الغموض المحيط بطبيعة المهمة الأميركية والتنظير الاعتباطي لها، وهو ما يدفع باحثين مثل صموئيل هنتغتون الى الشكوى من غياب "هدف" محدد "يقود قوتنا"، يجعل من الصعب التنبؤ بالقرار الذي تتوصل اليه الادارة بناء على معايير كلينتون لاستعمال القوة. لكن احداث السنوات الأخيرة تعطي بعض المؤشرات التي تخفف من ذلك التعقيد. ويبدو ان ثلاثة مفاهيم أو أنساق برزت اثناء عمل الولايات لتحديد دورها ومسؤولياتها العالمية، وهي اتجاهات المصالحة والمواجهة وما يمكن ان يسمى "التعاون مع الخصم". 1 نسق المصالحة: تمتدح ادارة كلينتون دوماً التسويات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة القائمة على التسامح بين الاثنيات والتعاون والتصالح العرقي تحت ظروف معينة في بعض المناطق ولكن ليس كلها. وكان كلينتون اعتبر جنوب افريقيا اول الأمر، خصوصاً خلال زيارة نلسون مانديلا الى واشنطن في 1994، النموذج الأفضل للمصالحة. وقال ان انهاء التمييز العنصري واقامة المجتمع على اساس التعدد العرقي وحكم الغالبية حسب مبدأ صوت واحد للفرد الواحد، متلازماً مع احترام الاتفاقات التجارية والالتزامات الاقتصادية... تبرهن على صفات مانديلا القيادية الحكيمة التي تربط بين الديموقراطية والسوق. وكان هذا برهاناً بالنسبة الى كلينتون على مفهومه ل"ديموقراطية السوق". لكن حماسة كلينتون للنموذج الجنوب افريقي تراجع بشكل مفاجىء عندما زار مانديلا ليبيا ثم عقد اتفاقين ماليين مع ايران وابدى استعداده لتزويد سورية بالسلاح، وأخيراً، نهاية العام الماضي، عندما ندد بالحصار الأميركي على كوبا. ولا شك ان ايجابية ادارة كلينتون تجاه جنوب افريقيا كانت شكلية أصلاً وليست سياسة جدية، لأن ادانة الرئيس للعنصرية في جنوب أفريقيا تتناقض بشكل صارخ مع موافقته على سياسة اسرائيل التي تعطي وضعاً قانونياً مختلفاً لكل من اليهود والفلسطينيين في الضفة الغربية. أما عن البوسنة فلم يكتم كلينتون، عندما كان مرشحاً للرئاسة، عزمه على انهاء الابادة التي تعرض لها مسلموها. لكنه بعد انتخابه لم يجد ان النموذج التصالحي الذي قدمته جنوب افريقيا مناسباً للبوسنة. وقال ان اميركا "تحتفظ لنفسها بحق الخيار عندما يأتي يلوح الخطر". وهو اختار الأقل خطراً وكلفة، اي عملية حفظ السلام بدل المهمة الصعبة المتمثلة بصنع السلام. 2 نسق المواجهة: النسق الثاني في السياسة الخارجية الأميركية هو المواجهة، كما يتبين في شكل واضح من العلاقات مع العراقوايران وليبيا والسودان وكوبا. وكانت كوريا الشمالية من ضمن هذه "الدول المنبوذة" المثيرة للمتاعب والمعرضة للمقاطعة، لكن واشنطن اخرجتها من هذا الصف. والوضع ببساطة هو ان واشنطن تعتبر الدول العربية والاسلامية وكأنها مصابة بجملة من الأمراض "التفكيكية" اي الأصولية والارهاب والسعي الى الحصول على أسلحة الدمار الشامل والتوجهات الديكتاتورية وانتهاك حقوق الانسان - وهذا كله ما يعرض هذه الدول ل "الاحتواء" والعقوبات متى ارادت واشنطن. واذا احتجت هذه الدول أو "أساءت" التصرف يمكن اضافة الضربات العسكرية والمزيد من المقاطعة الى قائمة العقوبات. ولا يبدو ان المخاطرة والكلفة تشكلان كما في الصومال والبوسنة عائقاً أمام هجمات عسكرية على العرب. منشأ سياسة "الاحتواء المزدوج" ضد العراقوايران كان اسرائيل واللوبي الموالي لها في واشنطن، فيما نتجت سياسة العقوبات على كوبا من جملة من الاعتبارات الانتخابية التي كانت الدافع وراء تحرك الكونغرس لتشديدها بقيادة السناتور المحافظ المتشدد جيسي هيلمز والنائب دان برتون. وارتبطت العقوبات على ايران باسم السناتور الفونس داماتو، وكان دافعه، حسب مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق ووزير الدفاع السابق جيمس شليسنغر، "ارضاء الناخبين اليهود في نيويورك". وعبر شليسنغر في مقالة نشرتها مجلة "ناشونال انترست" المصلحة الوطنية في عددها لخريف 1997عن استبشاعه سياسة العقوبات التي تتبعها ادارة كلينتون: "فرضت الولاياتالمتحدة، خلال ادارة كلينتون الأولى فقط، عقوبات جديدة من طرف واحد، أو هددت باتخاذ الخطوات القانونية في هذا الاتجاه، ستين مرة، وازاء 35 دولة يشكل سكانها نحو 42 في المئة من مجموع سكان العالم". تثير تعليقات شليسنغر على دور الولاياتالمتحدة بعد الحرب الباردة الاهتمام، لأنها تأتي من شخص كان معروفاً بأنه من "الصقور" وله جذور عميقة في مؤسسات الأمن الوطني في السبعينات. وكانت نهاية الحرب الباردة دفعت الكثير من القوى الكبرى الى التخفيف من الجانب العسكري والاعتماد على الجانب الاقتصادي في العلاقات الدولية. لكن تصميم أميركا على "قيادة" العالم يحول دون التخفيف من البعد العسكري في سياستها الخارجية، بل احتفظت به للاستعمال في المناطق التي تهمها، أي الشرق الأوسط والخليج وشبه جزيرة كوريا. في ترسانة أميركا تجاه العرب والمسلمين وحتى الأميركيين العرب اسلحة اخرى غير السلاح العسكري. من ذلك القدرة على السيطرة على مجلس الأمن، وسلاح الفيتو في المجلس، الذي استعملته اكثر من 40 مرة، في احيان كثيرة لحماية اسرائيل من المجتمع الدولي. هناك ايضاً قوانين محاربة الارهاب التي تنتهك الحقوق المدنية للأميركيين المسلمين والعرب. ولا يمكن اعتبار تصميم واشنطن الحالي على ابقاء العقوبات على العراق، أي ابقاء هذا البلد قيد الدمار والفقر والخضوع، كوسيلة لوقف ضخ النفط العراقي الى السوق العالمية، إلا حملة ابادة تغطي نفسها بمظلة دولية. وعندما يبدأ شركاء في ما يسمى التحالف بالتساؤل عن جدوى سياسة لم تؤدِ سوى الى موت عدد لا يحصى من الناس والخراب الاقتصادي والفوضى الاخلاقية وتدمير المجتمع المدني، تعمد وسائل الاعلام الليبرالية في أميركا الى التشكيك في دوافعهم. على سبيل المثال، هناك المقالة التي كتبها المعلق توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" التي كان عنوانها "بأصدقاء مثل هؤلاء ..."، في اشارة الى التعبير المعروف: "باصدقاء مثل هؤلاء ... ما الحاجة الى اعداء؟". ولا يبدو ان فريدمان وغيره من الليبراليين المدافعين عن حقوق الانسان يهتمون بما ذكره تقرير للأمم المتحدة عن موت 4500 طفل عراقي شهرياً بسبب العقوبات. وسيبقى الشعب العراقي رهينة المناورات الدولية ما دامت واشنطن تصرّ على ربط رفع العقوبات بزوال النظام الحاكم في بغداد. السؤال البديهي هو: لماذا على العراق التعاون مع المفتشين الدوليين في الوقت الذي يصر قادة اميركا، مثل كلينتون ووليام كوهين ومادلين اولبرايت، على أن العقوبات ستبقى ما دام النظام الحالي في السلطة. ولا يذكر صحافيو اميركا وقادة الرأي العام فيها ان مجلس الأمن يكرر في قراره الرقم 687 الدعوة الى نزع السلاح النووي عن كل منطقة الشرق الأوسط. ولاعجب في ذلك لأن واشنطن قررت ببساطة ان الرؤوس النووية المئتين التي تحتفظ بها اسرائيل لا تدخل في عداد "اسلحة الدمار الشامل". من المآزق التي يواجهها العراق الافتقار الى تعريف محدد لتعبير "الانصياع" للقرارات الدولية. وعندما جدد مجلس الأمن بشكل تلقائي العقوبات على العراق في الثالث من آذار مارس السنة الماضية طلب سفراء فرنسا وروسيا ومصر من رئيس لجنة "اونسكوم" السابق رالف اكيوس ان يوضح الخطوات التي على العراق اتخاذها لكي يتوصل الى "الانصياع". ورفض اكيوس بحجة ان ذلك قد يساعد العراق على خداع المفتشين الدوليين. كما لم يتلقَ العراق تعاوناَ من الاسترالي ريتشارد بتلر، الذي خلف اكيوس في المنصب، لأنه يتصرف كأنه مندوب لكلينتون واولبرايت وليس كمسؤول في الأممالمتحدة. بل ان بتلر ألحق العار بالامم المتحدة عندما عبر عن موقفه المنحاز ضد العرب بقوله ان الحقيقة لديهم "ليست موضوعية". واصبحت المنظمة الدولية فعلياً آلة لخدمة السياسة الخارجية الأميركية، وذلك ضد رغبات الكثير من الدول الاعضاء. واضطر أمينها العام كوفي انان الى تذكير منتقديه في الكونغرس الأميركي بأنه مسؤول أمام الدول ال 185 الأعضاء وليس امام واشنطن فقط. يندر أن يرتفع في وسائل الاعلام الرئيسية الأميركية صوت معارض مثل كتابات المعلق تشارلي ريس في صحيفة "اورلاندو سنتينيل". وهو كتب في التاسع من تشرين الثاني نوفمبر الماضي تعليقاً بعنوان "لا علاقة للقضية بالاسلحة... وكل العلاقة بالنفط"، وقال: "برهنت العقوبات الدولية على العراق، التي تدين باستمرارها طوال سبع سنوات الى حد كبير الى الضغط الأميركي، على انها اقوى سلاح للدمار الشامل". وقال في مقالة اخرى نشرتها الصحيفة نفسها في 30 تشرين الثاني نوفمبر تحت عنوان "الحقيقة عن الخطر العراقي مخفية في كومة قاذورات الحكومة": "هناك شيء ما في العراق يجعل الفساد الاخلاقي في المجتمع الأميركي يطفو الى السطح، مثل الصديد من جرح ملتهب. فها هم الصحافيون، المحافظون منهم والليبراليون، ينادون فجأة بالقتل، ويصرخون مطالبين بالدم مثل الجبناء الجديرين بالاحتقار. انها طريقة حقيرة في التصرف". 3 نسق التعاون مع خصم: يشمل هذا النسق العلاقات مع الدول المعادية او المعارضة سابقاً للولايات المتحدة، والتي تريد واشنطن تطبيع العلاقات معها طلباً للتجارة. المثال الرئيسي هنا بالطبع هو الصين. وكان كلينتون تعهد في 1992 "حرمان الصين من وضع الدولة الأولى بالرعاية في العلاقات التجارية وفرض العقوبات الأقتصادية عليها" بسبب انتهاكها لحقوق الانسان. لكن واشنطن لا تربط الآن بين "وضع الرعاية" وحقوق الانسان، بل تحاول الحصول على دخول أوسع الى اسواق الصين عن طريق اشراكها في المنظمة العالمية للتجارة. يبلغ احتياطي الصين من العملة الصعبة 131.6 بليون دولار، وهو من بين الأكبر في العالم، فيما تتمتع بفائض كبير في علاقاتها التجارية مع الولاياتالمتحدة، لذا تتلهف واشنطن للتغلغل في اسواق الصين. المثال الثاني على هذا النسق هو كوريا الشمالية، التي لا تريد الولاياتالمتحدة فتح معركة معها، على رغم الاحتجاج من واشنطن على تطوير الطاقة النووية هناك. وكانت أميركا وكوريا الجنوبية في 1994 اقتربتا من صدام عسكري مع كوريا الشمالية خلال أزمة التفتيش على منشآتها النووية. لكن كوريا الشمالية على رغم فقرها، وعلى عكس العراق، عدو يحسب حسابه. من هنا فضلت واشنطن منذ 1996 ترجيح التعامل الديبلوماسي معها بدل التهديد. ولم تقدم كوريا الشمالية تنازلات في مجالات خفض التسلح او تحسين الاتصال مع كوريا الجنوبية. والواضح ان لغة التهديد والتخويف لا توجه الآن إلا الى العرب والمسلمين. يقوم هذا النسق عموماً على موازنة للمصالح تؤدي الى اتخاذ المواقف البراغماتية فيما يستمر الاعلان اللفظي عن المبادىء الاخلاقية. أما بالنسبة الى العالم العربي فلا يبدو ان القيادة الاميركية الحالية تعتبر انه يستحق الادراج في النسق الأول المصالحة أو الثالث التعاون مع الخصم للعلاقات. يبلغ عدد سكان كوريا الشمالية 46.5 مليون نسمة، ولها مجمل دخل وطني متواضع لا يتجاوز 30 بليون دولار. مع ذلك لم تتمكن من احباط محاولات اميركا النيل من سيادتها فحسب بل فرضت شروطها لمعاهدة السلام المزمعة بين البلدين. ويبلغ سكان العالم العربي خمسة أضعاف ما في كوريا الشمالية، فيما يزيد مجمل الدخل الوطني 13 ضعفاً على دخلها، والمفترض ان ذلك يمكنه من حماية ابنائه في العراق ولبنان وسورية والسودان وليبيا من الممارسات الوحشية التي تقوم بها الولاياتالمتحدة واسرائيل ضدهم. لكن العالم العربي فشل في معارضة مهزلة اوسلو بشكل فاعل، المهزلة التي لم تقدم للفلسطينيين السلام أو شيئاً يذكر من الأرض التي سرقتها اسرائيل. ان المفترض للعالم العربي، الذي يبلغ مجمل ناتجه الوطني سبعة أضعاف ناتج اسرائيل ان يتمكن من حماية الحقوق الاساسية لابنائه التي يكفلها القانون الدولي. ويتعرض اكثر من ستة ملايين فلسطيني منذ 1948 الى القمع والتشريد والتهجير من قبل اسرائيل التي تساندها الولاياتالمتحدة. وينقسمون ما بين لاجىء يعيش في اراضي الغير من دون حقوق في الاقامة والعمل والتنقل، أو تحت الاحتلال الاسرائيلي في "بانتوستانات" الحكم الذاتي، أو كأقلية داخل اسرائيل بعدما كانوا قبل نصف قرن يشكلون الغالبية. اضافة الى ذلك يرزح أكثر من 22 مليون عراقي تحت سياسة قاسية تحرمهم الغذاء والدواء والعمل والسفر والتنمية والسيادة والتجارة والدفاع عن النفس، وكل الحقوق الأساسية الأخرى. وهناك اضافة الى العراقيين نحو عشرين مليون سوداني واربعة ملايين لببي يخضعون لما يعادل "الاقامة الجبرية"، ذلك الشكل من العقوبة الجماعية المفروضة باسم العولمة والأممية. الوضع ليس من السوء الى الحد الذي يمنع العرب من تغييره لاستعادة حقوقهم. هناك خيارات عملية كريمة لكن يجب احتسابها بعناية في قائمة المنافع والأكلاف. ذلك ان الوضع الحالي بالنسبة الى أميركا يأتي بالكثير من المنافع وبأقل ما يمكن من الكلفة، وهذا ما يجب تغييره والا استمر الغير من الاستفادة من دون مقابل. ان السياسة الأميركية لن تتغير ما لم يجبر صانعو السياسة في واشنطن على دفع ثمن متزايد لادامتها. والمشكلة ان الحكومات والشعوب في العالم العربي لم تفشل فقط في رفع الثمن، بل لم تلمح الى امكان حدوث ذلك. في المراحل المبكرة من القرن المقبل ستتفوق حاجة آسيا الى نفط الخليج بكثير على حاجة الولاياتالمتحدة وحتى أوروبا. ولا يمكن ان نتوقع بقاء الترتيبات الحالية في الخليج والمنطقة عموماً حكراً على الأميركيين وحدهم. العولمة بالنسبة الى العالم العربي هي شكل من اشكال الخضوع يقارب ان يكون استعادة للمرحلة الكولونيالية. واذا كانت الصين تمكنت من مضاعفة معدل الدخل الفردي ثلاث مرات في 15 سنة فليس هناك سبب لبقاء العالم العربي عاجزاً عن تحرير اقتصاده من السيطرة الخارجية والديون الهائلة، لكي يعبىء ثرواته الانسانية والطبيعية للقيام بتغيير حقيقي.