في التاريخ الإغريقي القديم كان هناك نوع من المحاكم يبدأ فيه القاضي جلسة المحاكمة بالنظر الى المتهم بتعجل وتلهف قبل أن يلتفت إلى أحد مساعديه آمراً: جهزوا أولاً حبل المشنقة حتى نبدأ فوراً المحاكمة العادلة لهذا المذنب. وفي الأزمة العراقية المثارة أخيراً هناك شيء عبثي مثل هذا. هناك وقائع محجوبة، وبدلاً منها توجد اشاعات مرسلة. هناك نيات واضحة، ومع ذلك فالادعاء هو أن المحاكمة عادلة. هناك التزام بالتشاور مسبقاً، ومع ذلك فالحكم يصدر قبل المداولات وليس بعدها. و... هناك متهم محشور في القفص، ومع ذلك فمن سيجري تعليقهم بحبل المشنقة هم 18 مليون شخص آخرين يدعي كل من القاضي والمتهم الصوري الرحمة بهم والإنسانية معهم. ثم... هناك منصة يجلس إليها خمسة قضاة، مع ذلك فواحد منهم فقط هو الذي يتكلم وآخر يصفق. أما الثلاثة الباقون فمسحوب منهم مسبقاً حق الحديث أو الاعتراض أو حتى المداولة. وفي حوار إذاعي أخير سألني المذيع المحترم من هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي" مستغرباً: هل نسى الرأي العام عندكم ما فعله صدام حسين سنة 1990؟ قلت له: يا أخي الكريم... الرأي العام عندنا لم ينسَ، ولن ينسى، بل لن يغفر مطلقاً لصدام حسين ما فعله سنة 1990. لقد أخذ صدام حسين جيشه ذات ليل وقام بغزو واحتلال دولة صغيرة مجاورة هي الكويت. وفي ضمير أي عربي مؤمن بعروبته حقاً فإن هذا كان خطاً أحمر شديد القدسية في كل التاريخ العربي المعاصر. وبغزوه للكويت ضرب صدام حسين العروبة في الصميم قبل أن يضرب الكويت. من هنا كان تحرير الكويت في حينه هو القضية الأولى التي تسبق أي اعتبارات أو تضحيات. الآن في سنة 1998 نحن أمام موقف مختلف تماماً حتى وإن كان صدام حسين أحد عناصره المشتركة. في الأزمة الحالية هناك عراق. لكنه ليس بالمرة العراق الذي تعرفه خرائط الجغرافيا وكتب التاريخ. فالعراق الحالي هو مجرد كاريكاتير لعراق التاريخ والجغرافيا. عراق محشور تعسفياً بين خطي العرض 32 و36. عراق ثلثه الجنوبي منزوع الدفاعات ومحظور الأجواء. ثم ثلثه الشمالي منزوع الدفاعات ومحظور الأجواء وأيضاً مبتور الصلة، ويوجد في أرضه الآن عملياً كيان كردي منفصل لا ينقصه سوى الإعلان عن نفسه كدولة مستقلة. ومن غير هذا الإعلان توجد الآن في شمال العراق سلطة منفصلة وانتخابات وأحزاب ومراكز لجمع الضرائب والرسوم الجمركية ونقاط للحدود. وعراق سنة 1990 قيلت عنه في حينه خرافات وأساطير لم تسمح الظروف وقتها بمناقشتها جدياً. من تلك الخرافات، مثلاً، أنه يملك رابع أقوى الجيوش في العالم، وأنه على وشك حيازة الاسلحة النووية، ولديه مخزون هائل إضافي من الاسلحة الكيماوية والجرثومية. وخلال خمسة أسابيع من القصف المستمر من قوات اكبر تحالف دولي واقليمي منذ الحرب العالمية الثانية لم نرَ في العراق شيئاً من اسلحته السرية تلك. أما بعد الحرب فأعلنت الولاياتالمتحدة احباطها لكل اسلحة غير تقليدية لدى العراق، فضلاً عن القيود الصارمة على أي تسليح تقليدي. من وقتها والعراق الكاريكاتير هذا تحت الرقابة الصارمة على مدار الساعة، براً وبحراً وجواً. والميناء الصغير الوحيد الذي يملكه العراق - ميناء البصرة - تحت الرقابة الصارمة من الأممالمتحدة. أما الحدود البرية للعراق، فإنها محاصرة من كل الاتجاهات، واجواء العراق ذاتها محظور الطيران فيها، فما بالنا بالخروج منها أو الدخول اليها. أكثر من ذلك، فإن العراق الحالي ممنوع عليه تماماً استيراد أي شيء إلا من خلال الرقابة الصارمة للأمم المتحدة واعتمادها المسبق لكل سلعة واردة وهي بذاتها التي تقبض ثمن أي بترول عراقي توافق على تصديره. وهي وحدها التي تسدد اثمان أية بضائع توافق مسبقاً على تصديرها من العراق. الآن، يقال فجأة إن هذا العراق الكاريكاتير أصبح خطراً عظيماً مرة أخرى، خطراً على جيرانه بل على العالم أجمع. فأما الجيران فإنهم جميعاً - باستثناء الكويت - نفوا بالمرة هذه الخطورة المزعومة من عراق 1998. وأما العالم أجمع فإنه... انه... حسناً... العالم أجمع هو اميركا، واميركا هي العالم أجمع. الكلام واضح والمسدس جاهز... أي اعتراض؟ واميركا تقول إن عراق 1998 هو خطر عظيم بما يحوزه من غازات سامة واسلحة جرثومية. وخرج وليام كوهين وزير الدفاع الأميركي على شاشات التلفزيون ذات مساء ممسكاً في يده بكيس من السكر، وقال لمشاهديه بكل جدية: ان عبوة بهذا الحجم من الجراثيم التي يملكها العراق تكفي لإبادة كل سكان مدينة بحجم واشنطن. بعدها خرج نظيره البريطاني جورج روبرتسون أمام الكاميرات ممسكاً في يده بزجاجة مياه صغيرة ومحذراً مشاهديه بكل جدية قائلاً: ان عبوة مثل هذه الزجاجة من غاز "في -اكس" الذي نبحث عنه في العراق، تكفي لإبادة كل سكان مدينة لندن. واصبح هذا يعني شيئين، أولاً : على المواطن الاميركي والمواطن البريطاني أن يتحمس لضرب عراق 1998 بطريقة موجعة، ليس استعراضاً للعضلات - حشا لله - وإنما دفاعاً عن الحياة الآمنة في واشنطنولندن. وثانياً: ما دامت المهمة بهذا القدر من الجدية، والخطر بهذا القدر من التنكر، إذن فالمسألة لا تحتاج فقط الى تفتيش كل بيت في العراق، وإنما كل زجاجة داخل كل حجرة داخل كل بيت في العراق. ولأن الله أعطى المواطن الأميركي، وكذلك المواطن البريطاني، حصته الطبيعية من العقل والحكمة، فإن الحماس لم يتحقق بقدر السرعة المطلوبة، هنا بالضبط ارتفعت النغمة. فعلى جانبي المحيط الاطلسي خرجت أصوات مسؤولة، أميركية وبريطانية، تقرر علناً أن ما يملكه العراق - عراق 1998 - من اسلحة جرثومية يكفي لإبادة كل سكان العالم من اقصاه الى اقصاه. بعدها خرجت اصوات اكثر وقاراً ورصانة وأعلى مرتبة تعترض على هذا التقدير. ولذلك فمن قبيل الدقة - اقصى درجات الدقة - فإن ما يملكه العراق لا يكفي لإبادة سكان العالم... وإنما هو يكفي لإبادة كل سكان العالم... ثلاث مرات. عند هذا الحد خرج أحد كبار العلماء المتخصصين في بريطانيا يعلق ساخراً: إن هذا الادعاء الفج هو مثل الادعاء بأن شخصاً ما ينتج له جسمه كل 24 ساعة من الحيوانات المنوية ما يكفي لإنجاب مليون طفل... يومياً. مع ذلك فإن العلماء كان قد جرى اخراسهم منذ سنوات، وبدلاً منهم اصبحنا أمام نوع من السياسيين المتنكرين في ثياب العلماء والمتخصصين، ريتشارد باتلر مثلاً، الاسترالي والمدير التنفيذي للجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة، افتى بكل جرأة ان العراق - عراق 1998 -ربما لا يزال لديه صواريخ بدائية لكنها قادرة على حمل عبوات كيماوية وبيولوجية تكفي للقضاء على مدينة تل ابيب. لكن: لماذا تل ابيب تحديداً؟ ومتى بالضبط توصل المذكور الى هذا الاكتشاف؟ وأين الادلة في حوزته وهو - مع مساعديه - يصول ويجول تفتيشاً في انحاء العراق لسبع سنوات؟ ولماذا لم يقدم اتهامه وأدلته الى مجلس الأمن الذي هو السلطة التابع لها؟ وطالما ليس لديه أي دليل فكيف يتجاوز حدود مهمته ومسؤوليته على هذا النحو؟ ولحساب من يعمل بالضبط؟ لا إجابات. مجرد اسئلة تضاف الى جبل الاسئلة المطروحة في سياق الأزمة العراقية الحالية. لا حقائق أيضاً. لأن المثار هو في معظمه مجرد اشاعات واحتمالات وشكوك تخرج كلها من مصدر واحد احتكر لنفسه سلطات المدعي والمحقق والقاضي في وقت واحد. والأهم من ذلك، هو قاض يصادر حقوق ثلاثة من اربعة زملاء له في مقاعد القضاة. وإذا تجرأ أحدهم على الاعتراض يهدده بالحبس في القفص نفسه مع المتهم الصوري وإغراقه بسيل من الاشاعات تلزمه بموقف التبرير والدفاع. ولأن قضاة هذه الأيام - خصوصاً في مجلس الأمن - اصبحوا يؤثرون السلامة، فقد اكتفى كل منهم بالجلوس صامتاً ومتأففا وهو يسد أنفه بيده اتقاء لروائح ما يجري. وما يجري حالياً أكبر تماماً من صدام حسين ونظامه. أو العراق وحاضره. وبالطبع أكبر أيضاً من منطوق ونصوص قرارات مجلس الأمن بمعاقبة العراق، على كل ما فيها أصلا من صياغات فضفاضة وأهداف هلامية ونطاق زمني مفتوح.