طبع كتاب "ألف ليلة وليلة" للمرة الأولى بالأحرف العربية بمدينة كلكتا بالهند في جزءين، نبّه عليهما يوسف سركيس في "معجم المطبوعات العربية والمعربة". وكان ذلك في المطبعة الهندوستانية، وبرعاية كلية فورت وليام التي أصدرت الجزء الأول بعنوان "حكايات مئة ليلة من ألف ليلة" سنة 1814، وأتبعته بالجزء الثاني الذي اشتمل على "حكايات مئة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد" سنة 1818. وكانت هذه الطبعة التي لم تنشر النص كاملا البداية الفعلية التي مهّدت الطريق أمام الطبعات الكاملة اللاحقة من الليالي. وكانت أولى هذه الطبعات الكاملة طبعة مدينة "برسلاو" الألمانية في ذلك الوقت. وهي الطبعة التي ظهرت بعدها طبعة بولاق في مدينة القاهرة بمصر ثم طبعة كلكتا الثانية بالهند، وذلك في التتابع التاريخي الذي سبقت فيه طبعة برسلاو غيرها من الطبعات الكاملة، فكانت البداية التي قرأ بواسطتها العالم كله الحكايات الكاملة، أو ما تصور أنه الحكايات الكاملة، لكتاب "ألف ليلة وليلة" مطبوعة بالأحرف العربية للمرة الأولى. وقد بدأ صدور طبعة برسلاو Breslau سنة 1825 وليس 1824 كما جاء سهواً في تقديم محسن مهدي للطبعة التي أصدرها عن ا.ي. بريل في ليدن 1984، وظهر الجزء الأول بعنوان "هذا كتاب ألف ليلة وليلة من المبتداء إلى المنتهاء" باللون الأحمر، وتحت العنوان اسم المستشرق الذي أشرف على عمليات الإعداد للطباعة وهو "مكسيميليانوس بن هابخت معلم اللغة العربية في المدرسة العظمى الملكية بمدينة برسلاو". وكان الطبع "بدار طباعة المدرسة بالآلات الملكية". وفي ظهر صفحة العنوان كتب اسم "مرتب الأحرف يوليوس كلك القايم بترتيب الآلات المشرقية بدار طباعة المدرسة البرسلاوية". وتتابع ظهور الأجزاء اللاحقة إلى الجزء الرابع بمعدل جزء في كل عام إلى أن توقف الصدور لعامين ما بين 1929 إلى 1930 استمر بعدهما متقطعا بين السنوات 1931 التي صدر فيها المجلد الخامس مذيلاً بفهارسه وفهارس المجلدات السابقة عليه و1933 و 1937 و1938 التي توقف بعدها الطبع لثلاث سنوات إلى 1842 بسبب وفاة مكسيميليانوس بن هابخت. واتصل الطبع بعد ذلك لعامين اكتملت فيهما المجلدات الباقية، فصدر المجلدان التاسع والعاشر سنة 1842 والحادي عشر والثاني عشر سنة 1843 تحت إشراف "ارثوبيوس بن فليشر مدرس الألسن الشرقية في المدرسة العظمى الملكية بمدينة لبسيا" وفي "المطبعة المعمورة لولهلم فوغل"، وذلك في إشارة إلى انتقال الطبع من مدينة برسلاو إلى مدينة ليبزج Leipzig ومن مطبعة المدرسة العظمى الملكية بها إلى مطبعة فلهلم فوجل Wilhelm Vogel في ليبزغ. وربما كان من المفيد تنبيه القارئ إلى أن "برسلاو" هي التسمية الألمانية لمدينة بولندية قديمة، معروفة بتاريخها الذي يرتبط بجامعتها العريقة التي أنشئت سنة 1702، وتقع على نهر أودر في الجنوب الغربي من بولندا بالقرب من الحدود الألمانية. وقد استولت عليها القوات البروسية سنة 1741 خلال عهد فردريك الثاني، ضمن الصراع الأوروبي، فأصبحت مدينة ألمانية منذ ذلك الوقت، وظلت كذلك إلى أن هزمت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، فعادت المدينة إلى بولندا سنة 1945، واستعادت اسمها البولندي القديم "فروتسواف" الذي ينطق بالإنكليزية Wroclaw. أما جامعة "ليبزغ" فهي أقدم وأعرق من جامعة "برسلاو" حاليا فروتسواف وأعظم منها مكانة وإنجازا في تاريخ الاستشراق الأوروبي، إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى أوائل القرن الخامس عشر، في سنة 1406 على وجه التحديد، وظلت محتفظة باسم المدينة التي انتسبت إليها إلى أن أصبحت ضمن ألمانياالشرقية، فأطلق عليها اسم جامعة كارل ماركس سنة 1953، وظلّت كذلك إلى أن تغيرت الأحوال في ألمانيا فعادت إلى اسم جامعة ليبزغ سنة 1990، متواصلة مع تقاليدها العريقة التي تأثر بها الشاعر غوته والفيلسوف فخته والموسيقار فاغنر الذين كانوا طلبة فيها. وأكملت المؤسسة الاستشراقية في هذه الجامعة الأخيرة ما أنجزته جامعة "برسلاو" فأخرجت المجلدات الأربعة الأخيرة من "ألف ليلة"، واختتمت العمل الذي استغرق ثماني عشرة سنة ما بين الجامعتين. وكانت نتيجته خمسة آلاف وأربعمئة وخمس صفحات من القطع الصغير، موزعة على خمسة آلاف وخمس وثلاثين صفحة بالأحرف العربية، والبقية حواش ومقدمات باللغة الألمانية للمجلدات. ولذلك فإن طبعة برسلاو لا تقل في حجمها الفعلي مع مراعاة القطع والبنط الطباعي عن طبعة بولاق التي صدرت بعد المجلد الأول من الطبعة البرسلاوية بعشر سنوات، وأشرف على تصحيحها الشيخ عبدالرحمن الصفتي في مجلدين صدرا سنة 1835، كما أنها تقترب من حجم الطبعة الهندية طبعة كلكتا الثانية التي صدر ربعاها الأول والثاني سنة 1839 بعد طبعة بولاق بأربع سنوات، واكتمل طبعها سنة 1842 قبل عام واحد من صدور المجلد الثاني عشر والأخير من الطبعة البرسلاوية في مدينة ليبزغ سنة 1843. وتولى تحرير هذه الطبعة من المجلد الأول إلى المجلد الثامن، فيما هو أقرب إلى الإعداد منه إلى التحرير وأقرب إلى التوليف منه إلى التحقيق بمعناه الدقيق، مكسميليان هابخت C.M.Habicht 1775 - 1839. وهو مستشرق ولد في برسلاو الألمانية، ودرس العربية في المعهد البروسي، ثم ذهب إلى باريس حيث تتلمذ على المستشرق الشهير دي ساسي 1758 - 1838 وأتم الدرس عليه وعلى الأب روفائيل المصري إلى أن أجاد العربية. وعاد إلى موطنه، حيث تولى تدريس العربية في المعهد البروسي بجامعة برسلاو المدرسة العظمى الملكية. وأصدر سنة 1824 كتابه "جني الفواكه والأثمار في جمع بعض مكاتيب الأحباب الأحرار من عدة أمصار وأقطار"، وهو مقتطفات عربية وترجمة لاتينية مذيلة بمعجم الألفاظ العربية وترجمتها اللاتينية. وكان ذلك قبل عام واحد من صدور المجلد الأول لألف ليلة سنة 1825، وقبل عامين من صدور كتابه الأخير فيما يبدو، وهو الكتاب المطبوع في برسلاو سنة 1826 تحت عنوان "نخب من أمثال الميداني" مع تعليقات عليها. ويبدو أن هابخت تفرغ قبل موته لإكمال ألف ليلة التي لم يمهله العمر لإصدار كل مجلداتها، فنهض بعبئها بعد وفاته هاينرخ فلايشر H.L.Fleisher 1801 - 1888 أستاذ اللغات الشرقية في المدرسة العظمى الملكية في ليبزج. وقد تخرج فلايشر من جامعة ليبزج، حيث درس اللاهوت وألمّ بالشرق إلمامة حببته إليه، وذهب إلى باريس حيث تعرف إلى دي ساسي والتحق بمدرسته، وتعلم على يد برسفال العربية والفارسية والتركية. وزاد حبه للعربية مخالطته شباب مصر الذين أوفدهم محمد علي في بعثة علمية إلى باريس، فضلاً عن اتصاله بأدباء لبنان وعلمائه. وعندما عاد إلى ألمانيا سنة 1826 عمل أستاذا للغات الشرقية في جامعة درسدن، وذهب إلى بطرسبورغ لفترة، ثم عاد إلى ألمانيا وخلف روزن موللر على كرسي العربية في جامعة ليبزغ إلى وفاته. وينسب إليه فضل تأسيس الجمعية الشرقية الألمانية التي نشرت مجموعة من الكتب العربية المهمة. ومن آثاره المنشورة "تاريخ العرب قبل الإسلام" سنة 1831، وفهرست المخطوطات الشرقية في مكتبة درسدن الوطنية في السنة نفسها، وتفسير القرآن للبيضاوي سنة 1846. وتتميز طبعة برسلاو النفيسة بميزات ثلاث. أولاها ما أشرت إليه بالفعل من أنها الطبعة الأولى الكاملة لليالي ألف ليلة، فهي أسبق من طبعة بولاق الأولى 1835 والثانية 1862 ومن طبعة كلكتا الثانية 1839 - 1842 فضلا عن بقية الطبعات المتأخرة في القرن التاسع عشر، وأهمها طبعة المطبعة الوهبية 1880 والشرفية 1883 والعامرة العثمانية 1884 مرورا بطبعة الآباء اليسوعيين المهذبة في المطبعة الكاثوليكية في بيروت 1888 وانتهاء بطبعة دار الهلال المهذبة التي صدرت في القاهرة ابتداء من سنة 1900. واستنت الطبعة البرسلاوية في حفاظها على الأصل ما تبعته فيها إلى حد ما الطبعة الهندية والبولاقية وغيرهما من الطبعات اللاحقة التي لم يتدخل فيها المصححون سوى بتصويب الأخطاء اللغوية والاقتراب من الفصحى بما لا ينحرف بالنص عن وجهته الفنية. ولم يتحرج المشرفون على هذه الطبعات من مشاهد الجنس في الليالي أو يظهرون أي لون من ألوان التزمت الأخلاقي إزاء بعض عباراتها أو كلماتها، لا يستثنى في ذلك من ينتسب منهم إلى علماء الأزهر مثل الشيخ عبدالرحمن الصفتي مصحح الطبعة البولاقية الأولى، والشيخ قطة العدوي مصحح الطبعة البولاقية الثانية، والشيخين طه قطرية ومحمد البلبيسي اللذين صححا طبعة المطبعة الوهبية. فقد كان الجميع يسيرون على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على سجيتها والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع. ومضت طبعات الليالي بعد طبعة برسلاو في هذا النهج فلم يحذف العلماء المشرفون عليها شيئا، ولم يتحرجوا من كلمة أو عبارة أو مشهد، ولم يتأثموا من ذكر أسماء الأعضاء التي ليس هناك إثم في ذكرها، مدركين المغزى والمرمى من وراء كل عبارة أو حكاية أو مشهد، حريصين على خصائص الحكي الذي يذهب بحلاوته التدخل في لغة السرد بالتغيير أو التعديل أو الحذف. ولكن طبعة برسلاو مضت أبعد من ذلك فحافظت على الأصل في أوضاعه اللغوية التي كان عليها، ومن هنا تأتي ميزتها الثانية. فقد نقلت الأصل الخطي كما هو، محافظة على لهجته العامية من دون تغيير أو تحريف في ما هو ظاهر من النص المطبوع. ولعل هابخت ومن بعده فلايشر اتبعا ما سبق أن قاله الجاحظ ومن بعده ابن قتيبة بخصوص إبقاء لغة النوادر والحكايات على حالها اللغوي التي هي عليه، لأن الإعراب ربما سلب الحديث غير المعرب حسنه، وترجمة العامية إلى الفصحى تذهب بطلاوتها. ولذلك حافظ هابخت وفلايشر على السرد العامي لليالي، ولم يفعلا ما فعله الشيخ عبدالرحمن الصفتي أو قطة العدوي أو الشيخ قطرية بالطبعات المصرية حين تدخلوا في المتن، وترجموا اللهجة العامية في السرد والحوار إلى لغة فصحى في حالات كثيرة. وهذه الميزة في طبعة برسلاو تجعلها أقرب إلى الروايات الشفاهية التي انتهت إليها حكايات ألف ليلة، وهي الحكايات التي كانت تتناقل بواسطة الذاكرة أو بواسطة الكتابة التي تسجّل الرواية الشفاهية حسب ما يراه الكاتب. ويبدو أن نصوص ألف ليلة الأصلية انتقلت سريعا من مرحلتها الكتابية الأولى، وهي المرحلة التي افترض أنها لم تفارق الفصحى، ولم تفارق الوظائف الرمزية الأولى للنص، فشاعت بين الجماهير التي أسهمت في إعادة انتاجها، الأمر الذي انتهى بها إلى أن تغدو نصاً شفاهياً، شعبياً، يكتسب من كل بيئة خصائص اللهجة السائدة فيها، ومن كل مجموعة من الرواة خصائصهم الأدائية. وهذا ملمح ظاهر في الطبعة البرسلاوية التي تحمل الكثير من تراكيب العامية المصرية ومفرداتها، وهي تراكيب ومفردات يمكن أن تكشف الدراسة اللغوية المتأنية لها عن العصر الذي صيغت فيه أو الزمن الذي تنتسب إليه. وأتصور أن هذه الطبعة كنز نفيس لعلماء فقه اللغة التاريخي من هذه الزاوية، فهي تتيح لهم بخصائصها اللغوية مادة ثرية للدرس التاريخي المقارن الذي يكشف عن جانب من تاريخ اللهجات العامية في علاقتها بالفصحى التي اكتسبت خصائص مدينية لافتة. والصلة بين هذا البعد اللغوي والبعد الأدائي وثيقة، لأنه من خلال تجليات المروى عليه في نص هذه الطبعة يمكن أن يخرج دارسو الفنون الشعبية بملاحظات مفيدة عن طرائق الأداء الشفاهي للحكي. وهي طرائق تنطوي على بعض التساهل اللغوي الذي يبدو أنه انتقل إلى "مرتب الأحرف" الذي تساهل، في حفاظه على الأصل العامي، مع دقة التصويب، ففاته التدقيق في مجموعة من الأخطاء في مستويات الفصحى، لم يستطع تداركها في ملاحق تصويب الأخطاء. والواقع أن ترتيب الحكايات في هذه الطبعة، فضلا عن عدد الحكايات نفسها وتفاصيلها، أمر آخر يستحق دراسة مفصلة، من منظور المقارنة بين هذه الطبعة وغيرها من الطبعات، وذلك لملاحظة أوجه الاختلاف الدالة ومواضع الزيادة والنقصان التي لا تخلو من مغزى. وأحسبني في حاجة إلى التنبيه على اختلاف ترتيب الحكايات في غير موضع من هذه الطبعة بالقياس إلى طبعة بولاق الأولى أو الثانية، وإلى الحكايات الزائدة أو المحورة، أو غير ذلك من ملاحظات تفيد الدرس المقارن الذي يكشف عن الصلة بين مغايرة الترتيب ومغايرة الأداء الشفاهي أو حتى الطباعي. وأحسب أن دراسة أوجه المغايرة بين طبعات الليالي من هذا المنظور، خصوصا ما يتصل بالإضافة أو الحذف أو التحوير أو التغيير، أمر لا يخلو من فائدة مهمة في دراسة عمليات الاستقبال المتعلقة بطبيعة الذوق السائد زمن هذه الطبعة أو تلك، وتجسيد ذلك الذوق لنسق القيم الشائع في بيئة الاستقبال.