تشير الدلائل الأثرية التي تم العثور عليها أخيراً الى ان توت عنخ آمون جاء الى الحكم على اثر انقلاب عسكري قام به قادة الجيش المصري، اذ عثر على منظر مرسوم على جدار مقبرة مايا مرضعة الملك الشاب التي اكتشفت في منطقة سقارة قبل نهاية العام الماضي، تتضمن خمس قادة عسكريين يعتقد بأنهم كانوا قادة هذا الانقلاب. وتمثل هذه اللوحة أقوى دليل أثري عثر عليه حتى الآن على حدوث أول انقلاب عسكري في التاريخ. وكنت توصلت في كتاب لي صدر بالانكليزية العام 1990 بعنوان "موسى فرعون مصر" الى ان الملك اخناتون لم يمت عند نهاية حكمه في العام السابع عشر لتوليه العشر، وانما تم اجباره على التنازل عن العرش لابنه توت عنخ آمون نتيجة لانقلاب قام به قادة الجيش. وفي مؤتمر صحافي عقد يوم 7 تشرين الثاني نوفمبر الماضي أعلن السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري عن كشف مهم قامت به البعثة الأثرية الفرنسية التي تعمل في منطقة سقارة، عند عثورها على مقبرة مرضعة الملك توت عنخ آمون. وقال الوزير ان هناك نقشاً عند مدخل المقبرة يصور المرضعة مايا، وعلى حجرها يجلس الملك الصغير توت وهو يرتدي لباس الملك، بينما يجلس كلبه الأليف تحت المقعد. وذكر الوزير ان هذا المنظر يضم كذلك عدداً من كبار رجال الدولة المهمين. وأضاف الأثري الفرنسي آلان زيفي، رئيس البعثة الفرنسية التي عثرت على المقبرة بعد موسمين من الحفر، انها كانت مليئة بعدد كبير من القطط المحنطة التي دفنت هناك في أيام حكم البطالمة خلال الثلاثمئة عام السابقة للميلاد. ووصف اللوحة التي ظهرت بعد التخلص من القطط، وهي تحتوي على ستة من كبار رجال الدولة، انهم بلا شك يمثلون الشخصيات الوزارية التي حكمت مصر أيام توت عنخ آمون، وعلى رغم عدم وجود كتابات تحتوي على أسماء الوزراء فقد تمكن زيفي من التعرف على شخصياتهم من ملامحهم ومن عصي المارشالية التي يحملونها في ايديهم. وهم: آي وحورمحيب ورمسيس وسيتي ونخت مين ورجل آخر اسمه مايا كذلك. وبخلاف مايا هذا الذي كان وزيراً للمال، فإن الوزراء الخمسة الباقين كانوا كلهم من القادة العسكريين في الجيش المصري. ليس هذا فحسب، بل ان أربعة منهم خلفوا توت عنخ آمون على العرش بعد ذلك، هم آي وحورمحيب ورمسيس الأول وسيتي الأول. ومن الواضح ان وزارة الملك الصغير كانت بمثابة مجلس لقيادة الثورة تتكون من العسكريين الذين حصلوا على مراكزهم بسبب ما قاموا به من انقلاب عسكري ضد والده اخناتون. وكان هذا التمرد العسكري نتيجة لصراع طويل بدأ في عصر جده امنحتب الثالث عند بداية القرن 14 ق. م. بين القصر الملكي والكهنة أولاً ثم تحول بعد ذلك الى صراع بين الجيش والقصر. فلم يلتزم امنحتب الثالث بالتقاليد المصرية القديمة عندما أصر على اعتبار طاي ابنة وزيره يويا - المسؤول عن سلاح الخيالة - هي الملكة على رغم انها لم تكن الوريثة، فرفض الكهنة والحكماء اعتبار الولد الذي تلده ابناً شرعياً لآمون. وكان ان اختفى ابنها الأول تحتمس - في ظروف غامضة - بعد ان عينه أبوه ولياً للعهد بفترة قصيرة. ولذلك فعندما حل موعد ولادتها الثانية في العام الثاني عشر لأمنحتب، تركت القصر الملكي في منف بالقرب من سقارة، وذهبت لتعيش في القصر الصيفي في زارو بالقنطرة شرق. وخافت الملكة طاي بعد ولادة ابنها الثاني - الذي سمته امنحتب مثل والده - ان يقتله الكهنة كما فعلوا بابنها الأول، فلم تسمح له طوال فترة طفولته بمغادرة قصرها الذي ولدته فيه داخل أسوار مدينة زارو في شمال سيناء. ولما كبر أرسلته امه ليتم تعليمه في مدينة عين شمس، خلافاً للتقاليد التي كانت تقضي بأن يتم تعليم الأمير في مدرسة منف مع أولاد النبلاء. وأول ما نسمع عن وصول الأمير امنحتب الى العاصمة في طيبة كان عند بلوغه السادسة عشرة من عمره حيث خصص له والده فيلا داخل القصر الكبير الذي بناه في ملقاتا على الضفة الغربية للأقصر وفي تلك السنة - العام 28 من حكم امنحتب الثالث - أشرك الملك ابنه معه في الحكم باسم امنحتب الرابع، فقد كان يخشى عدم سماح الكهنة بتوليه العرش بعد موته. ومع ان سلطات الملك في مصر القديمة كانت مطلقة - حيث كان الاعتقاد السائد هو انه ابن للمعبود آمون - الا انه كان مقيداً في تصرفاته بالتقاليد المتوارثة التي كانت تعتبر بمثابة دستور غير مكتوب. الا ان تصرفات الملك الشاب زادت من غضب الكهنة عليه، اذ كان أول ما فعله هو انه قام ببناء معبد ملحق بالكرنك لإله جديد رمز له بأشعة النور التي تمسك بمفتاح الحياة، وأسماه "آتون". ولم يكن هذا في حد ذاته ليثير غضب الكهنة، فقد كان المصريون معتادين على تعدد المعبودات، ولكن ما أثارهم هو انه اعتبر آتون - الذي ليس له صورة أو تمثال - معبوداً واحداً لكل البشر، ومنع دخول معبده الا لمن ترك المعبودات الأخرى. وثارت ثائرة الكهنة المصريين ولم يتمكنوا من اخفاء مشاعرهم. وبحسب ما جاء في كتابات الملك الشاب فإن البعض منهم وجه عبارات التحدي للملك الأب نفسه، وتحت ضغط أبويه ترك الملك الصغير العاصمة واختار موقعاً في محافظة المنيا قبالة مدينة ملوي - يعرف الآن باسم تل العمارنة - وبني فيه مدينة جديدة ليعيش فيها هو ومن اتبعه بعد ان غير اسمه الى اخناتون. وطالما ظل امنحتب الثالث على قيد الحياة، كانت سلطة اخناتون محددة بحدود تل العمارنة، ولكن عند موت أبيه - في السنة الثانية عشرة من الحكم المشترك - وجد اخناتون نفسه الحاكم الأوحد لكل أرض مصر، وهنا بدأت المشكلة. كان مفهوم الاله الذي لا يستطيع الناس رؤية تجسيد مادي له جديداً على عامة المصريين في ذلك الوقت، ثم ان الاختلاف بين الشعوب - بل بين المدن والقرى - كان يفسر على أساس من اختلاف المعبودات لدى مختلف الناس، فكيف بإله واحد - ليس لكل مصر فحسب - بل لأرض الشام وافريقيا كذلك؟ لهذا لم يتبع اخناتون الا عدد قليل من مثقفي زمانه. ولكنه قرر الاعتماد على الجيش لتنفيذ سياسته، فعين خاله الثاني "آي" قائداً عاماً للجيش ومشرفاً على سلاح الخيالة وقائداً للحرس الملكي، كما انشأ فرقة عسكرية من بين أبناء الجاليات الأجنبية في مصر لحراسته، وهذا يتضح من رسومات مقابر النبلاء في تل العمارنة. وأرسل الملك فرقاً عسكرية الى جميع المدن المصرية، تقوم بإغلاق المعابد ومصادرة أوقافها، كما أمر بتسريح جميع الكهنة عدا كهنة آتون، وشطب اسم آمون من على جميع النقوش، حتى تلك التي تدخل في تركيب اسم والده "آمون حتب"، وكذلك كلمة "نترو" وهي جمع لكلمة "نتر"، بمعنى "معبود". وبعد خمس سنوات من اغلاق المعابد ظل الناس عازفين عن عقيدته الجديدة وظلت الفجوة كبيرة بين ما ينادي به اخناتون ونخبة من المثقفين الذين تبعوه وبين ما يؤمن به عامة الشعب في القرى والمدن. بل ان الأمور داخل الجيش تطورت بشكل أصبح يشكل خطراً على اخناتون نفسه، فلقد وضع اخناتون الجنود في موقف من التناقض لم يعهدوه من قبل بين ولائهم للملك وولائهم للمعبودات القديمة وللكهنة. ومع ان ولاء الجنود لملكهم كان يعتبر جزءاً من التعبير عن ايمانهم الديني، حيث كان الملك يمثل المعبود على الأرض، الا ان اخناتون نفسه رفض ان يكون ممثلاً للمعبودات القديمة التي أمر جنوده بمنع الناس من عبادتها. لهذا بدأت المؤامرات تحاك داخل الجيش - بتشجيع من الكهنة - للاطاحة باخناتون ونظامه، وعبثاً حاول خاله آي اقناعه بالوصول الى حل وسط يسمح بإعادة فتح المعابد القديمة، مع استمرار عبادة آتون. ولكن اخناتون رفض قبول أية محاولة لتغيير النظام الديني الجديد. ومن الواضح الآن ان ثلاثة من قادة الجيش قاموا بعملية تمرد ضد اخناتون، هم حورمحيب ورمسيس وسيتي، وعندما أدرك آي - القائد العام للجيش - عدم استطاعته اخماد هذه الثورة بمساعدة القائد تخت مين الذي كان قريباً له، تم التوصل الى اتفاق بين العسكريين الخمسة على اجبار اخناتون على التنازل عن العرش لابنه توت عنخ آتون، وأصبحوا جميعهم يشكلون الوزارة الجديدة. وهناك العديد من الأدلة التي تشير الى ان اخناتون كان ما زال حياً في المنفى بعد نهاية حكمه، الا ان اسمه لم يعد يذكر في المصادر الرسمية، وعند الضرورة كان يشار اليه بتعبير "باخرو با اخيتاتن"، ومعناها "ساقط اخيتاتون أي تل العمارنة". ولا شك في ان هذه هي أول حالة نعرفها في التاريخ عن ملك يتنازل عن العرش، ومع سقوطه فقد ألقابه وأسماءه الملكية كذلك، فلم يعد في وسع أحد الاشارة اليه باسمه الذي كان يعرف به أثناء وجوده على العرش، أي انه صار لا اسم له، وسمح توت عنخ آتون باعادة فتح المعابد القديمة وأعاد الى الكهنة سلطاتهم وأملاكهم السابقة، بل انه غير اسمه في عامه الخامس الى توت عنخ آمون، وحاول التوفيق بين العبادات القديمة والاعتقادات الآتونية الجديدة، واستمر هو على عبادته لآتون، الا ان توت عنخ آمون لم يستمر طويلاً على عرش مصر ويبدو من صورة الأشعة التي أخذها الأطباء انه مات مقتولاً وهو في التاسعة عشرة من عمره. وخلفه القائد آي الذي اضطر الى عقد زواج صوري مع أرملة الملك السابق حتى يتمكن من اعتلاء العرش، الا انه - هو الآخر - اختفى مع قريبه الجنرال نخت مين في ظروف غامضة بعد ان حكم مصر أربع سنوات. وتساعدنا اللوحة التي عثر عليها في مقبرة مايا في سقارة على تفسير الأحداث بعد ذلك. فيبدو واضحاً ان آي - ومعه نخت مين - واجه تحدياً من الجنرالات الثلاثة، حورمحيب ورمسيس وسيتي، ولا شك في ان هؤلاء كانوا وراء سقوط حكمه. اذ نحن نرى بعد ذلك ان القائد هو حورمحيب يتولى العرش - بعد ان تزوج أخت نفرتيتي زوجة اخناتون - ويعين شريكيه رمسيس وسيتي - في وقت واحد - في وظيفة الوزير الأول والقائد العام للجيش. وبسبب زواجه من الأسرة المالكة يعتبر حورمحيب من بين ملوك الأسرة الثامنة عشرة. الا انه بانتهاء حكم حورمحيب بعد 13 عاماً، انتقل الحكم الى رمسيس الأول الذي أسس الأسرة التاسعة عشرة من العسكريين، وتبعه ابنه سيتي الأول والد رمسيس الثاني.