هل يندرج الهجوم الثقافي الفرنسي عبر وسائط متعددة، من ضمنها التركيز على الانتاج الثقافي بالفرنسية من أبناء الأثنيات الأخرى، ضمن حوار الحضارات أم الصراع بينها كما في نظرية صمويل هنتغتون الأميركية الملامح والسمات؟ وهل تحاول فرنسا اشاعة اللغة الفرنسية بين شعوب كانت ولزمن طويل تتخذ من الانكليزية لغة ثانية، بعد اللغة الأم، لأسباب تتعلق بالنفوذ أم انها تسعى الى حماية نفسها من هجوم الثقافة الأميركية السريعة الانتشار في الجسم الفرنسي؟ أسئلة كثيرة تخطر على البال ونحن نشهد النشاط الفرنسي لنشر الفرانكوفونية في البلدان الآسيوية بتركيز خاص على مصر ولبنان والاردن وسورية، وذلك عبر تمويل الكتب واقامة المؤتمرات والتشديد على فكرة حوار الحضارات في مقابل فكرة صراع الحضارات التي صكها هنتنغتون في مقالته البائسة، لكن الشهيرة، "صراع الحضارات". ومن الواضح ان فرنسا، على رغم استخفاء نزعة الهيمنة في خطابها الفرانكوفوني، لا تخفي عبر الناطقين بالدعوة الى الفرانكوفونية روح الاستعلاء الحضاري. وصرح الشاعر اللبناني بالفرنسية صلاح ستيتية، وهو أحد الداعين الى حوار حضاري عربي - فرنسي والحاصل على جائزة الفرانكوفونية الكبرى العام 1995، في محاضرة له ألقاها في عمّان الأسبوع الماضي في سلسلة ندوات أخذت عنوان "أيام عمّان الفرانكوفونية"، ان على العرب فتح نوافذهم للغة الفرنسية لكي تتطور لغتهم وتصبح قادرة على الوفاء بمتطلبات العصر! ويشتم من كلام ستيتية وآخرين من دعاة الفرانكوفونية ان على العرب ان ينقلوا البندقية من كتف الى كتف ويستبدلوا هيمنة ثقافية بهيمنة ثقافية أخرى. ومع ذلك فإن خطاب الهيمنة الأميركي، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، يصيب برشاشه لا العرب وحدهم بل أوروبا نفسها التي يفترض انها شريكة لأميركا في الثقافة والمكونات الحضارية. ومن الواضح، مما نقرأه ونسمعه، ان الفرنسيين يستشعرون الرغبة الأميركية في الهيمنة على العالم ثقافياً، لا الهيمنة عليه سياسياً فقط، وان الثقافة الفرنسية، مثل مثل الثقافة العربية، مستهدفة وينظر اليها بوصفها مجرد ثقافة اثنية قابلة للمحو لتحل محلها ثقافة الأميركان التي لم يجيء بمثلها الزمان. ولهذا السبب فإن الفرنسيين، بعد فترة غياب طويل، وبعد ان ناموا نومة أهل الكهف كما يبدو، يتفطنون الآن الى ضرورة اعادة الصلة مع الثقافات الأخرى، وتشجيع أبناء الأمم الأخرى على تعلم اللغة الفرنسية والتعرف على الثقافة الفرنسية عن طريق دعم ترجمة الآداب الفرنسية الى اللغات الأخرى، واقامة المؤتمرات الفاشلة بجميع المقاييس لأنها تتوجه الى الفرنسيين المقيمين في تلك البلدان أو الأشخاص الدارسين في فرنسا أو العارفين بلغتها من قبل! ان من المشروع على أية حال ان تطمح كل ثقافة الى الانتشار والتأثير والعالمية. لكن ذكريات الاستعمار الفرنسي، في شمال افريقيا العربية وسورية ولبنان في القرنين الماضي والحالي، لا زالت قريبة عهد بنا توقظ في النفوس مخاوف من حلول استعمار محل استعمار، واستبدال هيمنة بهيمنة، وكأن ثقافتنا عجينة رخوة قابلة للتشكل حسب رغبات الآخرين! وتستثار هذه المخاوف أكثر عندما نرى ان فرنسا تسعى الى نشر الثقافة الفرانكوفونية في بلدان لم تخضع يوماً للاستعمار الفرنسي، بمعنى انها تحاول ان تمد رقعة انتشارها خارج المجال الحيوي الذي تتحرك فيه اللغة الفرنسية الآن، أي خارج الشمال الافريقي الذي لا زال واقعاً تحت تأثير اللغة الفرنسية دائراً في فلكها الثقافي. ومع ذلك فإن الثقافات المحصنة ضد جرثومة الهيمنة واستلاب الثقافات الأخرى قادرة على تمثل الثقافات الأخرى والحوار معها، ونحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى الى الحوار مع ثقافات اخرى، غير الثقافة الأميركية، والامتداد خارج المجال الحيوي الأميركي للتخلص من وطأة الهيمنة التي يفرضها العم سام على شعوب الأرض جميعاً. وقد أدرك الفرنسيون ان الهيمنة الأميركية تتخذ من تغيير العادات والتقاليد ونشر النموذج الأميركي للعيش، بمفرداته المعروفة من أكلات شعبية وملابس وأغان وأفلام ومسلسلات، سبيلاً الى اختراق الثقافات الأخرى وتذويبها ومحوها. ونحن نشهد منذ سنوات تحركاً فرنسياً لمقاومة انتشار النموذج الأميركي في ما سميناه المجال الحيوي للغة الفرنسية، الذي تعد الجزائر والمغرب وتونس جزءاً عضوياً منه. في هذا السياق ينبغي ان نتعلم الدرس الفرنسي، الثقافي بصورة خاصة، لنعرف ان الشعوب التي تعتز بثقافاتها تشرع في الدفاع عن هويتها عندما تتعرض هذه الهوية للتهديد، فتكرس الأموال والجهود للقيام بغزو مضاد، والانتشار الثقافي خارج الجغرافيا التي تؤطر حدودها، وتعليم هذه الدرس يتطلب الانفتاح على ثقافات اخرى غير الانغلوساكسونية والفرانكوفونية، وذلك لتذويب تأثيرات الثقافات الأخرى في نسيج ثقافتنا العربية، وعدم السماح لثقافة أخرى بالهيمنة على ثقافتنا. لكننا للأسف لا نقيم علاقات فعلية مع الثقافات اليابانية والصينية والهندية، وحتى الفارسية، ونتلقى هذه الثقافات بعد ان تمر بالمصفاة الغربية، فتضطر الى نقل ثقافات شعوب الأرض قاطبة من خلال اللغتين الانكليزية والفرنسية. وها هي جامعاتنا تقتصر على أقسام اللغة الانكليزية في الغالب ولا تشجع، الا على نحو بسيط، تعليم اللغة والآداب الفرنسية، فيما تهمل هذه الجامعات لغات الشعوب الأخرى وآدابها تاركة عقول الشباب والشابات نهباً لثقافة بعينها تشكل عوالمهم وعاداتهم وأفق تفكيرهم! فكيف يمكن ان ننجو من مصيدة الهيمنة ونحن نسمح لأنفسنا بالنظر بعيون الغير والاصغاء بآذانهم والتعرف على العالم بعقولهم؟