تودع القاهرة معرضها الدولي للكتاب الذي أكمل عامه الثلاثين هذا العام. ومقولة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي "إن الاستمرار هو نجاح النجاح" تصلح للتوقف أمام هذا الرقم. فالمعرض عندما يكمل عامه الثلاثين يصبح أقدم مشروع ثقافي عربي صمد في وجه كل المتغيرات المصرية والعربية والدولية. كانت دورته الأولى في كانون الثاني يناير سنة 1968 بسيطة ومتواضعة. وكان الهدف منه، في ذلك الزمان البعيد، سياسياً. كان هدف الاشقاء العرب التعبير عن تضامنهم مع مصر عبدالناصر المهزومة بعد 1967، وجراحه العميقة التي كانت هزيمة للنهوض العربي كله. والمعرض ابتداء من سنته الأولى برئاسة الدكتورة سهير القلماوي رئيسته الأولى، وحتى مسؤوله الحالي الدكتور سمير سرحان، تضخم لدرجة أنه أصبح أكبر من أية إدارة يمكن أن تشرف عليه أو تديره. وتحول الى عرس ثقافي للكتاب العربي في مصر. لكن المعرض أصبح في سنواته الأخيرة معرضين. سوق للكتاب، ومهرجان ثقافي ضخم له بُعد سياسي في الأغلب الأعم، وأرقامه تعدت الملايين سواء الكتب المعروضة فيه أو الزوار الذين يقصدونه. وإن كنت ألاحظ أن الملايين تذهب الى المعرض ولكن الآلاف فقط هم الذين يشترون الكتب، والمئات هم الذين يقرأونها... فإن رقماً يقترب من المليون يتابع الأنشطة الثقافية المصاحبة للمعرض كل سنة. وبعيداً عن دلالات الأرقام، فإن من يخرج من بيته قاصداً معرض الكتاب. هو باحث عن الثقافة بصرف النظر عن شرائه الكتب من عدمه، أو قراءته لها من عدمه، أو تردده على أمكنة الندوات أو عدم تردده... يكفي أن يذهب الى أرض المعارض في مدينة نصر حتى لو كان الهدف هو الفسحة مع أسرته والهروب من زحام القاهرة الخانق. في هذا المهرجان يبحث الإنسان عن العناوين الجديدة. والمثقفون - المصريون والعرب - ثلاثة أنواع في حكاية التعامل مع المعرض: نوع يذهب الى أجنحة الكتب فقط، ونوع يتجه الى مكان الندوات، ويخرج منها مباشرة من دون المرور على الكتب. ونوع ثالث يحاول الجمع بين الأمرين، ولكن كل مثقف يقابل الآخر يسأله على الفور عن الجديد الذي وجده في المعرض، والكتب التي اشتراها منه. وتلك جولتي في أجنحة دور العرض، وهذا جديدي وبعض جديد من معرض السنة قبل الأخيرة في قرننا العشرين. نقطة البدء من دار الكتب والوثائق القومية، وعلى رغم كثرة الجديد الذي تقدمه هذه الدار العريقة هذا العام حيث قررت قيادتها الحالية عدم الاكتفاء بأن تكون الدار ذاكرة ورقية للأمة، ولكنها تحاول النهوض باعتبارها كياناً ثقافياً. ودار الكتب قدمت طبعة من "ألف ليلة وليلة" في برنامج طموح هو "نوادر المطبوعات". ويمكن القول عن عامي 1997 و1998 أنهما كانا عامي "ألف ليلة وليلة" في مصر، فقد صدرت طبعة كلكتا الهندية في ثمانية مجلدات نشرتها هيئة قصور الثقافة في سلسلة "الذخائر" التي يشرف عليها جمال الغيطاني ونفدت فور صدورها. ثم اصدرت "دار الخيال" نصاً جديداً يكتشف للمرة الأولى بالعامية المصرية. وها هي دار الكتب تقدم طبعة برسلاو في اثني عشر مجلداً. وطبعة برسلاو بدأ صدورها سنة 1825 كما يقول الدكتور جابر عصفور في مقدمته لهذه الطبعة الجديدة من الليالي المدهشة وبرسلاو هي التسمية الألمانية لمدينة بولندية قديمة معروفة بتاريخها الذي يرتبط بجامعتها العريقة. وطبعة برسلاو من الليالي تقع في خمسة آلاف وأربعمئة وخمس صفحات من القطع الصغير. وعنوان الليالي هو: "هذا كتاب ألف ليلة وليلة من "المبتداء" الى "المنتهاء" قام بطبعه الحقير الفقير الى رحمة ربه وغفرانه: مكسيميليانوس بن هابخط معلم اللغة العربية في المدرسة العظمى الملكية في مدينة برسلاو حرسها الله آمين. آمين. آمين. بدار طباعة المدرسة في مدينة برسلاو بالآلات الملكية". وأتجول وسط الجديد الذي قدمه المجلس الأعلى للثقافة ضمن المشروع القومي للترجمة الذي تحاول مصر من خلاله استعادة دورها في الترجمة عن لغات العالم. وربما كان الكتاب "العمدة" في هذه الاصدارات هو "مثنوي" لمولانا جلال الدين الرومي الذي ترجمه كاملا وللمرة الأولى في تسعة مجلدات الدكتور ابراهيم دسوقي شتا، الرجل الذي يقف وراء محاولة نقل العديد من أمهات الكتب الفارسية بتجلياتها المختلفة إلى اللغة العربية. "مثنوي" جلال الدين الرومي - ويعذرني ابراهيم دسوقي شتا لعدم كتابة كلمة مولانا قبل اسمه - ترجم المرحوم الدكتور محمد عبدالسلام كفافي الجزءين الأول والثاني منه، ومات من دون أن يتم مشروعه. ثم أكمل شتا ترجمة الجزء الثالث ونشرته له "دار الزهراء" سنة 1992، والجزء الرابع ونشره على نفقته الخاصة سنة 1993، الى أن اقترح عليه عدد من الاصدقاء أن يترجم السفر الضخم كله من أوله الى آخره من أول وجديد، وكان يخشى أن يفهم أن هذا اعتراض على ما قام به استاذه. ولكنه أمام فكرة أن يوجد هذا النص كاملاً بروح واحدة لا تعد عدواناً على الاستاذ، خصوصاً أنه مضى على إصدار الاستاذ للجزء الثاني ربع قرن من الزمان تمت خلاله اضافة العديد من الشروح والتحليلات للمتن الخاص بمثنوي الرومي. وهكذا ستعرف المكتبة العربية - للمرة الأولى - هذا النص الذي يعد من أروع كلاسيكيات الآداب الإسلامية إن لم يكن من أروعها. وهو يقع في ما يقرب من ثلاثين ألف بيت من الشعر العذب. والنص مكتوب في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وهو محاولة لصب كل المعارف الإسلامية الأخرى فيه، وعلاوة على صوفيته الراقية، فإنه يهتم بتربية الانسان على الأرض قبل أن يوصله بأسباب السماء. وفي دار الانتشار العربي، وهي من الدور اللبنانية الجديدة التي تنفذ فكرة النشر المشترك مع دور نشر أخرى. في عواصم عربية، أجد مفاجأة في انتظاري ألا وهي كتاب "رشف الزلال من السحر الحلال" لجلال الدين السيوطي. واسمه نسبة الى مدينة اسيوط التي ولد فيها وإن كان عاش ومات في مدينة القاهرة في زمن المماليك الجراكسة. وأهمية، بل وغرابة هذا الكتاب، تأتي من أن السيوطي كتب الكثير في التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع. وقد وصلت هذه المؤلفات الى حوالي خمسمئة مؤلف بالتحديد 538 مؤلفاً كما صنفها هو نفسه في كراسة كتبها سنة 981ه. وعلى رغم الجدية والصرامة، فإن للسيوطي له بعض الكتابات الماجنة ومنها هذا الكتاب الذي يسميه السيوطي "مقامة النساء" وهو اقرب الى الشكل الفني في الكتابة، يعتمد على شكل المقامات الذي كان المقدمة الأولى لفن القصة القصيرة كما عرفناه في شكله الحديث. والكتاب عبارة عن عشرين مقامة تختلف في الطول والقصر، أطول هذه المقامات يقارب الستين سطراً واقصرها لا يزيد على ثمانية أسطر وقد كتبها السيوطي على لسان عشرين عالماً يختلفون في ما تخصصوا فيه. وموضوع المقامات ان كل عالم يحدث زملاءه عما شاهده وجرى له في ليلة زفافه، التي نسميها "ليلة الدخلة"، وما جرى له مع زوجته. واتبع السيوطي في كتابه هذا اسلوب المقامة، فقد قص قصته على لسان أبي الدر النفيس بن أبي أدريس الذي خرج الى فلاة يعظ الناس ويدعو الرجال الى الزواج، فاستجاب لندائه عشرون عالماً. والسيوطي يلتزم في كتابه النهج البديعي من سجع وجناس وطباق الى توريات لطيفة وبديعة وتجميلها بالآبيات الشعرية. ومن دار توبقال المغربية أخرجُ وبيدي كتاب "الألم" للفنان المغربي العربي باطما. ومن الصدف الغريبة انني خرجت من معرض سابق وبيدي كتابه "الرحيل"، وعندما كنت أقرأ الكتاب فوجئت بخبر رحيل مؤلفه. وها هو الكتاب الثاني، ولكن بعد رحيله فعلاً. وإن كان هناك كاتب مغربي يمكن أن تنافس كتابته محمد شكري فهو ما تركه لنا العربي باطما، ذلك أن في كتاباته قدراً من البساطة والسهولة. وقبل كل هذا وبعده ذلك الهدف النادر الذي هو كلمة السر وراء كل كتابة عظيمة. والعربي باطما - لمن لا يعرفه من الوطن العربي ذلك أنه كان معروفاً في المغرب مثل معرفة الناس بعبدالحليم حافظ في زمانه - هو مؤسس فرقة "ناس الغيوان" وهي الفرقة التي حولت نثر الحياة اليومية الى شعر وغناء وتمثيل أعانت الناس على تحمل صعوبات الحياة، وولدت في اعماقهم بذرة الأمل في أن الغد قد يكون افضل من اليوم. ولأنه يكتب كتابه من على حافة الموت، ففي المكان الذي كان من المفروض أن يدون فيه الاهداء، مثلما يفعل المؤلفون المحترفون، يكتب هذه الكلمات: "الجزء الثاني من السيرة الذاتية"، وبين قوسين يدون هذه العبارة "إذا أراد المولى سبحانه وتعالى وتركني حياً لأنهيها". ويكتب في الصفحة الأولى من هذا الكتاب العذب: فجأة جاءتني فكرة حمقاء كحرياتي. فكرة الجزء الثاني. وهي لماذا لا أكتب الرحيل الى الألم، ما دام فهم الكل كتابي الأول بأنه رحيل الى الموت؟ نعم الرحيل الى الألم، الى البلاء والشدة والمرض والاختناق وكذلك في بعض الأحيان الى الضحك المؤلم والفرحة المؤلمة، والشفاء الذي لن يكون. وسيكون. ويحكي محنته هكذا: ففي سنة 1993 كنت أقوم بإنتاج من تأليفي للتلفزيون المغربي. وكان ذلك من سوء الصدف في مستشفى في الدار البيضاء، كنت أقف لأشاهد اللقطة، وهي للطبيب المكلف بالحراسة في ذلك اليوم، فإذا به يرفع يده، ويمر بها على عنقي، ثم يقول لي: يوجد كيس مائي بعنقك. تحسست المكان لأول مرة، فاكتشفت انه بالفعل هناك شيء صغير، صلب، من عنقي، ثم أجبت: - وما العمل؟ فأخبرني بأنه يمكن نزعه، وذلك بواسطة عملية بسيطة لا تستغرق مدتها نصف الساعة. واتفقنا على موعد بعد نهاية تصوير المسلسل. وكان ذلك... هل أعترف هنا بعد انتهاء هذا الاقتباس من كتاب العربي باطما. باعتراف صغير؟ ربما كان هذا العمل من أكثر الأعمال الأدبية التي قرأتها والتي أقنعتني بضرورة وربما بحتمية الإقلال من التوسع في استخدام لهجات العامية في الكتابة. ذلك أن العربي باطما يستخدم الكثير من مفردات العامية المغربية، ومن الطبيعي أنني لا أعرف حرفاً واحداً منها. ولكن الجديد هذه المرة أنه بعد هذه الكتابة العامية يوجد النص نفسه بالعربية الفصحى. ولا أعرف إن كان العربي باطما هو الذي فعل هذا، أم أن ناشره الذي فعله. ولكن وضع النصين بجوار بعضهما جعلني أدرك أن العاميات العربية ليست مجرد لهجات للفصحى الواحدة، بل ربما كانت لغات أخرى موازية تكتسب حياتها من اللغة الأم نفسها، وطردها بعيداً عن دائرة التكثير. بصدق، هذا ما شعرت به، وما أوجب عليّ حالة من مراجعة النفس من استخدامات العامية، وذلك اثناء قراءة هذا النص الذي يطل الصدق من كل حرف فيه. ومن مؤسسة "الأهرام" أحصل على التقرير الاستراتيجي العربي للعام 1997 الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام". وهذا العام يتولى رئاسة تحريره للمرة الأولى الدكتور وحيد عبدالمجيد. وتجديد الدماء، والقدرة على الاقتراب من هذه المغامرة التي يحاربها الجميع في عالمنا العربي، مسألة جميلة لأن البعض يتصور أن مجرد الاستمرار هو نجاح النجاح. والجديد في تقرير هذا العام كثير، لكن هناك بعض الأمور التي لفتت النظر ولا بد من التوقف أمامها، أولها: ان التقرير صدر في موعده تماماً مع الأيام الأولى من العام 1998، لم يتأخر عن موعده ابداً. وتلك قيمة يجسدها صدور التقرير، ذلك أن تأخره يتم على حساب فكرة أن عاماً مضى وإننا نلقي نظرة على ما جرى في هذا العام. الأمر الثاني: الروح الانتقادية التي سادت رؤية هذا التقرير، فهو لا يقرر ولا يحاول أن يقول إن كل الأمور تمام. ولكنه يتعامل مع الواقع برؤية تنقده بحثا عن الافضل والأحسن. هذه الروح سادت ما كتبه التقرير عن الوطن العربي، وللتدليل على ذلك أتوقف أمام العناوين فقط لمحاولة عرض حال أحوال مصر في هذا العام الذي مضى. عنوان فصل مصر في هذا التقرير هو: النظام السياسي المصري. والقسم الأول منه: تفاعلات نظام الحكم. وهذه التفاعلات تقدم تحت العناوين الآتية: انخفاض معدلات التغيير وضعف التجانس في مجلس الوزراء. قصور في دور مجلس الشعب على رغم الصحوة الرقابية. مخاطر تقليص دور المحكمة الدستورية العليا. ومن جناح وزارة الثقافة السورية، يخرج الانسان بالعديد من الأعمال الجديدة من أهمها المجلد الثامن عشر من الاعمال الأدبية الكاملة للروائي الروسي تولستوي، وهو المشروع العملاق الذي كان قد بدأ بعد الانتهاء من أعمال دستويفسكي. ونشر مثل هذه الأعمال الكاملة يمثل الصناعة الثقيلة في النشر، ولا تصلح للقيام به في عالمنا العربي سوى الجهات الحكومية. نقول هذا على رغم كل ما يقال عن برامج الخصخصة التي يحاول الغرب دفعنا اليها. قبل معرض الكتاب كنت أسأل نفسي كل صباح: متى تلمس يدي وتصافح عيناي كتباً جديدة؟ من تلك الكتب المدهشة والعذبة والجميلة، تلك الكتب التي تثير في النفس حالة من الشجن، لا تثيرها سوى الأعمال الكبيرة. تلك باقة أولى من حديقة كان بها أربعة ملايين عنوان لكتب عربية، لا بد أنها ستفشل في اضاءة عتمة هذا الزمن العربي الرديء.