«المرء محصن ضد نفسه بشكل جيد، ضد عملياته لاستعراف نفسه، وقلما يكون بإمكانه، على العموم، أن يدرك من ذاته شيئاً غير جدرانها الخارجية. أما الحصن نفسه فيظل منيعاً، بل غير مرئي له، اللهم إذا لعب الأصدقاء والأعداء دور الخونة وأدخلوه عبر مسالك سرية». حقيقة وجودية غاية في الدقة، تلك التي أشار لها نيتشه في حديثه أعلاه. فالإنسان دائماً ما يلحظ بقع الزيت الداكنة التي تلوث ياقات من هم حوله. هو بالتحديد يبحث عن خرمِ السواد، والثقوب التي تركتها أعقاب السجائر المتساقطة على ثياب خصومه، وما اصطبغ من بقايا القهوة المرة على الطاولات الخشبية، في مقاهٍ لا يشم منها رائحة البُن، بل يراها زرائب خربة!. هي الثبوتية، أو اليقين حين يستحيل إلى حالة ركونية مصمتة تلغي العقل، ولا تعمل أدواته، وتحل مكانها الذات الطهرانية المتضخمة بجهلٍ مقيم ومخيف كوحش كاسر غير مرئي. ولذا، فإن «اليقين أخطر من الكذب في عداوته للحقيقة»، على حد تعبير نيتشه ذاته. كون هذه الوثوقية المطلقة، تجعل صاحبها يعتقد أنه بلغ سدرة المنتهى، فيما هو لا يزال في صحراء التيه، بينه وبين «جبل قاف»، ما بين السموات والأرض. خطر هذه الوثوقية المفرطة، أنها تقود لا محالة إلى الخواء، الامتلاء جهلاً، التشبع بالبلادة والكسل، وفقدان أي دافعية نحو التعلم، أو الشعور بأن ثمة معارف وحِكَماً لم يصل لها المرء بعد، وهو بحاجة إلى أن ينال من نورها ولو شعاعاً. هذا الخواء، ينقص مما يمتلكه الفرد من منظومة قيمية وأخلاقية، أي أن صاحبه في عملية انسلاخ عن إنسانيته. فيما هو يتحول دون أن يشعر إلى وحش في ثياب الأميرة الحسناء. من هنا، يبدأ تشكل نواة العنف الرمزي، وهو عنف مفاهيمي، ينتقل تالياً لأن يتمظهر على شكل ممارسات نفسية ازدرائية، ولفظية قدحية، وكذلك جسدية تمارس إكراهاتها تجاه الآخر المختلف. هذا العنف، له جذره النفسي الغائر، والذي تنبه له سيغموند فرويد، حيث أشار إلى أن «وجود هذا الميل نحو الاعتداء، والذي نستشعره في ذواتنا، ونفترض أنه يحتل مكانته الخاصة عند الآخر، هو العامل الذي يخلخل علاقاتنا». مبينا أنه «تبعاً لهذه الكراهية الأولية الموجودة لدى الناس اتجاه بعضهم البعض، فإن المجتمع والثقافة مهددان باستمرار بالتفكك». هذا التفكك الذي حذر منه فرويد، سببه أن الثقافات المختلفة لا تشعر بحاجة بعضها إلى الآخر. أي أن العلاقة لا تقوم على التكامل، أو الحوار، أو التعايش والتجاور، والشعور بأهمية «المثاقفة» بوصفها عملية لشحذ المفاهيم وبناء النظريات الجديدة، وتهذيب الذات مما يشوبها من تشوهات وتضخم كاذب. وإنما تم استبدال كل ذلك بشهوة عارمة، بل ودموية، في الاستحواذ، ونفي الثقافة المختلفة، وصولاً إلى طمسها كلياً. لا لشيء، إلا بسبب الشعور بأن هذه الثقافة لا تستحق الوجود، كونها هباء منثوراً!. إذا كان الآخرون هم «العدم المطلق»، يكون حينها من السهل أن نصفهم بأقذع النعوت، كون هذا العدم يتسع لقاموس محيط من المثالب. وهذا السلوك في حقيقته محاولة لتنزيه الذات ورفع اللوم عنها، وهو سعي إلى الحصول على ميزات ومناقب لا نمتلكها، ولذا ننعت الأغيار بالنقص، معتقدين بذلك أننا نبني لنا الجنان السامقة!.