على صفحات جريدة "العلم" في القاهرة شنّ طه حسين 1889 - 1973 بين 1910 و1911 وقبل ذهابه الى فرنسا حملة نقدية شعواء على حافظ ابراهيم 1870 - 1932، فتحدث فيها بادئ ذي بدء عن وظيفة النقد الادبي وصفات الشاعر المجيد التي إن تحلّى بها كان شاعراً غير مدافع ونابغة غير منازع، وان انتقدها كان في الشعر دعياً، وفي الادب دخيلاً. هناك خلال لا بدّ للشاعر من التحلّي بها، فيرى طه حسين ان اولاها مقدرة القصيدة على ان تدلّ بمطلعها على ما قصد اليه دون تقديمها. وثانيتها الا يخرج الشاعر كثيراً على قواعد العلم. وثالثة تلك الخلال ان تلتئم اجزاء القصيدة وتأتلف. وهناك خلال اخرى اوردها طه حسين لا تقلّ أهمية عن هذه الثلاث، لكنها على مستوى آخر من الارتباط بالشاعر، اذ تعنى اساساً باسلوبه، من حيث سمو خيال الشاعر واتقانه التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية. هذه الخلال التي طالب طه حسين الشعراء التحلّي بها أوردها النقّاد العرب القدامى، لكنه اعتمد عليها للطعن في حافظ، فعاب عليه تشابيهه وأخطاءه اللفظية وترتيب ابياته. نقد طه حسين لحافظ لغوي فحسب، اي انه لم يخرج فيه عن تبيان الخطأ في استخدام الالفاظ، واعتمد على المنهج نفسه في نقد نثر مصطفى لطفي المنفلوطي 1876 - 1924، لا سيما في نظراته. واعتبر طه حسين ان نقده لحافظ كافٍ لتحطيمه وان نقده للمنفلوطي قادرٌ على تقزيمه، وفي هذا، لا شك، مغالاة. لكن على هذه الهيئة كان نقد طه حسين وهو في الثانية والعشرين، اي حين كان متأثراً باستاذه سيّد المرصفي توفي 1931 وقبل اكماله علومه في باريس. حتى ذلك الحين انتمى الى جبهة النقد المجدّد والذي لم يتخلص بعد من عدة النقد اللغوي. بموازاة هذه الجبهة كان هناك جبهة ثانية استفادت من دراستها للأدب الغربي ونقده اخذ افرادها بمهمة تحديث النقد العربي. من هؤلاء نجيب الحدّاد 1867 - 1899 الذي وازنَ بين الشعر العربي والشعر الغربي فرأى ان الشعر العربي لا يفتقد بالترجمة الى اي لغة اوروبية من جمال معانيه سوى ما كان عليه من طلاقة النظم ورونق القالب الشعري. واعتبر ان ما يميّز شعر الفرنجة عزوفهم عن المبالغة والتزامهم بالحقائق وهم في ذلك أقرب الى شعراء العصر الجاهلي من حيث البساطة، ولذلك انفردوا بوضع الرواية الشعرية، اذ اعتبروها أول ابواب الشعر واسمى درجاته، اضافة الى انها اشدها دلالة على براعة الشاعر، وحسن اختراعه في تأليف حكايتها وتوثيق عقدتها ودقة تبويب فصولها. الموازنة هذه بين الشعرين العربي والاوروبي التي نهض بها نجيب الحداد، وان تلتها أُخريات، كانت الاولى من نوعها في تاريخ النقد العربي الحديث. اما المحاولة الاخرى المهمة التي عمدت الى دراسة الادب العربي وفق مناهج النقد الحديثة فقد قام بها حسن توفيق العدل 1862 - 1904 في مؤلَّفه "تاريخ آداب اللغة العربية" 1902. أُتيح للعدل ثقافة منوعة، فهو ازهري درس في المانيا وانكلترا قبل ان يُحاضر في كامبردج ويتوفى هناك ويُنقل جثمانه الى مسقطه الاسكندرية.. اتّبع العدل منهجاً يأخذ بالأدب بحثاً عن الحياة العقلية والبيانية للأمّة العربية، وعن نشأة اللغة العربية وتدرّجها وما دُوِّن بها من علوم ومعارف كما يعنى في منهجه بالوقوف على الحركة الفكرية في ثنايا تطورها. بعد هذه المحاولة النقدية الرائدة كانت خطّة احمد شوقي 1868 - 1932 في مقدمة الجزء الاول من ديوانه 1898 حيث نعى على الشعر العربي انه حصر نفسه في دائرة المدح فلم يلتفت الى الكون ويأسر الطير ويطلقه ويكلّم الجماد وينطقه. وفعلاً نهض شوقي بحمل التجديد ممارسة فنظم المسرحية والرواية التاريخية وحاكى لافونتين 1621 - 1695 في شعر الاطفال وأطلع المصريين على شعر الطبيعة المحض حين ترجم بحيرة لامرتين 1790 - 1869. وبقيت محاولة شوقي في تحديث النقد دون المستوى المُرتجى، فسدّ الثغرة معاصره خليل مطران 1872 - 1949. في العام 1900 كتب مطران مقالة في "المجلة المصرية" اعلن فيها ثورة على خطّة العرب في الشعر، فالشعراء في مطلع القرن في موقف انتقال، وهو موقف دقيق وحرج، ونعى على العرب ولعهم بالمغالاة والمبالغة. لكن أهم انجاز نقدي جاء به مطران كان مطالبته بتحقيق الوحدة العضوية في القصيدة، اذ دعا في مقدمة من ثلاث صفحات لديوانه الصادر في القاهرة في 1908 الى احداث تغيير جذري في مفهوم القصيدة وبنيتها: "هذا شعرٌ عصري وفخره انه عصري وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر. هذا شعرٌ ... لا تحمله ضرورات الوزن او القافية على غير قصده. يُقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح. ولا ينظر قائله الى جمال البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتمَ اخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام بل ينظر الى جمال البيت في ذاته وفي موضعه والى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحر وتحرّي دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر". في هذا فهم مطران جوهر الشعر على حقيقته، وجدّد في بنية قصيدته بوحي من فهمه.