يتميز الشعب الاسباني برعاية الهوايات لدى أطفاله الذين يشبون عليها، وربما يختارون بعضها لاحقاً لتكون حرفتهم. لذلك فإن أول هموم الآباء البحث عن تلك الهواية التي يميل اليها الطفل أو الطفلة لتغذيتها بشتى الأشكال. وعادة ما يكون الطفل أو الطفلة هما صاحبا الاختيار، ولهما الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الأمر. وينطبق هذا على القليل من الاطفال الموهوبين الذين يقررون الاختيار حسب رغباتهم التي تمليها عليهم هواياتهم أو مواهبهم أو طموحاتهم الطفولية الصغيرة. لكن الذين يعتبرون من عامة الأطفال، وليس لديهم اتجاه معين في عالم الهوايات، يكتفون باختيار الآباء لهم، أو تكون اختياراتهم محدودة ومتأثرة بالطبع بما يشاهدونه أو يسمعونه من المحيط الاجتماعي الذي ينشأون فيه، وكذلك بتأثير وسائل الاعلام. أما الذين ينتظرون من الأهل الاختيار المناسب، فإن الآباء الإسبان لديهم هوايات عامة منتشرة بشكل لافت للنظر. هناك هواية أولى يختارونها لأطفالهم تنبع من اهتماماتهم الخاصة، التي ربما كانوا يودون اختيارها لأنفسهم، ولكن لسبب أو لآخر فشلوا في تحقيقها. ومعظم الآباء الإسبان الذين ليست لهم هوايات معينة يميلون الى هوايات عامة لكل الأطفال، الموسيقى للجميع وعلى رأسها تعلم العزف على "الغيتارة" الاسبانية الكلاسيكية، التي لا يكاد يوجد اسباني لا يجيد العزف عليها. لذلك تعتبر هذه الآلة القاسم المشترك في الرحلات الجماعية التي يقوم بها أطفال المدارس أو طلاب الجامعات. لذلك فإن مدارس الموسيقى التي تعلم "الغيتارة" الاسبانية الكلاسيكية ومدارس "رقص الفلامنكو" منتشرة في المدن الاسبانية الرئيسية. ويمكن للسائر في شوارع المدن العريقة مثل اشبيلية وقرطبة وغرناطة ان يشعر بذلك من دون ان يكون منتبهاً الى وجودها ذلك أنها تلفت النظر اليها بالموسيقى التي تنطلق منها صبحاً ومساءً، وبتجمعات المنتظرين للبدء بالدروس. لكن ما يلفت النظر الآن دخول فنون شعبية اجنبية الى تلك الهوايات التي يختارها الآباء لأبنائهم أو بناتهم، خصوصاً الفنون الشعبية لدول اميركا اللاتينية التي تعتبر بموسيقاها ورقصها أقرب الى أبناء اسبانيا، اضافة الى اللغة المشتركة لتلك الأغاني والاغاني الشعبية الاسبانية. غير ان الفتاة السودانية "أميمة" قررت اختراق تلك الحلقات المغلقة من هوايات الإسبان بموسيقاها السودانية ورقصها الافريقي. وجاهدت خلال السنوات الأخيرة حتى أصبح اسمها مقروناً بما هو افريقي في عاصمة الفلامنكو "غرناطة". وأصبح مألوفاً ان تتجه الآذان الى واحدة من أعرق مدارس فنون الفلامنكو في مدينة الحمراء لتسمع الموسيقى السودانية تصدح في إحدى صالات التدريب فيها، بينما صوت "اميمة" يعلو على تلك الموسيقى في أحيان كثيرة ليوجه المتدربين الى الحركة الصحيحة أو الخطوة المناسبة للدخول في حلبة رقصة "الحمامة" التي تجيدها النوبيات، وغيرها من الرقصات الشائعة في مناطق السودان الجنوبية المتاخمة لأثيوبيا أو اوغندا. تنتمي "أميمة" الى عائلة موسيقية، فقد تعلمت الموسيقى على يد أبيها الذي كان معلماً لذلك الفن في السودان. ومع انها بدأت بدراسة القانون في كلية الحقوق في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، إلا انها سرعان ما هجرت الدراسة ورحلت الى اسبانيا من دون سبب معلوم. ورافقها في تلك الرحلة شقيقها "الوافر" وشقيقتها الصغرى "رشا"، وبدأوا معاً رحلة الحياة في الغربة، ومعينهم الوحيد في تلك الرحلة الفنون التي تعلموها صغاراً. شقيقها "الوافر" يعتبر من أبرز العازفين على العود في فرق الموسيقى الافريقية التي تجوب أوروبا حالياً انطلاقاً من اسبانيا، كما يمارس العزف مع بعض الفرق الاسبانية المختلطة، وله اسطوانات مطبوعة عدة، أما شقيقتها "رشا" فتحولت الى مطربة معروفة بين تلك الفرق التي تستفيد من اهتمام شعوب أوروبا بأغاني العالم الثالث وموسيقاه. واختارت "اميمة" ان تكون معلمة الفنون السودانية في اسبانيا، ولها جولاتها ايضاً في أوروبا اذ تشارك، بين حين وآخر، في حلقات أداء الرقص الافريقي، أو في حلقات دراسية حول تلك الفنون في عدد من الدول الأوروبية. وتقول "اميمة" انها هاوية منذ الطفولة، ولا تعتبر نفسها محترفة حتى في حالتها هذه عندما تمارس التدريب على الرقص الافريقي بشكل عام والسوداني بشكل خاص، لأن تعليم هذا الرقص ليس مهنتها الاساسية، فهي تجيد لغات اجنبية عدة، وتعمل في مؤسسة أوروبية معروفة مقرها غرناطة، ومع ان عملها يستغرق منها ساعات طويلة، إلا انها قررت الاستمرار في ممارسة التدريب على الرقص الافريقي، لأنه شيء أساسي في حياتها كهاوية، وتحاول استغلال اتجاه الآباء الاسبان نحو تعليم ابنائهم هوايات معينة لتزرع هي بذرة الرقص السوداني بينهم. وتعترف "أميمة" بأن الأمر صعب في بلد يكاد يمارس كل أهله رقصات "الفلامنكو" عميقة الجذور. لكنها بحكم خبرتها بهذه الفنون التي عشقتها وعاشرتها خلال سنوات طويلة في اسبانيا، ترى ان التقارب بين شعوب العالم من خلال الفنون هو سلاحها الاساسي في غزو العقول الاسبانية. وتعتقد بأنها نجحت خصوصاً انها لا تملك مدرسة خاصة بها. وانما تمارس التدريب في احدى صالات مدرسة لرقص الفلامنكو. وربما كان استخدامها لتلك المدرسة سر نجاحها، لأن أكثر الذين اقتربوا منها وانضموا الى دروسها كانوا في البداية يتعلمون رقص الفلامنكو، لكن لفتت نظرهم تلك الموسيقى الغريبة الجديدة على آذانهم، وتلك الحركات العنيفة المليئة بالحرارة الافريقية. فاقتربوا في البداية منها للتعرف على الغريب الوافد، ثم سرعان ما قرروا ان يكونوا تلامذة في مدرسة "اميمة السودانية" التي لا يعرف أحد لها اسماً غير هذا اللقب.