اللقاء الذي جمع رئيسي جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان في العاصمة المولدافية كيشنييف للتباحث في أوضاع اقليم قره باخ، انتهى إلى تأكيد «مواصلة المفاوضات لتسوية النزاع سلمياً»، وأوضح نائب وزير الخارجية الأذري آراس عظيموف، «ان باكو مع تمسكها بموقفها المبدئي، إلاّ أنها على استعداد لقبول حلول وسط في شأن نزاع كاراباخ». ولئن كانت اللقاءات السرية منها والعلنية، وعلى امتداد زمن طويل، بين الرسميين الأرمن والأذريين، وبوساطة روسية وأوروبية وأميركية، قد أبعدت شبح الحرب، إلاّ أنها لم تصل بعد إلى حلول مناسبة، على رغم أن مسيرة المفاوضات ستستمر، لكن في أجواء أقل توتراً وتشنجاً. ما هي مشكلة كاراباخ، هذا الإقليم القوقازي الجبلي الصغير الحجم؟ تعود التسمية في الأصل إلى قراباخ، وقرا أو قره بالتركية تعني الأسود، وتبع الإقليم على امتداد القرون السابقة، للعديد من القوى المهيمنة التي كانت تسود وتتمدد في المنطقة. ومن مفارقة السياسات السوفياتية السّابقة، التي أصبحت واقعاً جغرافيّاً وديموغرافيّاً في أرمينيا وأذربيجان، أنّ إقليم قره باخ الواقع ضمن أراضي جمهوريّة أذربيجان غالبية سكّانه من الأرمن، وأنّ إقليم ناختشيفان الواقع ضمن الأراضي الأرمينيّة غالبية سكّانه من الآذريين! فلماذا هذا التوزع والتشتّت والتّلاعب في الجغرافيا والدّيموغرافيا؟ لقد بنت السّياسات السّوفياتية الأولى ومنذ قيام الثّورة عام 1917، ركائزها على شعارات ونظريّات نصّت على أخوّة الشّعوب، وعلى تذويب الفوارق القوميّة مع الزّمن. لذا فإنّ ظاهرة تتبيع وضم كيانات صغيرة لكيانات أكبر، اعتبر من ركائز هذه السياسات التي جارت على بعض الشّعوب، خصوصاً الصّغيرة منها. علماً أنّ مادّة في الدّستور السّوفياتي نصّت على حرّيّة الشّعوب والقوميّات في تقرير مصيرها، إلاّ أنّ النّص والشّعارات شئ، فيما التّطبيق العملي نقيض ذلك في محكّات كثيرة، ومن بينها مشكلة إقليم قره باخ. وإذا كانت الحروب التي شنّت عليه، أو شنّها الإتّحاد السوفياتي في العقود الأولى من عمر الاتحاد، فضلاً عن السّياسة الباطشة والقامعة التي اتّبعتها القيادة، وعلى رأسها جوزيف ستالين، داخل الاتحاد قد لجمت وعطّلت مطالب محقّة كثيرة للجمهوريّات وللكيانات الصّغيرة، إلاّ أن رئيس الوزراء نيكيتا خروتشوف لم يتورّع عن القول في نهاية خمسينات القرن الماضي وبعد وفاة ستالين: «إنّ الحركة البشريّة ضمن الحيّز السّوفياتي، إن هي إلاّ واقع تمّ اكتسابه بشكل طوعي، وقاد إلى محو كافّة الفوارق والأحكام المسبقة بين الأمم». وقد علّقت مؤلّفة كتاب «نهاية الإمبراطوريّة السّوفياتيّة» الفرنسية هيلين كارير دانكوس على هذا الأمر بقولها: «منذ عام 1917 كان مسؤولو الاتحاد السّوفياتي قد اعتادوا على استخدام المواطنين كما يحلو لهم، فينقلونهم، ويجزّئون الحيّز الجغرافي على حساب المنطق البشري». هكذا استمرت مشكلة قره باخ متفجرة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي ونيل أرمينيا وأذربيجان استقلالهما عام 1992، ولكن لماذا لم يتم حلّها زمن الرّئيس ميخائيل غورباتشوف الّذي نادى بالمصارحة والمكاشفة والشّفافيّة – البيريسترويكا والغلاسنوست - ولم يتورّع في الذّكرى السّبعين للثّورة عن تكرار ما ذكره زميله خروتشوف في خمسينات القرن الماضي، حيث قال: «من حقّنا اليوم أن نقول بأنّنا قد سوّينا مسألة القوميّات، والصّداقة بين الشّعوب السّوفياتيّة، هي واحدة من أكبر منجزات أكتوبر، وهي في حدّ ذاتها ظاهرة فريدة في التّاريخ العالمي». إلاّ أنّ الوقائع بين شعوب وأمم عدّة كانت تفيد عكس ذلك تماماً على أرض الواقع. تبلغ مساحة منطقة قره باخ نحو 4400 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكّانها حاليّاً نحو 335 ألف نسمة، ثلاثة أرباعهم من الأرمن، والرّبع الباقي من الآذريين، وتمّ التّنازع على تبعيّتها بين أرمينيا وأذربيجان منذ عشرينات القرن الماضي، أي منذ إنشاء الكيانات السّياسيّة الحديثة في منطقة القوقاز. علماً أنّ قره باخ، هذه المنطقة الجبليّة من جبال القوقاز في جنوبروسيا، كانت لا تضم في عشرينات القرن الماضي إلاّ الأرمن فقط. وقد تقصّد الآذريّون إسكان آلاف من بينهم في المنطقة، في محاولة منهم لتغليب العنصر الآذري. مع ذلك فإنّ الأرمن في ذلك الكيان الصّغير، استمرّوا بالمناداة في شتّى المراحل السّوفياتيّة ب «جمهوريّة واحدة لشعب واحد»، أي إعادة ضم قره باخ لأرمينيا. كما أنّهم لم يتورّعوا من الشّكوى إلى المركز في موسكو من التّمييز الثّقافي في اقليمهم، ومن عدم وجود أيّ خطة تنمويّة حقيقيّة ترفع من مستوى عيشهم. أبرز محطّات المطالبة بإعادة إلحاق قره باخ بأرمينيا، كانت في العام 1965، إلاّ أن القيادة المحلّيّة، والقيادة في المركز تجاهلتا هذا الأمر، وهذا يعود إلى سببين رئيسيين: 1- إنّ إعادة النّظر في الوضع الجغرافي والتّبعيّة السّياسيّة في قره باخ، سيفتح عيون شعوب كثيرة، صحيح أنّها قليلة العدد، لكنّها كثيرة من بين جمهوريّات الاتحاد السّوفياتي السابق، وخصوصاً في جمهوريّات القوقاز، ومن بينها جورجيا التي كانت تضم في جمهوريّتها ثلاثة كيانات هي: آجاريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة. والشّاشان- أنغوش وقابرديا - بلكاريا والشّركس- قارتشاي وغيرها وغيرها، وكلّها مع غيرها يمكن أن تطالب بإعادة تصحيح أوضاعها وضمّها إلى كيانات أخرى، أو ربّما للمطالبة بالاستقلال النّاجز. 2- لا يريد الإتّحاد السّوفياتي إغضاب جارته تركيا – فالآذريون من أصول تركيّة، وغالبيّتهم تدين بالمذهب الشّيعي، وذلك في ظل الحرب الباردة في تلك المرحلة، على الرّغم من تسليم الأرمن بالحماية الرّوسية، وحاجتهم الماسّة إلى تلك الحماية في وجه جيران لها مشاكل معقّدة معهم: تركيا وإيران وأذربيجان، وحتّى مع جورجيا. مع ذلك فإنّ أرمن قره باخ استمرّوا بالمطالبة بإعادة توحيدهم مع جمهوريّة أرمينيا. ولم يشأ اللوبي الأرمني العالمي تصعيد الأمر مع الاتحاد السّوفياتي، ربما لإدراكه حاجة أرمينيا للحماية السّوفياتيّة آنذاك. إلاّ أنّ الأمر أخذ يزداد حدّة واشتعالاً، خصوصاً في العام 1988، بعد رواج شعارات البيروسترويكا والغلاسنوست، لتنهال العرائض على موسكو من قبل سكّان قره باخ الأرمن، مطالبين بإعادة توحيدهم مع جمهوريّة أرمينيا. وأخذت التظاهرات الأرمينيّة تتزايد في الإقليم لأيّ سبب ترفدها تظاهرات أخرى في العاصمة الأرمينيّة يريفان. كما أنّ باكو عاصمة أذربيجان أخذت تشهد تظاهرات مضادّة، ما كهرب الأجواء وسممّها، لتبدأ شعارات أخوّة الشّعوب بالانهيار تدريجاً، وصولاً إلى العداء. فيما كان المركز يتقلقل في سياساته، فتارة هو مع هذا الجانب، وتارة أخرى مع الجانب الآخر، لاعتبارات وحسابات مختلفة، وطوراً يرسل لجاناً من لدنه لإدارة الإقليم، لكن بعد فوات الأوان، ووصول درجات الاحتقان القومي إلى مستويات مشتعلة لم تتم مواجهتها من قبل. في شباط (فبراير) 1988 سارت تظاهرات صاخبة في كلّ من يريفان وستيباناكرت عاصمة قره باخ من قبل الأرمن، رافعين شعار «شعب واحد في جمهوريّة واحدة»، ردّ الأذريون بالقيام بتظاهرات غاضبة في ستيباناكرت نفسها بعد ذلك بأسبوع، وحصلت يومها اشتباكات بين الطّرفين أدّت إلى سقوط قتيلين من الأذريين وعشرات الجرحى. وصل الأمر إلى القتل، وعندما يشتعل الغضب وتخرج الأمور عن نطاق السّيطرة، فإنّ ممارسات خطيرة يمكن أن تحصل، وفعلاً فإنّ هذا ما حدث في مدينة سومغاييت الصّناعيّة الآذرية التي يعمل فيها آذريّون وأرمن، إذ هاجم الآذريّون الأرمن ردّاً على ما حصل في ستيباناكرت، ما أدّى إلى سقوط عشرات الضّحايا ومئات الجرحى غالبيتهم من الأرمن. لم ينقذ إعلان حال الطّوارئ الكثير، وتتابعت بعدها الاشتباكات والمناوشات في الأماكن التي يتواجد فيها سكّان من الأرمن والآذريين، وبعدها تمّت القطيعة بين الجمهوريّتين وأغلقت الحدود، وتمّ نسف خطوط سكك الحديد والقطارات والجسور. وإثر ذلك بدأت ركائز الاتحاد السّوفياتي تتهاوى. وبدأت الجمهوريّات المتضرّرة إعلان انفكاكها عن الإتّحاد وإعلان استقلالها في مناطق القوقاز، وجمهوريّات بحر البلطيق الثلاث: استونيا ولاتفيا وليتوانيا ثمّ غيرها... وغيرها. لم يعد للسّلطة المركزيّة إلاّ أن تعلن قرارات وتلقي خطابات، لكن من دون استجابة أو تنفيذ. لقد سيطر على المشهد الإضرابات والتظاهرات ومسيرات الاحتجاج والعرائض وعنف وعنف مضاد، وصولاً إلى الاشتباكات. هكذا اشتعل الوضع في قره باخ وبين الجمهوريّتين الجارتين: أرمينيا وآذربيجان. فتقدّمت موسكو إثر ذلك باقتراح يقضي بضم قره باخ إليها، على أن يدير المركز أمورها كحلّ موقّت لاستيعاب الوضع، وتهدئة الغضب، إلاّ أنّ الطّرفين لم يرضيا بذلك، واستؤنفت الاشتباكات داخل قره باخ وبين الجمهوريتين أيضاً. بعدها على رغم استقلال الجمهوريّتين التّام عن الاتحاد السّوفياتي مع غيرهما من جمهوريّات، اتّحاديّة، (14 جمهوريّة) عام 1991، فإنّ مناوشاتهما وحروبهما لم تتوقّف حول قره باخ، لتحصد آلاف القتلى مستنزفة الكثير من الإمكانات الاقتصاديّة، وصولاً إلى عام 1994، حيث رُتبت هدنة بعد سيطرة الأرمن على الإقليم مع مناطق أخرى محاذية له، إلاّ أنّ الجمر بقي تحت الرّماد على رغم أنّ الأرمن كانوا أجروا في قره باخ استفتاء على دستور جديد جعل من الإقليم كيانا مستقلاّ في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2006، وجاءت النّتائج 98.6 من النّاخبين وافقوا على الدّستور الذي يصف قره باخ بأنّها دولة مستقلّة، وبلغت نسبة الإقبال على الاستفتاء 87,2 من عدد السّكان. فهل يعتبر هذا الإجراء مقدّمة لإلحاق قره باخ بأرمينيا لاحقاً، وعندما تتوافر الظّروف المناسبة؟ وكان إلهام علييف رئيس جمهوريّة أذربيجان الحالي علّق على الأمر يومها قائلا: «أنّ بلاده لن تقبل أبدا منح الإقليم - قره باخ - استقلالاً من أيّ نوع، وهي تصرّ على أنّه جزء مهم من الأراضي الآذريّة، وستعمل على استرجاعه بكلّ الوسائل، بما فيها العسكريّة». لكن تمكن الإشارة إلى تطورات من «الحلحلة» الإيجابية حصلت بين أرمينيا وآذربيجان وبوساطة من قبل الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، إذ أنه مهد لوساطته بزيارة أرمينيا في الأسبوع الأخير من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، وعندما لمس مؤشرات إيجابية تشجعه لاستكمال مهمته، دعا الرئيسين الأرميني والأذري لزيارة موسكو، بعد أن كان الرؤساء الثلاثة قد وقعوا على إعلان يدعو إلى تسوية سلمية للنزاع في كاراباخ، على أن يرفق بضمانات دولية ملزمة قانوناً وتتعلق بكل أوجه ومراحل حل المشكلة، وما زالت اللقاءات تتوالى بين فترة وأخرى، لنزع فتيل الحرب، وإرساء ركائز سلام يفيد الجميع. * كاتب فلسطيني