كيفما جرى حل الفصل الأخير من الأزمة العراقية، غداة توقيع كوفي أنان وطارق عزيز "اتفاقهما"، وعلى أي وجه ترتب الحل إلى حين بروز فصل جديد على الأرجح، لا يبدو سلوك السيد صدام حسين في الأزمة الأخيرة، شأنه في الفصول السابقة، رمياً في عماية أو خَرَقاً خالصاً و"جنوناً"، على ما يحلو لبعض المعلقين والسياسيين القول. بل لعل السيد صدام حسين أقوى تماسكاً، وأصرم منطقاً، من كثير من السياسات التي تعاديه أو تؤيده. وربما يزيد الطين بلَّة، إذ في الأمر طين ووحل وبلل، أن منطق صاحب العراق وحاكمه استمرار لوجوه من سياسات عربية، سابقة ومعاصرة، اختبرت حدها وشفرتها القاطعة في لبنان المنكوب، ووَلَغ فيها بعض أعلام السياسة العربية المشرقية. وإذا صح إثبات الإستمرار فينبغي، عليه، توقع عودة هذا الضرب من السياسات وانبعاثه وتجسده، هو ونتائجه وآثاره وأنقاضه. وقد يكون جوهر السياسة الصدامية هو القبول ببلوغ حال، سياسية وعسكرية واقتصادية و"ثقافية"، يبطل معها، وفيها، الردع على اختلاف وجوهه ومراحله. ويصح القول إن هذه الحال بُلغت، أي بلغها بلد من البلدان واستقر عليها، إذا عدم البلد هذا الحد الأدنى من الدولة، أي من ضوابط التمثيل والرأي العام والتعبير عن المصالح والعصبيات والدفاع عن المصالح والعصبيات هذه. فإذا انحلت الدولة والسلطة في "صاحب" الدولة وحده، وفي عصابة تتعصب له وحده، ويجمعها هو من مصادر مختلفة ويفرقها متى شاء، خسرت الدولة، وخسر المجتمع الذي تتصدره، ما يقدر على الحد من تسلط "صاحب" البلد بواسطة مصالح أخرى، أو بواسطة عصبيات مناوئة ومنافسة، ومن طريق أعيان هذه العصبيات وأنصارهم في الإدارات أو في الجيش. فيتحرر "صاحب" البلد، بهذه الحال، مما تدين به الدولة، عادة، إلى رعاياها وأهاليها قبل أن يتحولوا إلى "مواطنين" من مصالح وموارد وأحوال، بعضها اقتصادي وبعضها الآخر سياسي بعض الأمن، بعض الحرمة، التزام بعض الحدود والقيود على مطاليب رجال السلطة، بعض المساواة.... فلا يخشى "صاحب" البلد، بهذه الحال، إذا تحرر مما تدين به الدولة إلى رعاياها من حقوق، وأَمِنَ محاسبتَهم، الخسائرَ التي قد تصيب البلد، وموارده ومرافقه، من جراء سياساته وقراراته و"إراداته". ففي وسعه دائماً التعويل على نجاعة رده على قيام الأهالي، أو على تململهم، إذا لم يكن قد بلغ بالأهالي إلى حالٍ من الانحلال واليأس والتعاسة يستحيل عليهم معها التململ، وبالأحرى أن يستحيل عليهم القيام على "صاحب" البلد وطاغيته المستبد بأموره. وليس الفقر والجوع والعوز إلا من وسائل التسلط العام هذا. أما الغاية التي يحتاج إبطال جدوى الردع إلى بلوغها فهي ضعفُ كل الروابط الاجتماعية، من عصبية أهل وجوار إلى روابط المصلحة والإرادة، ومرضُ هذه الروابط. فإذا دب الخوف والكراهية واليأس والوقاحة وهذه وجه الخجل الآخر في الروابط الاجتماعية اليومية قدر "صاحب" البلد على التصرف في "السياسة" من غير أن يخشى حساباً، أو حسبة وقيداً. والحق أن "صعود" صدام حسين إلى هذه الذرى يعود إلى بعض الوقت. ومصدق هذا التأريخ هو كتاب كنعان مكية في "جمهورية الخوف"، الصادر في منتصف العقد الماضي. وكانت حرب الخليج الأولى ذريعة إلى "تعبئة عامة" إرنست يونغير، الألماني القومي والمحاذي النازية أدت، فيما أدت إليه، إلى نصب صدام حسين حاكماً "كلياً" يونغير نفسه، ينشب أظافره ومخالبه في خلايا الاجتماع العراقي وروابطه. فلما وقعت حرب الخليج الثانية، وفصلت كردستان العراق وأهاليها من العراق، وقيدت استعمال صدام حسين القوة في الجنوب، وضيقت على موارد الدولة والبلد، وعزلت الدولة، لم ينجم عن الإجراءات الرادعة، أو المفترضة رادعة، هذه، دبيبُ الضعف في رأس الحكم قبل "اهترائه"، على قول المثل الصيني في سمكة الحكم، وسقوطه. بل قويت عصبية الحكم، وازدادت الهوة بين أهل هذه العصبية الملتحمة بصدام حسين وبين عامة العراقيين وسوادهم. وأمسى صدام حسين، وحده، حصن أهل هذه العصبية وعاصمهم من "شرور" العراقيين المحتملة. فتسلط أهل عصبية صدام حسين على "أعدائهم" العراقيين، وتحرر تسلطهم من كل اعتبار قد تمليه رابطة غير قسرية، أو قد يمليه تشارك في غاية. فالرابطة الوحيدة التي يقبل "صاحب" العراق المشاركة فيها هي كراهية "الأميركيين" ومن يحملهم المسؤولية عن كوارث العراق والعراقيين. وليست مسيرات التشييع الجماعية التي تنظمها أجهزة الرجل لأطفال ولأولاد عراقيين إلا من طقوس هذه الكراهية وشعائرها المقترحة. وهي المسيرات شعائر توحيد وجمعٍ على طرد "الطاعون" و"الشيطان" وهذه صيغة خمينية من الجسم المحموم والمتصدع، وعلى تسمية العدو والوباء. فتكتمل بهذا حلقة إبطال الردع وإفساد مفاعيله المتوقعة. فإذا رمى الردع - بواسطة القصف، أو الحظر على مناطق، أو حماية جزء من السكان، أو الحصار الإقتصادي، أو العزل السياسي والديبلوماسي - إلى تخويف الحكم خسارةَ جزءٍ من الموارد المالية أو المعنوية التي يتوسل بها إلى إرساء شرعية على قبول المحكومين، لم ينتهِ الرادعون، أياً كانوا، إلى تقدير الخسارة الكفيلة بحمل الحكم وصاحبه على المساومة والتسوية. فالخسارة المترتبة على "الضربة" لا تملك قوة على الردع من تلقاء نفسها، وبمنأى من آثارها المعنوية. وليس ميزان الخسارة الرادعة مالياً وكمياً. وما ينجح تصديع الدولة، وإضعاف الروابط الاجتماعية والأهلية والمصلحية التي تنهض عليها الدولة، في تحقيقه وإنجازه، هو كسر ميزان الخسارة، وإبطاله. وإذا كان الردع النووي ناجعاً، إلى اليوم وقبل دخول حكام من طرز السيد صدام حسين في حيازة السلاح النووي، فالسبب فيه هو اشتراك الخصمين في استبعاد خسارة كبيرة يسع الخصمين إلحاقها واحدهما في الآخر على وجه اليقين. وإذا كان أحد الخصمين "ضعيفاً"، ولا يملك الرد النووي القمين بإنزال خسارة بعدوه تساوي الخسارة الفادحة التي تنزل به، فما يحمله على الإقرار بخسارته، وعلى الانصياع، إنما هو دوام الدولة وأبنيتها والتزاماتها المدنية على المثال الياباني في نهاية الحرب الثانية. وقد يكون مصدر قوة حاكم العراق، ونفرٍ غيره من "أصحاب" بلدانهم ودولهم التي تنسب إليهم، هو استباقه منطق الردع، وإفساد هذا المنطق وإبطاله من طريق غير مسلوكة ولا معروفة هي تصديع طريق الدولة وإلغائها. وهذه الطريق هي غير طريق إبطال "حرب الشعب"، الصينية الماوية والفيتنامية الهوشيمينية، نسبة إلى هوشي منه، التفوقَ العسكري الياباني ثم الفرنسي والأميركي. فعمدت "حرب الشعب" إلى الرد على العمل العسكري بجواب سياسي، فأبطلت السؤال وطرحَه، وأنكرت حقيقته وألغتها. وتوسلت إلى الإبطال هذا بتقديم الدفاع على الهجوم، وبإطالة المراوغة والانكفاء على طريقة سماها كوتوزوف الجنرال الروسي ونقيض نابليون في "الحرب والسلم" لتولستوي "حرب الشاش" - الذين أ عيوا قوروش "العظيم" عن اللحاق بهم وحصارهم. لكن "حرب الشعب" لم تفلح في كبح الردع، وفي استبعاد السلاح النووي من عدة الرد ويفترض الاستبعاد السياسةَ الغربية و"ثقافتها"، على رغم "كولونياليتها" وتسلطها وتجبرها، إلا من جراء إنشائها "الشعب"، وتعويلها عليه، وتدبيرها تصديه للعدو - وأوهمها إنشاؤها هذا الزعمَ لنفسها، أي للقيادة السياسية والعسكرية والإيديولوجية، الحق في "صنع" الشعب صنعاً جديداً، على ما زعم الخمير الحمر لأنفسهم، وسبقهم ستالين إلى هذا الزعم في الأعوام 1928 - 1932. وافترض إنشاءُ "الشعب" إنشاءَ "دولةٍ ضدٍ" لينين، أو دولة ظل تتغلغل في ثنايا العلاقات الاجتماعية وهيئاتها، وترسي شرعية مختلفة عن شرعية الحكم، على ما أراد أنطونيو غرامشي الإيطالي، وأنجز روح الله خميني الإيراني. أما صدام حسين فكبح الردع من طريق مبتكرة هي تصديع الشعب العراقي، والحؤول بينه وبين التماسك السياسي الذي يتيح له التذكير بأقل التزامات الدولة، وقيادتها، بإزاء شعبها. فإذا حشد "التحالف الدولي" في صيف عام 1990 وخريفه نحو ثمانمائة ألف جندي، فيهم نصف مليون جندي أميركي، شطرهم الأعظم مدجج بأفتك الأسلحة وأكثرها مراوغة" وعَدِم حاكم العراق الحلفاء الذين يعول عليهم" وظهر بعد بعض الوقت تأهب العراقيين للثورة بطاغيتهم وعليه - لم يحمل ذلك كله صدام حسين على قبول إغاثته عن يد أمين عام الأممالمتحدة يومها، السيد بيريز دوكويار، أو عن يد الرئيس الفرنسي يومها، فرنسوا ميتران، ومبعوثيه إلى سويسرا. وخرج الرجل من الحرب المدمرة وهو على رأس "الدولة" العراقية، بل وهو يتقمص "الدولة" يلبسها قميصاً! على نحو لم يحصل يومَ كان عليه أن يتألف، ولو تألفاً قليلاً، العشائر والأكراد والشيعة والجوار الخليجي ومصادر التسليح، إلى تألفه بعض كبار ضباط الجيش قبل الإيقاع بهم. ولعل رسو "الدولة" عليه وحده أقنع الحلفاء بالإبقاء عليه، وبترك قوة عسكرية وإقليمية واقتصادية بين يديه تمكنه من ردع إيران عن الثأر لهزيمتها في الحرب المدمرة بين البلدين، ومن الحؤول دون استيلائها على الجنوب الشيعي أو دون انضمام الشيعة إليها. وهذا اعتبار لم ينفك قائماً إلى اليوم. ولا شك في اضطلاع النزعة القومية، العربية أو العروبية، وفي اضطلاع العداء لأميركا الملازم لها، بدور راجح في إيهام "صاحب" العراق بامتلاك احتياط قوة يكافئ القوة التي تلوِّح بهزيمته وتجعلها أمراً محققاً. فسعى صدام حسين، بناءً على دور هذه النزعة، إلى حمل خروجه على القرارات الدولية، والمعايير الدولية، على مجابهة بينه وبين القوة الأميركية. وبعث التلكؤ الدولي، وإرادة بعض الدول القيام بدور ديبلوماسي ومحكِّم لقاء منافع اقتصادية مرجوة، وضعف الأمل في خلافة المعارضات الداخلية صدام حسين، بعثت هذه كلها السياسة الأميركية على أداء دور العدو الأوحد والأشرس. ولا شك في دغدغة مثل هذا الدور نازعاً أميركياً عميقاً إلى الاضطلاع بدور المقتص من الشرير. فأعمت المساندة العربية، أو كادت، حاكم العراق عما بقي من حس مشترك يقيه، والعراق معه، السباحة في الخلاء. لكنها، من وجه آخر ملازم للوجه الأول، كبحت الجماع الأميركي، أو ما تعمدت السياسة الأميركية تصويره بصورة الجماح على ما يأمل المراقب ويرجو، إلى "الضرب". فجمع صدام حسين المساندة الجماهيرية والرسمية العربية إلى إبطال مفهوم الردع ومنطقه الذي لا يستقيم إلا بدوام كيان الدولة السياسي والمعنوي. والجمع هذا إنجاز عظيم. وينبغي، على الأرجح، توقع استثمار الرجل إنجازه في الآتي القريب. وليس هذا بعسير عليه. فتوحيد الامتثال لمعايير المجتمع الدولي ب"أميركا"، و"سياسة القوة"، و"الغطرسة"، على ما تردد بعض الدعاوة العربية آن يسعى بعض طاقم الحكم الإيراني في الخروج من أسر هذه "الأفكار"، قمين بمد صدام حسين بذخيرة كبيرة تعينه على قمع التململ العراقي في الداخل، وعلى كبح الردع في الخارج. فينقلب الانتصار للشعب العراقي إلى ترسيخ الانتصار عليه. وينام "الضمير" القومي والإسلامي قرير العين.