيتها من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ سبع سنوات، خصوصاً انها لم تعد تشمل العراق وحده، بل باتت تشمل أيضاً، ولو بدرجات متفاوتة، دولاً عربية اخرى كليبيا والسودان. لكن الواقع ان تلك الأسباب ليست وحدها المسؤولة عن انطلاق موجات التعاطف مع الحكومة العراقية التي كانت تبدو في آب اغسطس 1990، بعد غزو قواتها لدولة الكويت، في صورة القاتل الأبشع للعرب وتضامنهم واستقرارهم، وانما تحولت خلال فترة زمنية قصيرة الى حكومة تستدعي البكاء من اجلها والعمل على انقاذها من ورطاتها والخروج في تظاهرات على طريق المطالبة بفك الأطواق عن عنقها. بل هناك أسباب فعلية اخرى ينبغي على الأميركيين قبل غيرهم التأمل في جذورها وطرق معالجتها نظراً الى صلاتها مع مجمل الحال السياسية في الشرق الأوسط، ويمكن اجمالاً تلخيص تلك الأسباب في نقاط محددة كالآتي: أولاً - العثرات التي تعيشها عمليات السلام بين الدول العربية واسرائيل، ويرى الكثيرون ان مصادرها لا تكمن فقط في سياسات نتانياهو المتشددة، بل تكمن ايضاً في السياسة الأميركية التي الزمت نفسها بدور الراعي المحايد، لكنها في الواقع لا تتصرف كراع ولا كمحايد في معالجة الوضع العربي - الاسرائيلي. وذلك ما يعبر عنه الكثيرون بمقولة "الكيل بمكيالين في سياسة اميركا الخاصة بكل من العراق واسرائيل". ويخطئ الأميركيون اذا اعتقدوا ان عثرات التفاوض على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي هي وحدها المقصودة بهذه الحال. فالحقيقة التي يجب ان توليها واشنطن اهتماماً خاصاً هي ان جمود المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي، وخفوت المبادرات الأميركية المتعلقة باحياء ذلك المسار انطلاقاً من مفهوم أميركي معاكس مفاده ان حل المسار الفلسطيني يمكن ان يساعد على حل التعقيدات على المسار السوري، لا تقل انعكاساً وتأثيراً في صعوبات الموقف الأميركي في الشرق الأوسط. وبكلام عام، يمكن القول ان التعاطف العربي عند ربطه بالمشكلات التي تعترض طريق السلام العربي - الاسرائيلي، كان في بعض معانيه تعبيراً عن استياء عربي من سياسة أميركا واسرائيل أكثر من كونه تعبيراً عن تعاطف فعلي مع صدام حسين. - الخوف العارم في المنطقة من دور ايران وتدخلاتها في شؤون العراق في حال تعرضه الى ضربة عسكرية أميركية. وبالتالي تدخلاتها في شؤون بقية الدول المجاورة، هو ضمن أهم الأسباب الدافعة لنمو ظاهرة التعاطف العربي، خصوصاً الرسمي منه، مع الرئيس العراقي صدام حسين. واستطراداً، يمكن الاشارة الى ان سلوكية ايران وتصرفاتها وخطابها السياسي وتوجهاتها الانعزالية، على الأقل في الفترة التي سبقت مجيء الرئيس محمد خاتمي الى الحكم، كانت بل ولا تزال تحمل جزءاً رئيسياً من المسؤولية في ذلك الخصوص. لكن الواقعية تتطلب القول ان سياسات واشنطن تحمل من جانبها جزءاً من مسؤولية توتير الخوف من ايران ورفع معدلاته أيضاً. ولا يمكن، هنا، التغافل عن حقيقة ان واشنطن لعبت في فترات سابقة دوراً جوهرياً في الدعوة لفكرة ان صدام حسين هو الرجل القادر على صد دور ايران خصوصاً في الخليج. لكن المشكلة ان الوقائع حين اثبتت خطأ تلك الفترة، خصوصاً بعد غزو القوات العراقية لدولة الكويت عام 1990، أهمل الأميركيون مسألة الاعتراف بخطئهم في تقدير صلاحية صدام حسين للعب ذلك الدور. بل انهم وضعوا الحكومتين العراقيةوالايرانية في قالب سياسة واحدة مفادها الاحتواء المزدوج، ما ساعد، لاحقاً، على استمرار الأمل لدى أطراف عربية عدة في عودة صدام حسين الى الشرعية العربية بهدف اداء دوره السابق في مواجهة الخطر الايراني. وكان طبيعياً ان يشكل كل ذلك ضغوطاً غير مباشرة على طبيعة الموقف العربي من النظام العراقي والمطالبة باعادة تأهيله. - الخوف العارم ايضاً من دور تركيا في المنطقة، خصوصاً بعدما توجهت انقرة الى تركيب أنياب عسكرية لسياساتها، تمثلت من جهة في تحالفها العسكري مع اسرائيل، ومن جهة ثانية في استمرار قواتها العسكرية على اجتياحات متكررة لأراضي العراق لمرات والتلويح بإقامة منطقة آمنة على الجانب العراقي من الحدود. والمشكلة، هنا، ان أميركا لم تحرص على تمييز مواقفها عن موقف انقرة. بل حرصت، ربما لأسباب داخلية تركية، على تأييد الدور التركي والاجتياحات العسكرية، ما انعكس في نمو شكوك عربية متزايدة حيال أميركا في خصوص الموقف، عبر القناة التركية، من العراق. من دون شك، هناك أسباب أخرى تقف وراء تزايد ظاهرة التعاطف العربي مع القيادة العراقية، ليس أقلها رغبة بعض الدول العربية تعزيز مواقفها التفاوضية مع اسرائيل. أو انعكاسات الشروخ القائمة في الجدار العربي، التي تسمح بتدخلات دول معينة في الشأن الداخلي لدول عربية اخرى بهدف اضعاف موقفها الداخلي. لكن مع كل ذلك، تظل الحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها هي القائلة ان موجات التعاطف والتأييد العربيين لموقف بغداد تستمد جذورها وتبريراتها الأساسية من ضبابية الموقف الأميركي حيال الكثير من المربعات السياسية في الواقع العربي والشرق الأوسطي. ما يعني ان أي تعامل أميركي موضوعي مع مخاطر الرئيس العراقي يجب ان يأخذ في حسبانه، أولاً وقبل كل شيء، اعطاء الوضوح المطلوب للكثير من جوانب الغموض والتردد في سياساتها الشرق الأوسطية، خصوصاً ان مستقبل الأزمة مع العراق ينبئ عن احتمالات التفاقم على رغم اتفاق 23 شباط فبراير.