عندما تسلمت مادلين أولبرايت وزارة الخارجية الأميركية ثارت تكهنات وتوقعات كثيرة وتبارى الكتاب والمحللون والسياسيون في كتابة مئات التحليلات والمقالات التي تتحدث عن هذه "المرأة الاسطورية" و"السيدة الفولاذية" التي تضع "المرأة الحديدية" مارغريت ثاتشر في جيبها الصغير، وعن القدرات الهائلة التي تتمتع بها "أخت الرجال" والمواقف الخطيرة التي ستتخذها. وعندما اكتشفت اولبرايت أصلها اليهودي بالصدفة وبراءة الأطفال في عينيها، تبارى الكتاب العرب والأجانب ايضاً في التحليل والتكهن. لكنهم انقسموا الى تيارين: الأول يتوقع بأن تكون منحازة لاسرائيل ومنفذة لسياساتها، خصوصاً ان تعيينها تلازم مع وصول عدد من اليهود الى ادارات مهمة مثل الدفاع والمالية والتجارة والبيت الأبيض ايضاً. أما التيار الثاني فقد لجأ الى التعمق في الحدث وفلسفته ليصل الى نتيجة ان اولبرايت ستكون أكثر حياداً من غيرها وأشد حزماً مع اسرائيل من واقع خلفيتها اليهودية التي تتيح لها حرية الحركة والمناورة وممارسة الضغوط من دون ان يتجرأ أحد من الاسرائيليين على اتهامها بمعاداة السامية. وحاول أصحاب هذا التيار تشبيه اولبرايت بالسيئ الذكر هنري كيسنجر اليهودي الآخر الذي وصل الى وزارة الخارجية ومنصب مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي وذاع صيته في أنحاء العالم بأسره. وبنى كل هؤلاء تحليلاتهم وتوقعاتهم على قوة شخصية أولبرايت ولسانها اللاذع والسليط ونجاحها في مهمتها كرئيسة لوفد الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة، ونسج عنها الاعلام الأميركي القصص الخيالية لتلميع صورتها ونفخها يومياً حتى تحولت الى اسطورة… وفي بعض الأحيان الى "بعبع" يخاف منه السياسيون والديبلوماسيون وترتجف أوصال دول "العالم الثالث" عندما يرد اسمها او يظهر رسمها! ولكن خاب ظن كل هؤلاء، إذ ان الهالة بدأت تزول، والصورة تعرضت للاهتزاز وانقلب السحر على الساحر. فقد مرت قبل أيام ذكرى مرور سنة على تسلم أولبرايت مقاليد السياسة الخارجية الأميركية وسط تساؤلات عن الأداء المتواضع والانجازات المعدومة وسلسلة النكسات التي تعرضت لها المصالح الأميركية في العالم وتراجع الدور الأميركي الفاعل على رغم استمرار الهيمنة على مقاليد النظام العالمي الجديد بفعل الواقع، لا بفضل أولبرايت. وبرزت مواقف تململ في أوروبا وروسيا والصين والعالم نتيجة للسلبية المطلقة التي تميزت بها السياسة الأميركية وفقدان عوامل الفعل والجهد المتواصل والحسم في أمور كثيرة ولا سيما بالنسبة الى أزمة الشرق الأوسط والموقف من العراق. وقد يقول قائل ان الوقت لم يفت بعد لاثبات قدرات اولبرايت، لأن سنة ليست كافية للحكم، والمهم هو النتائج وليس المقدمات. ولكن الرد على هذا الطرح سهل عندما تتحدث عن وزراء سبقوها ولعبوا أدواراً تاريخية في زمن قياسي مثل كيسنجر، الذي قام بمبادرات غيرت وجه التاريخ في الشرق الأوسط والعالم وأطلق سياسة الوفاق مع الصين والاتحاد السوفياتي، بغض النظر عن الاتفاق معه او الاختلاف. وكان جيمس بيكر رجل المبادرات والديبلوماسية الراقية لعب دوراً مميزاً في حرب تحرير الكويت وعقد مؤتمر مدريد ومواصلة مسيرة السلام… وجاء من بعده وارن كريستوفر الذي كان يؤمن بأن الحركة بركة وزار المنطقة أكثر من 15 مرة لتحريك مسيرة السلام عدا عن دوره العالمي، على نقيض أولبرايت التي تحصنت وراء مكتبها وحاولت تجاهل الشرق الأوسط والالتفات لقضايا هامشية الى ان اضطرت لزيارة المنطقة ووضع يدها على أصل العلة. ومع هذا فإن زوال الهالة تذكرنا بقصة القروي الذي كان يسمع عن باشا اسطوري وسطوته وقوته وخوف الناس منه وحديثهم عن شخصيته وهيبته الى ان قدِّر له ان رآه فوجده انساناً عادياً بل وهزيلاً مثله مثل بقية البشر فأطلق مقولته التي ذهبت مثلاً: "فكرنا الباشا باشا، طلع الباشا زلمي"!!
خلجة كتمت اسم الحبيب عن العباد ورددت الصبابة في فؤادي فوا شوقي الى نار خلي لعلي باسم من أهوى أنادي!