جلبت جهود ابن رشد في حقل التصنيف عداوات كثيرة فهي أغضبت العلماء وفقهاء المذاهب المختلفة ولم تلق القبول في تيار أنصار الفلسفة. ومأساته تكمن في هذه المفارقات قبل أن يغضب المنصور عليه. يضاف إليها تأزم الوضع السياسي في الأندلس والمخاطر الآتية من محيطها الذي أثر سلباً في الحركة الفكرية آنذاك نهاية القرن السادس الهجري وقبل اضمحلال دولة الموحدين في سنة 667 هجرية. طغت خلافات ابن رشد الفلسفية على أعماله الأخرى. وعلى رغم أنه لم يقدم الشيء الجديد والنوعي في حقل الفلسفة، نجد الكثير من الكتابات عنها بينما لا نجد الكلام الكثير عن مؤلفاته المختلفة ولا يذكر إلا عرضاً كتابه الأهم في القضاء وهو أساس تفكيره وشغله اليومي ومعاشه. فابن رشد أصلاً هو قاضي القضاة في قرطبة، وقبلها اشبيلية، قبل ان يكلفه خليفة الموحدين الاشتغال على كتب فلاسفة اليونان. وهو أساساً ابن أسرة امتهنت وظيفة القضاء. فوالده أبو القاسم، كما ذكرنا، تولى الوظيفة في قرطبة توفي سنة 564 هجرية، وجده أبو الوليد كان قاضي القضاة في دولة المرابطين وعصر ملوك الطوائف توفي سنة520 هجرية. مارس ابن رشد القضاء يومياً لمدة 27 سنة، واجتهد واستخرج الأحكام الشرعية في المعاملات واستنبط من النصوص الشرعية مقاييسه القضائية، وكان صاحب باع طويل في الفقه وكتب فيه أهم مؤلفاته معتمداً المنهج المقارن. مع ذلك لا يعطى عمله في حقله الوظيفي الأهمية المطلوبة ولا يشار إلا قليلاً إلى مفاهيمه النظرية في الأحكام أو اسلوبه التطبيقي في عرض المسائل واستخراج أحكامها من طريق المقارنة والقياس. وعلى رغم أهمية تنظيره للأحكام الشرعية بقيت أعماله مهملة أو مغيّبة عن المناظرات والمجادلات التي غاصت كثيراً في انشغالاته الأخرى. وحتى ندرك أهمية ابن رشد في حقل القضاء، لا بد من تحديد وظيفة القاضي في الإسلام وتأثيرها المركزي في سياسات الدولة القانونية. يقول القاضي عبدالنبي بن عبدالرسول الأحمد نكري إن القضاء في الإسلام "من أقوى الفرائض بعد الايمان ومن أشرف العبادات". وأهلية تولي القضاء تكون "لمن هو عالم بالكتاب والسنّة ليحكم بالحق". أما الاجتهاد في القضاء فحجة "إذا لم يخالف الكتاب والسنّة"، فالعلم بهما الكتاب والسنّة شرط لتولي الوظيفة. واختلف العلماء على أفضلية القاضي، فقيل الأفضل هو من جمع بين العلم والعدالة. وقيل إن العدالة هي شرط أولوية، وقيل شرط صحة. لذلك أجاز البعض للفاسق أن يتولى القضاء إذا كان عارفاً بالكتاب والسنّة شرط العلم وعادلاً في أحكامه شرط الانصاف. بينما قال البعض الآخر "إن الجاهل الورع أولى من العالم الفاسق"، فقدم الورع على المعرفة. واتفق العلماء على ضرورة توافر الشروط الثلاثة في القاضي: العلم والعدل والورع. راجع حرف القاف، موسوعة مصطلحات جامع العلوم المعروف بدستور العلماء. توافرت في شخصية ابن رشد وتربيته الصفات الثلاث وعرف عنه سلوكه الحسن وورعه وعدالته، إضافة إلى علومه، فهو إمام عصره في الطب والفقه وعلوم الدين، وكان يخلص للحق ويكره التعصب لمذهبه. إلى سيرته الحميدة في القضاء وكرهه لجمع المال وبذل ماله على مصالح أهل بلدته قرطبة ومنافع الأندلس وتعففه عن حضور مجالس الأنس والطرب أو الخوض في أحاديث المجون، عرف عنه، كما يذكر محمد عبدالرحمن مرحبا أنه كان في قضائه "يتحرج كثيراً من الحكم بالموت. فإذا لم يجد منه مناصاً أحاله على مساعديه ليراجعوه ويمحصوه وليعيدوا النظر فيه قبل إبرامه". من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، صفحة 730. كان ابن رشد صاحب نظرية في القضاء وله في حقل الفقه أحد أهم كتبه ووضعه أساساً كمذكرات قانونية لنفسه يعود إليه وقت الحاجة، ولم يفكر بنشره. فهو مجرد مرجع خاص، إذ أن "غرضي في هذا الكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ان أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الاحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الاصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشارع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقاً قريباً، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد" الجزء الأول، مقدمة الكتاب، صفحة 15. لا يعتبر ابن رشد مؤسساً لمنهج "الفقه المقارن"، إذ سبقه العشرات إلى هذا الحقل، وكتب العديد من العلماء في تأويل مختلف الحديث واختلاف الأئمة في مذاهبهم وغيرها من المقالات الخلافية، إلا أن عمل قاضي قرطبة جاء شاملاً لمختلف آراء المذاهب الأربعة الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، إ ضافة إلى مذهب الظاهرية الذي كان له بعض الأنصار في الأندلس. وعزز ابن رشد دراسته الشاملة بالعديد من الاستشهادات وحشد عشرات الاسماء للدلالة على هذا الرأي أو نقض ذاك الأمر الذي يدل على سعة معرفته في حقل اختصاصه واحترامه لمسؤوليات وظيفته. فالكتاب يحدد أسباب الخلاف وعلله ويذكر أقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم مع بيان مستند الكتاب والسنّة ثم الاجماع والقياس، ثم يرجح الاقيسة ويبيّن الصحيح منها أو الأصح. فابن رشد في القضاء صاحب منهجية بحثية، استند إلى معرفة واسعة وخبرة طويلة ودراسة متأنية لمختلف أئمة المذاهب وأصحابهم واتباعهم فجاء كتابه "بداية المجتهد" من أبرز المراجع في حقل الفقه عموماً، وفي "الفقه المقارن" خصوصاً، حين استوعب مختلف الاجتهادات وأنواع الأدلة وأسباب خلاف علماء الأمة، ودرسها وقام بترجيح هذا الحكم على ذاك في اسلوب شديد التماسك وتنظيم عقلي يعرف كيف يرتب المسائل وينسقها، فأبان الأحكام الشرعية في مجالات العبادة والمعاملة ومختلف شؤون الحياة وحاجات الناس ومتطلباتهم. ففلسفة ابن رشد الحقيقية هي في حقل ابداعه في فلسفة الفقه أكثر من المشهور عنه في فقه الفلسفة. من الصعب أن نفصّل وجهة نظر ابن رشد الفقهية في القضاء ويمكن اختصارها إلى فقرات قليلة حاول قاضي قرطبة توضيحها في مقدمة كتابه. ويصنف المسائل إلى ثلاثة مستويات: الأول "الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية". الثاني "أصناف الأحكام الشرعية". الثالث "أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف". فيرى ان الطرق التي تم منها تلقي الأحكام الشرعية عن الرسول صلى الله عليه وسلم هي بالجنس ثلاثة "اما لفظ، واما فعل، واما إقرار"، وانقسم جمهور العلماء على ما سكت عنه الشارع من الاحكام إلى فريقين كبيرين: الأول المذاهب الأربعة قال إن القياس هو طريق الوقوف على ما سكت عنه الشارع. والثاني المذهب الظاهري قال إن القياس في الشرع باطل، وما "سكت عنه الشارع فلا حكم له، ودليل العقل يشهد بثبوته". وينطلق أهل الظاهر الظاهرية من قاعدة "ان الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى" ص 15. وبسبب اختلاف "أهل الظاهر" عن المذاهب السنية الأربعة في مسألة القياس، اضطر ابن رشد إلى تبيان أدلتهم في مختلف الأحكام نظراً الى انتشار المذهب، الذي اضمحل لاحقاً، في عهده في الأندلس. إلى جانب الظاهرية التي تختلف في منهجها لجأ قاضي قرطبة إلى منهج المقارنة في كل مسألة فيذكر اتفاق العلماء ثم يذكر اختلافهم. وفي حال تقاطع رأي الأئمة في مسألة واختلف في مسألة أخرى، كان يشير إليها عن طريق ايراد الأدلة في سياق فرق وجماعات. فيذكر اسماء العلماء في هذا الجانب واسماء العلماء في الجانب الآخر ثم يعود إلى مسألة جديدة فتختلط الاسماء، إذ نجد بعض العلماء في موقع واحد ونجد بعضهم الآخر في الرأي المضاد. وكان يورد في كل مسألة سبب اختلافهم. إذ لكل اختلاف سببه وليس بالضرورة أن يكون السبب نفسه في كل المسائل. فأحياناً يكون السبب في "معارضة العموم للخصوص" الجزء الأول، ص 447، أو بسبب "اختلاف القياس والاثر" الجزء الأول، ص 456، أو بسبب "اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر" الجزء الأول، ص 458. وأحياناً يكون الاختلاف ناتجاً عن تعارض الآيات أو تعارض الآثار أو معارضة المفهوم لظاهر الأثر. استخدم ابن رشد مختلف الأحاديث واستند إلى أقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم وأصحاب المذاهب ومن تبعهم لتقوية دليل أو إضعافه أو إضعاف دليل وتقوية آخر ليجتهد برأيه وقياسه. وقرأ الاختلاف لغوياً وتعارض النحاة بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، ولجأ إلى صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبو داود وتفاسير الطحاوي وابن حزم وعشرات غيرهم ليستخرج الحكم الشرعي على هذه المسألة أو تلك. حدد قاضي قرطبة منطلقات واضحة لنظرية الاجتهاد ومنهج القياس عنده. فاعتبر ان أصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة "ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه" الجزء الأول، ص 15. وتتوزع المتفق عليها إلى أنواع "لفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم". وفي اللفظ الأخير "يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوي" الجزء الأول، ص 16. ويأتي ابن رشد على خلاف العلماء في كتب أصول الفقه في صيغ النهي و"هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما" الجزء الأول، ص 16. كذلك يوضح الخلاف على صيغة الأمر واختلافه بين صيغة الخبر الذي يراد به الأمر، ام المستدعى تركه، أو يراد به النهي. بعدها يأتي في الخلاف على الأعيان التي يتعلق بها الحكم، فهي إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد وهو يعرف في صناعة اصول الفقه بالنص "ولا خلاف في وجوب العمل به"، وإما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء "وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل" ولا خلاف في أنه لا يوجب حكماً، إذ تكون دلالته على بعض تلك المعاني "أكثر من بعض" ويسمى الأكثر بالظاهر ويسمى الأقل بالمحتمل. ويبدأ الخلاف بين العلماء إذا "ورد مطلقاً حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل". ويشرح ابن رشد المعاني الثلاثة في اختلاف الأدلة من ناحيتي اللفظ أو الخطاب. ويرى ان القياس الشرعي هو "الحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما" الجزء الأول، ص 17. لذلك جاء القياس الشرعي على صنفين: قياس شبه وقياس علة، و"هذان الصنفان يتقاربان جداً لأنهما الحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيراً جداً". ويؤيد "الظاهرية" في نزاعها في قياس الشبه ويعارضها في قياس العلة. الجزء الأول، ص 17. ويأتي إلى الفعل، وهو أكثر الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية، واختلاف العلماء على طرقه. فهناك من قال إن "الأفعال ليست تفيد حكماً، إذ ليست لها صيغ". وهناك من قال "إنها تتلقى منها الأحكام". واختلفت الفئة القابلة بالأفعال "في نوع الحكم" وانقسمت بدورها إلى فريقين: الأول يقول إنها "تدل على الوجوب". والثاني يقول إنها "تدل على الندب". ويفصّل قاضي قرطبة "أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط"، أما الإقرار "فإنه يدل على الجواز" الجزء الأول، ص 18. ثم يأتي على الاجماع وبرأيه فهو "مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة"، فينقل الحكم "من غلبة الظن إلى القطع". والسبب برأي قاضي قرطبة ان الاجماع ليس "أصلاً مستقلاً بذاته من غير استناده إلى واحد من هذه الطرق". ويقسم المعاني المتداولة المتأدية من هذه "الطرق اللفظية" إلى ثلاثة أصناف: إما أمر بشيء، وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه. وتتوزع الاحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق اللفظية إلى خمسة: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح. الجزء الأول، ص 18. ثم يشرح أسباب الاختلاف بالجنس وهي ستة طرق: تردد الألفاظ، الاشتراك الذي في الألفاظ، اختلاف الاعراب، تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، اطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، التعارض في الشيئين أو في الأفعال والإقرارات أو في القياسات أو التعارض الذي يتركب من أصناف ثلاثة "معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ومعارضة الإقرار للقياس" الجزء الأول، ص 19. يحدد ابن رشد النظرية العامة في مقدمة كتابه ثم يشرح تفاصيلها، ويأتي على تعارض مناهج الأئمة والعلماء والفقهاء، ويحدد نقاط اختلافهم وأسباب تعارضهم، وينتهي إلى تحديد دائرة اجتهاده وقياسه ويقدم قياس المصلحة بصفته قاضي قرطبة على المذهب المالكي ويعرض مختلف الأبواب على 67 عنواناً تشمل مختلف المسائل وتتناول كل ما يتعلق بشؤون العبادة والحياة والمعاملات وينتهي أخيراً إلى عرض رأيه في القضاء في "كتاب الأقضية" ويوزعه على ستة فصول وهي: في معرفة من يجوز قضاؤه، في معرفة ما يقضي به، في معرفة ما يقضي فيه، في معرفة من يقضي عليه أو له، في كيفية القضاء، وفي وقت القضاء. ولا شك في أن قراءة الفصول المذكورة مهمة لأنها تكشف رأي أبن رشد بمهنته وتساعد في رسم شخصيته ودوره في ممارسة هذه الوظيفة. فالقراءة تكشف "ظل" قاضي قرطبة في وقت يتم التركيز على أعماله في حقل الفلسفة. يعرض صاحب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" خلافات الفقهاء والأئمة في من يجوز قضاؤه والصفات المشترطة فيه. فقيل في مسألة الفسق انه "يوجب العزل". واختلفوا في شرط أن يكون القاضي "من أهل الاجتهاد" فالإمام الشافعي قال: "يجب أن يكون من أهل الاجتهاد" ومثله حكى بعض أصحاب مالك. واختلفوا في مسألة حكم العامي قال أبو حنيفة: "يجوز" ووافق جد ابن رشد القاضي على هذا الرأي. واختلفوا في اشتراط الذكورة، إذ قال أبو حنيفة انه يجوز "أن تكون المرأة قاضياً في الأموال" وقال الطبري يجوز ان تكون "حاكماً على الاطلاق في كل شيء". وقال جمهور العلماء إنه لا يجوز. ويربط ابن رشد أسباب اختلاف العلماء في مسألة تحمل المرأة مسؤولية القضاء بتعارض اقيستهم. فمن أجاز حكمها في الأموال استنبطه من جواز شهادتها في الاموال، ومن رأى حكمها نافذاً في كل شيء انطلق من "ان الأصل هو أن كل ما يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الاجماع من الإمامة الكبرى". ويشرح اختلاف الفقهاء في "أن يكون في المصر قاضيان" وفي اختلافهم في الامي "هل يجوز ان يكون قاضياً" الجزء الثاني، ص 565. وانتقل إلى في ما يحكم. واتفق العلماء والفقهاء على "أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقاً لله أو حقاً للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الانكحة ويقدم الأوصياء" الجزء الثاني، ص 566. ويشرح في ما يكون به القضاء ويكون بأربع "بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه" الجزء الثاني، ص 567. ويوضح خلافات الفقهاء وما يجوز أو ما لا يجوز في كل تلك المسائل مثل النظر في العدد والجنس من ناحية الشهود فاتفقوا مثلاً "على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور" واتفقوا "على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين" وشذ عن هذا الاتفاق الحسن البصري. وأجمع الجمهور مثلاً "على أنه لا يرث القاتل المقتول" الجزء الثاني، ص 570. واختلف العلماء في قضاء القاضي بعلمه فأجمع العلماء على أن "القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح". أما إذا "شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره". وشذ الإمام مالك إذ رأى "ان يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره" الجزء الثاني، ص 576. أما الإقرار إذا كان بيناً "فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز. وإذا كان الإقرار محتملاً رفع الخلاف" الجزء الثاني، ص 578. واتفق الفقهاء على أن القاضي "يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه" واتفقوا على "أنه يقضي على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب" الجزء الثاني، ص 579. وحول كيف يقضي القاضي فإنهم "أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة ان انكر المدعى عليه" الجزء الثاني، ص 580. والحكم عند مالك "أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر" ص 581. أما متى يقضي القاضي فهي موزعة على ثلاث حالات منها "ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه" ومنها "ما يرجع إلى وقت انفاذ الحكم وفصله" ومنها "ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان غبناً". وعلى القاضي أن يتجنب تلاوة الحكم وهو في حال غضب أو عطش أو جوع أو خوف أو "غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم" ص 582. وينتهي ابن رشد إلى شرح مفهومه للقضاء، فيذكر ان الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: الأول "يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم"، والثاني "لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه" ص 583. وأهم من كل ذلك يرى قاضي قرطبة "ان السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية" وفي هذا الجنس "تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية، ومنها ما يرجع إلى الفضيلة". والسنن أجناس منها ما يتعلق في المطعم والمشرب والزواج و"منها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور"، وهذه تقتضي العدل في الأموال، والعدل في الأبدان، ويدخل أيضاً "القصاص والحروب والعقوبات". وإنما هذه كلها "يطلب بها العدل" سواء السنن الواردة "في الأعراض" أو الواردة "في جميع الأموال وتقويمها" ويقصد بها طلب الفضيلة السخاء وتجنب الرذيلة البخل. كذلك هو حال السنن الواردة في الاجتماع "الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضاً ان تكون سنن الأئمة والقوام بالدين" الجزء الثاني، ص 584. ساهم ابن رشد في حقول كثيرة وأهم حدث في حياته وأعماله هو دوره في القضاء، إذ مارس حكم القضاء عملياً قاضي قرطبة ونظرياً صاحب كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ولعب دوره في انضاج الفقه المالكي وتطويره من خلال المقارنة. وهو منهج انتج في النهاية كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي، الذي عاصره المؤرخ ابن خلدون، ويعتبر كتابه من ألمع كتب الفقه على المذهب المالكي. يتركز الجانب الابداعي في شخصية ابن رشد في حقل الفقه وليس في مصنفاته الفلسفية. فالجانب الفقهي أقوى عنده من الجانب الفلسفي. وللأسف نجد هذا الجانب مقموعاً ومغيّباً في شخصيته وأعماله. ويتم التركيز على نقاط ضعفه في الفلسفة لا نقاط قوته في الفقه وحقل القضاء. فالقضاء في الإسلام هو مركز الدولة وعصبها، والحكم به هو حكم الشرع الكتاب والسنّة ولا قيام للدولة من دونه، وأهمية ابن رشد هو في هذا المكان حين مارس القضاء على مستويين، وأكد على أن القاضي هو نائب امام المذهب مؤسس المذهب في مصره، وقضائه يسري على الكل، وأساس القضاء هو العدل ورفع الظلم ومحاربة الجور والفساد والدعوة إلى "الفضائل النفسانية" في سنن الحياة والاجتماع. ومن شروط عدل القاضي أن لا ينطق حكمه في حالات الغضب أو الجوع أو العطش أو الفزع والخوف. فإلى الراحة النفسية والاستقرار المعيشي هناك الحرية وهي أساس العدل، والعدل أساس الحكم. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا كان قاضي قرطبة يخاطب المنصور خليفة دولة الموحدين ب "يا أخي". مصادر البحث } ابن خلدون، تاريخ العبر، مجلد 6. اصدار دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992. } ابن الاثير، الكامل في التاريخ، مجلد 11 و12. دار صادر، بيروت، 1979. } ابن كثير، البداية والنهاية، مجلد 12 و13. تحقيق أحمد عبدالوهاب فتيح. اصدار دار الحديث القاهرة ودار زمزم الرياض. } ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الاسلامية. منشورات الدار المتحدة للنشر، بيروت 1974. صفحات 371 - 392. } محمد عبدالرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسلامية. منشورات عويدات وبحر المتوسط، بيروت وباريس، الطبعة الثالثة 1983. صفحات 720 - 763. } جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية. الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة الثالثة 1995. صفحات 435 - 535. } ابن رشد، فصل المقال. دار المشرق، بيروت، الطبعة السادسة 1991. تقديم وتعليق البير نصري نادر، مقدمة جورج فضلو الحوراني. } ابن رشد، تهافت التهافت. دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة 1968. تحقيق وتقديم سليمان دنيا. } موسوعة مصطلحات جامع العلوم دستور العلماء، اصدار مكتبة لبنان، تقديم واشراف ومراجعة رفيق العجم. والموسوعة من تأليف القاضي عبدالنبي بن عبدالرسول الاحمد نكري وهو عالم مسلم من الهند، ويرجح مولده بين 1116 و1118 هجرية ويعود نسب العائلة الى عثمان بن عفان رضي الله عنه وترجح وفاته بعد العام 1180 هجرية. } ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد. راجع اصوله وعلق عليه عبدالحليم محمد عبدالحليم، اصدار دار الكتب الاسلامية دار التوفيق النموذجية، القاهرة، الطبعة الثانية 1983. } ناقش الباحث المصري محمد عمارة في دراسة طويلة تحت عنوان "اغتيال اسلامية فيلسوف" نشرتها "الحياة" على حلقات خمس 12 - 16 تموز/ يوليو 1995 تلك الآراء العلمانية والاستشراقية التي حاولت تأويل فكر ابن رشد ونزع فلسفته من اطارها الاسلامي ووضعها في سياق يوناني - لاتيني. وأكد عمارة في دراسته ان منطلقات ابن رشد كانت اسلامية وليس لها علاقة بتلك الاجتهادات النظرية التي سادت اوروبا باسم "الرشدية" وعمدت الى تغليف افكاره بنزعة وضعية مضادة للعقلانية الاسلامية.