يتطلب ديوان نديم محسن من الشعر العامي باللهجة اللبنانية ان نتوقف عند ملاحظتين اساسيتين: واحدة عامة تتعلق بهذا النوع من الشعر الشعبي، ويمكن ان تشمل كل الأنواع المعروفة منه في العالم العربي. والثانية تتعلق بتجربة الشاعر نفسه من حيث تأثره ببعض رموز المدرسة اللبنانية وكذلك من حيث مفرداته ومدلولاته المستعملة في "شامات". نبدأ بالملاحظة الأولى فنقول ان الشعر الشعبي، بصورة عامة، أجمل ما يكون عندما يُلقى أو يُنشد أو يُغنى. وهو يفقد بعض رونقه وسلاسته اللغوية عندما يُكتب ويصبح على القارئ ان يحاول فك أحجية بعض الكلمات اعتماداً على المخزون اللغوي المرتبط بالفصحى المكتوبة. ذلك ان هذا الشعر مرتبط بالقاموس العامي للشاعر، وفيه الكثير من التأثيرات المحلية من ناحية اللهجة وتصاريف الكلام وادغام الحروف وتحريكها وما الى ذلك من مسائل لغوية معقدة. ولو أخذنا لبنان مثالاً في هذا المجال، فإن اختلاف اللهجات يجعل من الصعب الخروج بصيغة تركيبية واحدة… اللهم الا اذا استطعنا اعتماد لهجة موحدة تصبح هي المقياس الذي على أساسه تصاغ القصائد العامية. ويمكننا القول ان الأغنية اللبنانية التي صنعها جيل الرحابنة وزكي ناصيف وحليم الرومي وتوفيق الباشا شكلت على مدى العقود الماضية الصيغة الموحدة لقصائد العامية اللبنانية. وحتى طلال حيدر نفسه، الذي يعتبر اليوم أحد كبار الشعر العامي في لبنان، اقترب كثيراً من نمط القصيدة العامية اللبنانية كما ترسخت خلال فترة الأربعينات والخمسينات وبلغت ذروتها في الستينات والسبعينات. ولكنه مع ذلك حافظ على تراكيب لغوية مأخوذة من البيئة البقاعية الريفية وعلى تماس مع الأنماط البدوية المتسربة الى المناطق الشرقية من الداخل السوري حيث تزدهر أشعار البدو وأغانيهم على أنواعها الغنية. ويكمن نجاح طلال حيدر من ضمن أسباب أخرى عدة في انه قارب بين المفردات اللبنانية والمفردات البدوية من دون ان يخرج عن الصياغة الموحدة التي أصبحت هي المقياس كما ذكرنا أعلاه. ونحن أخذنا طلال حيدر مثالاً لأنه مدخلنا الى الملاحظة الثانية في ما يتعلق بديوان نديم محسن "شامات". والواقع ان قارئ هذا الديوان يشعر بأنفاس طلال حيدر حية وحارة في عدد من القصائد من دون ان يصل الأمر الى التقليد الأعمى. ولا غرابة في هذا الأمر، اذ ثمة أشياء عميقة تجمع الشاعرين على رغم التباعد بين جيليهما. واذا كان نديم محسن مأخوذاً بالعمق الابداعي لطلال حيدر، فإنه يسعى - وبنجاح - الى خلق لغته الخاصة وفق رؤى فكرية تتقارب من تلك التي حمَّلها حيدر لقصائده المعروفة. ونديم محسن في "شامات" يتجاوز بمراحل النمط الغنائي للقصيدة العامية اللبنانية، وان كان يجربها في مرات عدة وكأنه يريد ان يؤكد لذاته - وللقارئ أيضاً - ان القصائد التي يقدمها هنا هي وريثة شرعية للشعر الشعبي… وفي الوقت نفسه تطوير جذري له. فالصور الشعرية لم تعد بسيطة ومباشرة كما الزجل والقرادي والمعنَّى وغيرها، وانما هي شعر ذو مضامين أعمق تواكب تعقيدات الحياة الفكرية والثقافية للانسان المعاصر: تشربكوا الخيطان يا غزل العنكبوت يا ضو بالعتمة انجدل… تَ يموت! و"التجاوزات" التي يُقدم عليها الشاعر لا تقتصر على المضامين، وانما نراه يكسر الأوزان التقليدية المتعارف عليها في الشعر الشعبي لكن من دون ان يتخلى عن القافية والتفعيلة والموسيقى الداخلية الغنية بالايحاءات: كيف ألواحه… وحل كيف القهوة… طحل كيف الحلى بعيونهن كزبة كحل! للوهلة الأولى يشعر قارئ "شامات" بغربة عن القصائد ناجمة عن صعوبة "قراءة" الشعر الشعبي. ومع الترداد والتنغيم تنفتح عوالم عميقة تزداد تألقاً عند الالقاء، ويصبح الشاعر وكأنه منشد لكل واحد من قرائه الكثر. وفي مثل هذه الحالة نكتشف كيف ان الشعر كله - خصوصاً الشعبي منه - هو تلك العلاقة الخاصة بين المُلقي والمتلقي. المتعة في قراءة قصائد نديم محسن لم تكتمل بعد. فالشاعر ما زال بحاجة الى تكوين لغته العامية الخاصة القادرة على التخلص من آثار "الفصحى" من جهة وآثار تعدد اللهجات من جهة اخرى. صحيح انه قطع شوطاً بعيداً جداً في "شامات"، غير اننا نعتقد بأنه ما زال يجرب سواء في الصيغ اللغوية أو مضامين القصائد أو الأوزان والقوافي والتفعيلات. وهي تجارب ممتعة بقدر ما تقود الى ذرى اخرى لا شك في ان شاعرنا يتطلع اليها ويسعى نحوها مزوداً بكل الأدوات اللازمة للابداع.