حين يُستقبل رئيس جمهورية فرنسا جاك شيراك، ينتهي الأمر على شكل فضيحة. والشيء نفسه يحصل حين يكون الزائر وزير خارجية بريطانيا ورئيس المجموعة الأوروبية روبن كوك. وفي اسرائيل وحدها من بين بلدان العالم يتم التعامل مع الضيف ذي الرأي المختلف، كما لو انه ارهابي يملأ جيوبه بالقنابل والمتفجرات. ولكنْ في اسرائيل وحدها يعلن قطب قيادي في السلطة انه ينوي ان يقتل! والحال أن نتانياهو والمستوطنين جعلوا الكثير من الكليشيهات العربية القديمة عن "الدولة العصابة" تبدو صحيحة. فالسلوك المتبع حيال كوك، بعد شيراك، معطوفاً على كلام شارون، يضعنا وجهاً لوجه امام عصابة لا أمام دولة. وهنا يبدو جلياً كم ان تطرف المرء في دفاعه عمّا يراه حقاً له، يتحول موقفاً بائساً وعديم الاكتراث بكل المعايير والاعتبارات المعهودة. فإذا جاز بعض التصلّب والحذر باسم الهاجس الأمني، وهو فعلي لدى الاسرائيليين، فمن غير الجائز بتاتاً اتباع سلوك عصابي في التعبير عن الهاجس هذا. ومن غير الجائز أيضاً الإغفال عن وجود هاجس أمني عند الفلسطينيين: ذلك ان المستوطنين هم وحدهم المسلّحون على ما أشار ولفريد كتاب الهيرالد تريبيون في 19/3/1998. والى حجّته هذه يمكن التذكير بعدم الأمان العميق الذي توارثته ذاكرات التهجير والمخيمات. لكن اذا امكننا النظر الى ما يلي الحدث المباشر، استوقفنا حصول هذا كله بعد تطورات كثيرة مهمة: فهناك الكلام على مبادرة اميركية لتحريك عجلة السلام لا تزال اسرائيل تسعى الى تفاديها، وإلا فلتكن سرية! وإذا صحّ ان مهمة كوك "الأوروبية" لم تكن منسّقة مع الولاياتالمتحدة، فالصحيح ايضاً ان كوك "البريطاني" صديق وحليف موثوق لواشنطن. وكانت الحرب التي لم تقع في العراق آخر علامات الصداقة والتحالف البعيدين. اما الفلسطينيون والعرب فصورتهم في العالم افضل من السابق بكثير. لقد بدوا خلال المواجهة الاميركية - العراقية عاقلين، ولو انهم لم يهتموا ببلورة هذا التعقّل ودفعه الى درجة اعلى من التماسك والامتداد الشعبي. وبدورها تولّت سياسات نتانياهو توفير الاعذار للحالات الصدامية التي زخر بها الشارعان الفلسطيني والعربي. الى ذلك تنمو قناعةٌ دولية كانت المواجهة الخليجية الاخيرة ذريعتها، مفادها ان التطرف في اي حقٍ ينقلب على صاحبه وعلى حقّه. وربما بدأت تركيا تقدم لهذا الدرس مادةً داخلية غنية. فحكومة مسعود يلماز التي جاء بها العسكر على جثّة "الرفاه"، تكتشف ان الحقائق العنيدة للمجتمع التركي تمنع المضي في نهج متشدد ضد الاسلاميين. هكذا شرعت العلاقات تتوتر داخل التحالف العلماني بين العسكر والسياسيين ممن اشتركوا جميعاً في الجريمة نفسها. فحين ننقل هذا الدرس الى اسرائيل ونطبّقه عليها، نفهم بعض اسباب الخوف الاستباقي لدى نتانياهو. فالتعايش مع الضغط الدولي، ومع حقائق الاعتدال وروح التسوية، يعني تحديدا خسارة الكتلة الأكثر تطرفاً في المجتمع، اي غلاة الدينيين والقوميين. فهؤلاء يدفعون في الاتجاه الديني - القومي بنفس الحدّة التي يدفع فيها الجنرالات الأتراك في الاتجاه العلماني - القومي. وإذا صحّ ان اسباباً وجيهة حالت، حتى الآن، دون سقوط نتانياهو، فالمؤكد ان تعريضه للخيار هو ما يُسقطه. فمن دون هذه الكتلة لن يستطيع ان يحكم، الا انه لن يستطيع ان يحكم طويلاً بسلوك العصابة التي لا تعبأ بالوضعين الاقليمي والدولي وحقائقهما. وقد اعلنت المواجهات الاخيرة ان الخيار المذكور هو ما لا بدّ من مواجهة رئيس الحكومة الاسرائيلية به لأن انتفاضة - عنيفة هذه المرة - قد تكون قاب قوسين. وهذا مجتمعاً يوحي ان سلوك العصابة انما يعبّر عن وجود المأزق، وان هذا المأزق لم يعد يملك في قبّعته الكثير من الأرانب. والمهم، طبعاً، ان تتحرك الولاياتالمتحدة، الا ان المهم أيضاً ان لا يفعل العرب، وأن لا يقولوا، ما قد يساعد حاكم تل أبيب على النجاة