منذ أقدم العصور، ومن العصر الاغريقي تحديداً، كانت منطقة القوقاز موئلاً للكثير من الاساطير التي طبعت الشعر العالمي بطابعها، خاصة ما اتصل منها بقصة "بروميثيوس" وعذاباته، وجنْي "الجرَّة" الذهبية، وسواهما من الحكايا التي حملت احد اهم شعراء العالم في العصر الحديث، هولدرّلن، على القول: "وأنا ايضاً سوف أتّجه الى القوقاز". ولما كانت جيورجيا بلاد الكرج كما كان العرب يطلقون عليها، ويُسمّون عاصمتها تبيليسي: "تفليس" في قلب هذه المنطقة الشاسعة، فقد نما فيها الشعر في وقت مبكر، ومنذ القرن الخامس الميلادي، طلعت بواكيره غضَّة يانعة، لتقدِّم الدليل على أصالتها، وتُعرب عن ذاتها. لكن هذا الشعر بقي مغموراً، زمناً طويلاً، ولم يتميَّز في إهابه، الا في القرن التاسع عشر، عندما عقدت روسيا مع جيورجيا الخيوط الثقافية القديمة التي ترقى الى عهود الصليبيين، وكانت قد انفَصَمت عُراها إثر انهيار الامبراطورية البيزنطية. وتعتبر قصيدة "الفارس المرتدي جلد نمر" للشاعر الجيورجي روستا فيلي، أهمّ نموذج للشعر الكلاسيكي الجيورجي. وهي حتى اليوم تحتفظ بالكثير من معطياتها الابداعية. وشكّل نقلها الى اللغة الروسية، في الربع الاول من هذا القرن، على يد الشاعر الروسي، قسطنطين بالمونت، حدثاً أدبياً بالغ الاهمية، ونقلت بعد ذلك الى لغات أجنبية عدة. سمّيت قصيدة "الفارس..." هذه بحق مجد الشعر الجيورجي. فهي قصيدة ملحمية طويلة، مليئة بمغامرات الحب والفروسية. كتبها الشاعر روستا فيلي في القرن الثاني عشر. و هي تتحدث عن الشرف، والتضحية، والعشق، والفروسية، تلك الخلال التي غصّت بها الروايات والاقاصيص التي كانت منتشرة في الشرق والغرب، خاصة ما اعترى منها الشعر العربي، والفارسي، والاوروبي، حيث كان القارئ يعبر العالم بصحبة الفارس التائه، يُطلق لاحلامه العنان، وراء الحبيبة، والثروة، والمجد والفخار. وإذا كانت قصيدة "الفارس..." هذه، تتضمن وقائع تُعنى بالقضايا الكبرى المتصلة بالانسان ووجوده في العالم، فانها لا تُعمّق مفاهيمها من وجهة فلسفية، بل تبقى مزدانة بازهار بلاغة الشعر القروسطية والشرقية، وتظلُّ محتفظة بحدودها المرهفة، مما يتصل بالشعر الرومانسي النابع من الطبيعة، والرائع في الأمكنة الكئىبة، وما يُضارعها في عالم الانسان. التقنية الشعرية آنذاك ارتبطت بالقصيدة التي صاغها الشاعر في رباعيات، او ما كان يُسمّى في الشعر الجيورجي ب"الشاعري"، ولعلها كلمة مشتقة من العربية بمعنى الشعر، أو لون من بحوره، وقد اصبح في اللغة الجيورجية بيتاً يبلغ خمسة عشر مقطعاً صوتياً، استخدمها الشاعر روستافيلي، لكي يبتعد عن الرتابة التي لا بد من ظهورها في كل لغة، خاصةً في ما يتعلق بالشعر الملحمي. بذل الشاعر عناية ملحوظة في استخدام تنوّعات هذا الوزن، تُسمّى مرتفعة ومنخفضة، شبيهة الى حد كبير بالتنوّعات الاسكندرية البحر الاسكندري المكوَّن من اثني عشر مقطعاً شعرياً التي يُصادفها القارئ عند الشاعر الفرنسي راسين. والمقطع التالي دليل على ذلك، وان كان نقله من لغته الاصلية الى الفرنسية، فالعربية، يُبعده عن النبرات الايقاعية، الا ما يظهر منها على وجه التقريب، في تنوّعاته المرتفعة والمنخفضة: "- لكي يبرد الاثنان، كان كل منهما يضع رجلاً في ظلّ الاشجار - ويأتي المحاربون يجتمعون قرب الامير، وهم الاشدّاء والشجعان - ويتخلّون عن متاعبهم - يراقبون حافة الغابة، والمياه الجارية بقربها - ويبصرون عندئذ فارساً يجلس لِصْقَ الماء. - مُمسكاً بزمام حصانه الاسود، فيبدو كأنه أسداً وبطل، - كان سرج الحصان والزمام مرصّعين بالاحجار الكريمة. - وكانت الدموع تتساقط من قلب الفارس. - لتتجمّد على خدّيه الورديّتين". على هذا النحو، راح الشعر الجيورجي، منذ تألّقه في قصيدة "الفارس..."، ينتقل من طور الى طور، من دون ان يتخلّى عن جذوره الذاتية والعامة. متقلباً بين الوحشة والليل، داعياً الى النور والحرية. فيما الألم الذي يُعرب عنه لم يكن عبثاً. وكان التعطش الى المطلق غير منفصل عن تعطش الانسان الى الخلال التي فيه، وتتصل بالارض والحب والعمل، وهي التي تبرز للمدقّق في الشعر الجيورجي، من قصيدة روستافيلي الى يومنا هذا" وهي ماثلة في هذه النماذج التي اخترناها مما أتيح لنا الاطلاع عليه: 1- كارلو كاليوزه 1907: الابراج الجيورجية في الحقول والسهول، في كل مكان، في الوهاد والجبال حيث الكدح المتواصل يشكل الريف مُضفياً على جيورجيا وجهاً جديداً يرافقه البرج الشاهق قلعة قديمة. ليس ذلك سوى سوء ذكرى، وفكرة للجدران المهجورة، للاحجار، للعظايا... كانت النار تضيء البرج سابقاً وكان الحرس المترصّد في البعيد يبلغ الجبال بانقضاضه على القطعان الهائجة. كانت العصور على تراب الوطن تتقلّب. وتتدفّق الفرسان ممتشقة السيوف في السهول والحقول.. في الجبال والوهاد حيث الكدح المتواصل يبني الريف صانعاً لجيورجيا وجهاً جديداً ثمة أبراج جديدة من حديد هي رفيقة الابراج القدامى تنتصب عالية في السماء، كحرّاس متأهّبةْ. 2- ايراكلي أباشيدزه 1909: اللحظة والأبد في غضون الوجود العالم لحظة تجري مثل هبوب النسيم العليل. وأنت لم يُتَح لك الوقت لتحسب على مهل ولكن، ماذا تبقّى لك من مئة حب سالفة؟ لكن الحياة تشبه الابدية احياناً في السبيل المُتّبع دون ان تبتغي اخره على رغم الصعاب... كانت عيناك في ارتياب الاختيار بين الرعب والحسن. الحياة ايضاً هي اليوم المدبر، والزمن الابدي! ولكن ايهما أفضل... أيهما اللحظة أم الابدية؟. 3- غريكول أباشيدزه 1913: أغنية الى الوطن أراك في مجدٍ لا يرتوي ظمأُه وأعلم ان ليس لأيامك حدود يا غاية احلامي وكرم حياتي الذهبي الثمار! أُحب من جبالك المنحدر والروعة ومن انهارك المنسوب الكتوم الرخيم كالشعر انت جذري وتاجي زاد روحي وإلهامي ونشيدي! انت شمسٌ تشرق لي وملْح الروح، ونور القلب. ثمة في العالم جهات جميلة لكنها ليست أجمل منك! اني أقسّم قلبي للجميع للوديان وللقمم والسفوح وأحب الارض بأسرها لكن قلبي بأكمله لموطني الربيعي الغالي الوحيد! 4- يوسف نونشفيلي 1920: هل يوجد بلد كهذا السرير الذي يهتزُّ في ظلِّ دالية أنين المزمار الريفي العذب قصص المآثر والخلود التي يرددها شعبٌ بأشعار "روستافيلي" بلدٌ عَسَلُهُ دمُ أسلافنا الطاهر تكلّل دوماً بأشعة الشمس وشلالاتٌ صاخبة تقفز فوق اللُّجَج حبالُ ثلج... عنادل في الوديان هنا ثمة قطيع أيائل وهناك نسر يحلِّق. صحيح يوجد بلد مثل هذا واسمه جيورجيا؟ بمقتضى قانون الرجال الاقوياء، والنساء الجميلات. الكرمُ والمرجُ وحقولُ القمح تنيرُ الحياة، تضيءُ الحُبّ يقول المثل: سعيدٌ من يوشك ان يقتسم حبة بندق مع اخوانه ويفتح قلبه لكل صديق ويترك بابه مشرّعاً، ومنزله... جيورجيا بوهادها وجبالها جبالٌ تطاول قبّة الجوزاء قمم شاهقة تلامسُ الشمس بلدٌ يتأهّب لاستقبال الربيع وبيديه كأس خمر وباقات زهور والمجد الوحيد الذي يحلم به هو مجد شعبه، شعبه الخالد وقلبه مفعم بالحبور لرؤية علم المستقبل يخفق. 5- ميدي كاخيدزه 1928: ملك الغابة ثمة حطاّبٌ ذات مساء جندلَ في الصفحِ سنديانة عملاقاً مهيبة الطلعة. ومن دون ان يؤجِّل تسلق المنحدر ودحرج الشجرة. وجاء الربيع عندما قدّمت القمّة والوادي عجائبهما الحمراء المحَّناة بالمغرة. وحين مرَّ الحطابون أحسّوا على حين غرَّة غياباً يُهيمن أكثر فأكثر. غياب الشجرة لم يترك دِفءً ولا قرّاً.. أما أنا فوجدت الجوّ حزيناً تعيساً أن يزحفَ ملك الغابة صريعاً وقد استحال دوائر خشبية بلهاء. 6- شوتا نيشنيانيدزه 1926: النحلة أيتها المنشغلة الناشطة بلا كللٍ أيتها العاملة في الطبيعة... رمز الذكاء تُطوّفين وتعودين الى خليّتك فكرةً إلهية وتجهدين طوال حياتك لكي تعطيها معنى. فعندما تصبح كلمتي صنْوَ عملكِ لا تكون رسالتي هنا قد ذهبتْ عبثاً: فهل ثمة خطٌّ أكبر وثراءٌ أغزر من ان يقدّم الكائن مُبتهجاً قرصَ عسلٍ الى البشرية؟ 7- دجنسوغ تشركفياني 1931: لا تكن حزيناً لا تكن حزيناً، سأُزيح الستائر فتضيء الشمس مرقدنا لا تحزن، سأزيح الستائر ولن أكون اكثر قساوة. قُم من ربقة السكر، فالشمس دانية. كلماتك تسكب لي الماءَ القراح وكمثل اليوم، في الليلة الاولى سيمتلىء بيتنا بالعصافير. سوف أتبدّل... صدّقني وستهرع نحوي كالسابق وسوف تقول، "أجيء بلا حقد في القلب". لا تكن حزيناً، سأزيح الستائر فتضيء الشمس مرقدنا لا تحزن، سأزيح الستائر ولن أكون ابداً، أكثر قساوة. 8- تارييل تشنتوريا 1932: الشتاء العاصفة في الخارج تُناوش شجر الدلب تطبع عبر النوافذ أختامها. كانت أمي اول النائمين لتدفّي الفراش حيث ينتظرني النعاس. وهي أول من يطرد الصمت في الصباح فالصبي سينهض، ويلزمه ما يأكل. لقد قضت وهي في غمرة العمل حاملةً قلق مصيري الذي يُغرقها. الثلج الآن يتساقط على قلبها الطاهر صبيّة ذهبت... فهل ترى كانت راغبةً في تدفئة فراشي؟ 9- ليا ستوروا 1939: نساء في الحقل طوال النهار كنَّ يُجففنَ القمح ولم يكن سوى فكرة الخبز ما يُعقدُ له حساب. كانت الاكتاف تخفى على خوار الابقار وتحت ثقل الجوِّ حين يرين. وكنَّ في الليل الدامس يذرفن الدموع على من غاب من الازواج والاخوان والابناء... عيونهنّ فقدنَ بريق اللحظ فكان الحَبُّ يتساقط من الأكف ليصبح طعماً للعصافير. ويرتفع في الفضاء ثُغاءُ الاطفال وخوار الابقار، وصمت الدموع الجواري. فيما النساء يستأنفن الكدح اليومي وألم الامس يستأنف شجونه يُجلُّله النَصَبُ اليومي ويهيمن دفءٌ وتفقد الاشياء ظلّها. وفي ظلال القنوط الكئىب تعود النساء الى تجفيف الحبوب.