ربما اكون مديناً منذ البداية، تجنباً لسوء الفهم، بالتوضيح بأن وجهات النظر والملاحظات والتقييمات والامثلة والافكار الواردة في هذه المقالة لا تمثل جهة معينة ولا تقصد جهة معينة وانما تمثل تجربتي وملاحظاتي الشخصية التي تكونت على مدى اعوام وفي دول ومؤسسات متعددة، وبالتالي فان الامثلة لا تخص جهة دون اخرى ولا تشكل الا في "مجموعها"، لا بمفردها، وجهة نظر شاملة. تبدو البرامج الثقافية في الفضائيات العربية في ازمة. تتجلى ملامحها في عناصر عدة تشمل المقارنة بين الموضوعات: السياسة، الرياضة، الاغنية، الثقافة الخ. كما تشمل الميزانيات المخصصة لكل من البرامج السياسية والبرامج الرياضية والبرامج الثقافية، وتمتد لتشمل التأثير المباشر أو غير المباشر على المشاهد، هذا التأثير الذي يتضح منعكساً اما في وسائل الاعلام المقروءة أو في الرأي العام. ولقد اصبح هذا التأثير مقياساً لاهمية البرامج ونفوذها بين المشاهدين. وأزمة البرامج الثقافية في الفضائيات العربية امتداد لأزمة هذه الفضائيات التي لا تتمثل في مكان تواجد بعضها في اوروبا وبعضها الآخر في بلدان عربية وانما تتمثل في حداثتها من جهة وفي توجهها اصلاً لجمهور بلدان عربية تعاني من الرقابات المتعددة المستويات والموضوعات وتعاني من أزمة ثقافية من جهة اخرى ما يجعل من أزمة البرامج الثقافية أزمة مركبة ومعقدة لا يحلها الرأي الواحد ولا الوقت القصير ولا القرار الاداري كما لا يحلها البرنامج الثقافي نفسه. تبدو البرامج السياسية والاخبارية ذات سيطرة شبه مطلقة في اغلب الفضائيات العربية، وقد قادت هذه السيطرة شبه المطلقة الى تنافس سياسي واخباري وقعت البرامج الثقافية ضحيته. فالدعم المالي والاداري والتقني يبدو في اعلى مستوياته وجاهزيته حينما يتعلق الامر بالبرامج السياسية والاخبارية بينما يغيب هذا التنافس في البرامج الثقافية ويصبح العكس صحيحاً: أية قناة يمكن ان تصرف اقل على برامجها الثقافية، بينما واقع الحال يشير الى عناصر كامنة في هذه الوضعية. ذلك ان السياسة اصبحت هي ثقافة المشاهد من جانب، وثقافة التلفزيون من جانب آخر. بمعنى انها حلت محل المعرفة الثقافية، ولم تعد الثقافة الا هامشاً. في السياسة يستطيع تصريح صحافي ان يثير أزمة سياسية كبيرة بين دولتين أو دول عدة. وهنا يبدو التأثير مباشراً ومنعكساً في الواقع اليومي بينما يغيب ذلك التأثير من البرامج الثقافية. وكل مقارنة بين الاثنين ستبدو ضرباً من التعسف والوقوع في الجهل. في السياسة تستطيع ان تؤدي الغرض في تصريح أو خبر بينما تحتاج التأثيرات في البرامج الثقافية الى فترة ليست قصيرة لكي تتجلى وتتضح. فالثقافة المقدمة الى جمهور المشاهدين عملية عقلية تحتاج الى زمن للتفاعل واثارة ردود الفعل الواقعية والملموسة، بينما السياسة المقدمة الى جمهور المشاهدين عملية عاطفية ايديولوجية مباشرة تثير ردود افعالها مباشرة وتؤدي اغراضها بوقت قصير. ولذلك تعمد القنوات التلفزيونية الى البث المباشر للبرامج السياسية، بينما تعمد الى التسجيل في البرامج الثقافية وكأنها لا تمت الى الزمن بصلة. هذا الامر يقود الى تفاوت مستوى اهتمام القنوات الفضائية نفسها بالصرف المقدم لكلا النوعين. فما يوضع في امكانات مادية لحلقة سياسية واحدة يعادل احياناً سبع او ثماني حلقات او اكثر لبرنامج ثقافي. وبطبيعة الحال فان الاهمية التي تضفيها قناة ما على برنامج ما وطريقة تقديمه الى المشاهد والامكانات المرصودة له تثير في المشاهد الرغبة في المتابعة والاهتمام بغض النظر عن كون هذا البرنامج ذا طابع ثقافي أو سياسي أو منوع. الافتراض السلبي الذي يسود اذهان غالبية القائمين على القنوات الفضائية هو ان الثقافة غير مطلوبة من قبل المشاهد العربي. وهذا الافتراض غير واقعي لأن المشاهد العربي ينظر الى البرامج من زاوية ثقافية طويلة الأمد. فهو يتعامل مع البرامج الاخبارية والسياسية من موقع ثقافي ومن فهم ثقافي سواء كان كبيراً أم صغيراً. والمشكلة تكمن في النظر الى الثقافة باعتبارها الشعر والقصة وتيار الحداثة بالذات وهذه نظرة متعسفة وسماعية اكثر مما هي تجربة ملموسة. واذا كانت القنوات الفضائية تجارية الاتجاه أو انها تسعى الى ان تكون تجارية، فان المشاهد العربي ليس نموذجاً واحداً يفضل الاغنية أو السياسة وحدهما. اعتقد بأنه من الافضل الانطلاق من اطروحة ان الازمة العربية التي يعانيها المواطن - المشاهد هي أزمة ثقافية عامة تشمل الفكر والسياسة والمجتمع والسلطة وهي التي تدفعه للبحث عن تعرف واطلاع عبر البرامج السياسية والاخبارية لمعرفة ذاته وموقعه في العالم والحياة وان ذلك نفسه سيتيح للبرامج الثقافية موقعاً لا يقتصر على الادب والفن وانما يتجاوزهما الى ان يكون مرآة لعرض ازمة المواطن العربي الحضارية. ان بعض البرامج التي تتعامل مع المثقفين ما تزال تتعامل مع المثقف هل هو مع التطبيع ام ضد التطبيع؟ هل الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب يبقى اتحاداً للادباء والكتاب العرب بوجود كرسي فارغ لهذا التنظيم السياسي أو ذاك؟ وهل انت مع كوبنهاغن ام ضدها؟ وهل انت مع اوسلو او ضدها؟ وهل انت مع بغداد او ضدها؟او تحميل المثقف نفسه سوء الفهم الذي يواجهه به المجتمع وادانته وتخريفه مقابل اعادة الاعتبار للهوامش الثقافية الاخوانية والساذجة التي يبدو انها تتناسب مع فهم البعض من المسؤولين الاعلاميين البعيدين عن التعايش مع الوسط الثقافي والحياة الثقافية الواسعة الامتداد والمتعددة التيارات والمختلفة المناطق واللعب على مستوى بعض المشاهدين الذين يعانون لاسباب عربية كثيرة ضعفاً في المستوى الثقافي الذي يعتبرونه مستوى النخبة التي يشكل مفهومها "عقدة مثقفين" لدى البعض فتكون مفاهيمهم الثقافية تدميرية وانتقامية يبدو فيها المثقف مداناً لصالح المستوى الضعيف في البرنامج الثقافي اكثر مما يبدو فيه عنصراً فاعلاً في المجتمع. هذه هي القضية الثقافية المعروضة في بعض البرامج عبر تصارع سياسي حزبي وايديولوجي باسم الثقافة. وبهذه الطريقة تزداد الازمة الثقافية سوءاً، ويبدو المواطن - المشاهد تابعاً سياسياً لهذا الطرف الثقافي أو ذاك من دون جوهر ثقافي يعبر عن ازمة المشاهد - المواطن الحقيقية، هذه الازمة التي ترتدي ثوباً سياسياً مباشراً وظاهراً وتتغلف بغلاف سميك من التبعية السياسية والايديولوجية. واذا كان برنامج واحد من هذه البرامج يثير العواطف الايديولوجية مباشرة فان مهمة البرامج الثقافية التي تسعى الى الكشف عن الازمة الثقافية للمواطن - المشاهد العربي ستتعقد وتتطلب وقتاً طويلاً لأنها ستكون مخفية تحت ستار هذه العواطف التي تثيرها البرامج الايديولوجية باسم الثقافة. واذا كانت السياسة أو الاغنية أو الرياضة تبدو مفهومة و"مهضومة" من قبل المسؤول الاعلامي في القنوات الفضائية فان الثقافة تعاني من الغربة لدى اغلب المسؤولين عن القنوات الفضائية سواء من حيث انتاجها الثقافي ام من حيث ممثليها ام من حيث الطريقة التي تؤدي بها وظيفتها عبر الوسائل الاعلامية المختلفة. واذا كان المسؤول الاعلامي قادراً على اعطاء رأي شبه عادل في البرامج السياسية والاخبارية والغنائية حسب الذوق فانه غالباً ما يبدو متعسفاً في اعطاء رأي في البرامج الثقافية للاسباب التي ذكرناها. ويشكل غياب لجان ثقافية مختصة في الفضائيات احد اسباب تدهور البرامج الثقافية وجعلها معتمدة على الامزجة والعلاقات والتقديرات الشخصية اكثر من كونها معتمدة على وقائع الحياة الثقافية العربية. ولهذا السبب لا تخصص الاموال الكافية لانتاج برامج ثقافية واسعة مثل البرامج السياسية. ان الفضائيات تقوم ب "تربية" مشاهد سياسي لكنها لا تقوم بتربية مشاهد ثقافي. وفي الوقت الذي تحرص القنوات الفضائية، عبر البث المباشر للبرامج السياسية، على سماع رأي أو سؤال المشاهد في قضية سياسية تصنعها الدولة، تغفل رأي المشاهد في قضية ثقافية يصنعها المجتمع. وهناك مفارقة واضحة هي انه في الوقت الذي تبهت النقاط الحمراء في الجانب السياسي في المعالجات الفضائية ما تزال النقاط الحمراء مشعة في المجال الثقافي. وتبدو السياسة العامة لعدد من الفضائيات وكأنها سياسة اذلال المثقف وتهميشه وتحويل دوره التنويري والفكري الى دور التابع الباحث عن لقمة عيش مذلة، فضلا عن تدقيقها الايديولوجي بافكاره ومواقفه وانتماءاته المذهبية لتقيم معه الاختلاف على اساسها والتي تغطيها باسباب مهنية وادارية مفتعلة هرباً من المسؤوليتين القانونية والسياسية. فضلاً عن ذلك يبدو ان ما هو مطلوب من المثقف ان يكون منحازاً لسياسة رسمية يتبنى مواقفها وينحاز الى صراعاتها في مهنة اصبحت كما قلنا عابرة للقارات. ان ادلة وضع المثقف تحت مستوى بعض الموظفين الذين تبدو ثقافتهم العامة بمستوى ان "دمشق عاصمة العراق ورئيسه أنور السادات وشاعرته أم كلثوم" كثيرة وكثيرة جداً. وهي دلالة لا تفضح سوى المستوى الثقافي العام لقنوات اعلامية عابرة للقارات لا يقوم تطورها الا على تطور المستوى الثقافي العام للعاملين فيها والقائمين عليها. هذا التطور الذي لا يعتمد على قراءة اغلفة كتب و على ترديد اسماء مؤلفين او تقديم ما اصبح مدرسياً سواء كان كتاباً ام موضوعاً ثقافياً ليكون بديلاً عن معالجة الظواهر الثقافية العميقة. هناك مشكلات عدة تتعلق بطريقة تقديم الثقافة ومادة البرنامج وقيمة هذه المادة في الحياة الثقافية. ان ربط الثقافة بالاغنية او المقدمة جميلة الوجه او بما هو احتفالي وكرنفالي في الاحداث الثقافية ليس حلاً لكسب مشاهد الى مادة ثقافية. فهذا ايضاً من شأنه تعميق ازمة الثقافة وجعلها ماكياجاً أو حلوى ثقافية بعيدة عن تلبية الجوع الثقافي الحقيقي الذي يعاني منه المواطن - المشاهد العربي. ان المواطن العربي، حتى في ازمته السياسية، يعاني من ازمة ثقافية. وفي الوقت الذي يحجّم المثقف وظيفياً في موقعه "الادبي" لا يسمح بتصوره واعتباره قادراً على غيره نرى غير الثقافي قادراً على الدخول وظيفياً واعلامياً الى مجال الثقافة وسرقة دور المثقف. حتى الآن لا تبدو الثقافة موضوعاً "تلفزيونياً" أو "مهنة تلفزيونية" كما هو شأن السياسة والرياضة والاغنية والترفيه. واذا اعتبرت تلفزيونية فتكون هامشية وملحقة بالمنوعات لا بقسم ثقافي مستقل له خطته وتوجهه ورأيه. اضافة الى مشكلات الفروقات العميقة في الميزانية المرصودة للبرامج السياسية والميزانية المرصودة للبرامج الثقافية، وفروقات الفهم المختلف واهمية كل من السياسة والثقافة والتعامل معها، تبقى مشكلات الوقت المخصص للبرامج الثقافية حيث يشكل نسبة ضئيلة من زمن البث اليومي والاسبوعي مقابل ركام هائل من الوقت المخصص لبقية البرامج ما يضطر المواطن - المشاهد لتقبل خسارته في ان يفوته الوقت الاسبوعي القصير المخصص لعرض ثقافة أمة ما تزال تصنف بعيداً عن التجارة والصناعة والسياسة والعلوم معتمدة على تصنيفها الوحيد والتاريخي كونها أمة ثقافة!