لن نبالغ كثيراً إذا قلنا إن جميع الوثبات التاريخية الوطنية التي عرفتها الإنسانية تولدت عن شعور بالاستعلاء والتفوق على الماضي القريب أو البعيد. وهذا ما يفسر النعوت السلبية التي تنعت بها حركات النهضة الفكرية ماضيها فتنسبه إلى عصور الظلام لتنعت هي نفسها باللانبعاث والأنوار! صحيح أن العصور اللاحقة قد تكشف في ما بعد، ان النهضات لم تكن على الحال الذي كانت تتصوره عن نفسها، وان الظلمات لم تكن بالحدة التي ظن أنها عليها، وهذا على أية حال، ما بيّنه بعض المؤرخين المعاصرين عن القرون الوسطى الأوروبية حيث أوضحوا أنها لم تكن، اجتماعياً وفكرياً، من الظلمة التي اشاعها عنها عصر النهضة، لكن ما يهمنا هنا هو الشعور الذي كان عند أوروبا الناهضة بأنها "ستجبّ ما قبلها" وان ما هي عليه وما سيأتي لن يكون إلا أحسن حالاً مما مضى. الأمر الذي سيؤكده عصر الأنوار معتمداً على فكرة "التقدم" كإحدى الدعامات الأساسية التي يقوم عليها. ولسنا في حاجة إلى الوقوف عند فكرة التقدم هذه، لأن ما يهمنا، ليس قيمتها في حد ذاتها، بل مفعولها وما تمخض عنها من شعور بالطاقة المستقبلية للظرف المعيش. أكاد أجزم أن ما يعوزنا نحن حالياً هو هذا الشعور بالذات. لا أشير هنا إلى مختلف النزعات الماضوية التي تمجد الماضي وتنظر إلى عودته على أنها وحدها طريق الخلاص، وإنما إلى الشعور الذي أصبح ينتابنا جميعاً، وفي شتى الميادين، كلما توجهنا بانظارنا، لا إلى ماضينا، بل إلى أكثر لحظات ماضينا قرباً. فنحن نشعر دوماً اننا أقل مما كنا عليه لا في الماضي البعيد وحده بل، وأساساً، في ماضينا القريب. كلنا نشعر اننا دون مستوى مفكرينا الأقرب إلينا، واننا دون ما عرفته موسيقانا بالأمس القريب، ودون ما عرفه مسرحنا، ودون ما عرفته لغتنا، وما عرفه شعرنا، وما عرفته أخلاقنا، وما عرفته سياستنا، وما عرفته حياتنا اليومية... يؤكد هذا الشعور إذن اننا لسنا فقط دون الأمجاد الماضية، بل اننا دون مستوى انفسنا. ولعله أقوى من الشعور بالانحطاط والتدهور. ذلك ان هذا الأخير يقوم على ابتعاد الذات عن غيرها، أو على الأقل عن نفسها في الماضي، أما الاحساس بالدونية الذي نشير إليه فهو يتم بين الذات وبين نفسها، بينها وبين نفسها في الحاضر. هذا الشعور يتنافى بطبيعة الحال، مع كل محاولة "اقلاع" حقيقي. ذلك ان الاقلاع لا يتأتى إلا مع شعور قد يكون وهمياً بالتفوق، التفوق على الآخر أولاً، وعلى الذات ثانياً. إن الاقلاع لا يتم إلا عند شعور الذات ان بامكانها أن تكون غير ما هي عليه، وأحسن مما هي عليه. إنه لا يتأتى إلا مع سيادة مفهوم تقدمي عن الزمان، وفهم جدلي للوجود يعتبر ان الكائن ينطوي على غير ما هو عليه، وأساساً ان الكائن قوة وطاقة Potentialite. أما الذات التي تشعر أنها ليست في مستوى نفسها، فهي ذات مشلولة عاجزة عن الانسلاخ عن الحاضر والماضي معاً. ولن يكون بامكانها نفيهما إلا إذا هي آمنت بأن الغد سيكون أفضل مما تقدمه، حتى وإن كان ذلك الايمان مجرد وهم قد يكشف المستقبل عن زيفه، لكنه لا يستطيع ان ينكر فعاليته. * كاتب مغربي