عندما يذكر (توماس هاردي) يتبادر إلى الذهن الروائي الإنجليزي الشهير الذي عاش معظم حياته الإبداعية كروائي في القرن التاسع عشر فيما يعرف بعصر الملكة (فكتوريا)، ونتذكر رواياته الشهيرة مثل تس: سليلة آل ديربرفيل، عودة المواطن، جود الغامض، بل إن ناقدا متمكنا هو (ن لورد ديفد سيسل) ألف كتابا بعنوان هاردي الروائي نشر عام 1943م، وهو أمر طبيعي؛ لأن هاردي بدأ حياته الإبداعية بكتابة الرواية، والتي امتدت من عام 1871م بروايته المسماة علاجات متهورة إلى روايته الأخيرة جود الغامض عام 1895م، بالرغم من أنه بدأ كتابة الشعر بين عامي 1862-1867 وكان دائما يعتبر نفسه شاعرا أكثر منه روائيا. لكن الرواية كجنس أدبي كانت مرغوبة أكثر في ذلك العصر من القراء، لا سيما القارئات من الطبقتين الوسطى والارستقراطية، وبالتالي تدر أرباحا أكثر. وهذا ربما يفسر ظهور روائيين كبار في تلك الفترة مثل (ديكنز)، (جورج إليوت)، (الأخوات برونتي). بعد رواية جود الغامض التي تعرضت بالنقد لبعض الممارسات الأخلاقية في المجتمع الفكتوري المحافظ، مما أثار على هاردي غضب الكثير من القراء، بعدها ترك كتابة الرواية وتفرغ تماما لإبداعه الشعري الذي لم يتوقف، في الواقع، عن كتابته حتى في أوج إبداعه الروائي، إلا أنه لم ينشره. وهنا يظهر تميز هاردي: فهو من الكتاب القلائل الذين تفوقوا في كل من الإبداع الشعري والإبداع الروائي. ولذا فإنه من ناحية يصنف على أنه روائي فكتوري كبير ومن ناحية أخرى على أنه شاعر حديث كبير. إن إنتاج هاردي الشعري أكبر بكثير من إنتاجه الروائي لا من حيث الكم فحسب وإنما أيضا من حيث تعدد الأغراض والأساليب والإيقاعات، بل إنه أبدع إيقاعات موسيقية خاصة به متفرعه من الأوزان المعروفة في الموروث الشعري الإنجليزي، كل ذلك في لغة سهلة ممتنعة تخفي على استحياء مهارته البلاغية. وقد عرفت عن هاردي نزعة التشاؤم التي تسيطر على إبداعه: فالإنسان عند هاردي كائن تقسوا عليه الأقدار، ضعيف أمام مجرى الأحداث التي تتقاذفه يمنة ويسره ولا يجد معينا من خارج نفسه وقدراته الذاتية. وتتبدى هذه النزعة في السخرية المرة والكوميديا السوداء. وجاءت وفاة زوجته الأولى (إيما) بعد ثمان وثلاثين سنة من العشرة فهزته هزا عنيفا أفرغه في إحدى وعشرين قصيدة رثائية تقطر حزنا وألما ووحشة وشعورا بالذنب، وهي المجموعة التي تعرف بقصائد عامي 1912 1913م. فقد كانت علاقته بزوجته باردة في السنين الأخيرة، وبعد وفاتها المفاجئة شعر بفراغ كبير وتأنيب للضمير. وجاءت تلك القصائد الرثائية بمثابة أصداء لهدير ذلك الحزن العميق. وكان السؤال الذي يلح عليه، أو إذا شئنا على المتحدث في تلك القصائد: لماذا تغيرت علاقتهما من الفرح والسعادة في سنين زواجهما الأولى إلى برودة الجفاء أو اللامبالاة على الأقل؟ أما كان أجدى بهما أن يعيدا تلك الأيام الجميلة المليئة بالتجوال بين المناظر الطبيعية الخلابة والمواقع الأثرية الرائعة وبالحياة الاجتماعية النشطة سواء أقيمت في بيتهما أو في بيوت أصدقائهما؟ لا تجيب القصائد على هذه التساؤلات. ربما كانت القصيدة الأولى في هذه المجموعة وهي بعنوان «الرحيل» معبرة بصدق عن الانفعالات التي كانت تتنازعه إثر وفاتها. يقول في الفقرة الأولى معاتبا: لماذا لم تلمحي تلك الليلة بأنك ستغادرين بسرعة صباح اليوم التالي وبهدوء، كأنك لا تبالين أبدا ستنهين أمرك هنا وتغادرين إلى حيث لا أستطيع اللحاق بك على أجنحة الربيع لأحظى بنظرة واحدة منك سريعة كالعادة. ثم يتابع عتابه في الفقرة الثانية: أبدا لم تقولي وداعا أو تهمسي بأرق نداء أو تنطقي برغبة في الكلام، بينما كنت أتابع الصباح يتجلى على الجدران دون حراك، دون إدراك أن رحيلك المباغت يحدث في تلك اللحظة مغيرا كل شيء. ثم ترتفع نبرة العتاب وتمتزج بقدر غير قليل من المرارة التي تتيح الفرصة للأوهام البصرية أن تحتل مركز الصدارة بين تلك الانفعالات، فيقول في الفقرة الثالثة: كيف تجعليني أغادر البيت معتقدا ولو للحظة أنني أراك وأنت في نهاية الممر المحاط بالأشجار المتمايلة حيث كثيرا ما تكونين هناك عند الغسق إلى أن ينتابني السقام في ذلك المشهد الرطب المكسو بالظلام والفراغ الذي يفغر فمه. وهنا تتحول الكاميرا إلى الماضي البعيد، ماضي السعادة والهناء في العلاقة الزوجية والنشاطات الرياضية التي كانا يمارسانها سويا، تلك الزوجة الجميلة الممتلئة حيوية وبراءة. يأخذنا المتحدث في الفقرة الرابعة إلى تلك الفترة البعيدة ليتخلص ولو مؤقتا من ضغط الحاضر الكئيب: كنت أنت تلك المرأة التي عاشت بين تلك الصخور ذات العروق الحمراء في الغرب البعيد، كنت أنت هي ذات العنق البجعي التي تمتطى فرسها بين صخور (بيني كرست) وتوقفه بزمامه قريبا مني وتتطلع إلي متأملة بينما كانت الحياة تفرش لنا أفضل ما عندها. وكان هذا متحققا وكان في الإمكان أن يستمر. ولكن لماذا تغيرت القلوب؟ يحاول في الفقرة الخامسة أن يحفر في وجدانه عن السبب ويرسم في مخيلته سيناريو كان يمكن أن يتبلور: إذا لم نتبادل الحديث في الأيام الأخيرة، أو نتذكر تلك الأيام التي غابت عنا منذ زمن، وقبل اختفائك المباغت لم نحاول تجديد تلك الأيام، كان يمكن أن نقول: في هذا الجو الربيعي الناضر سنزور معا تلك الأماكن التي كنا نزورها سابقا. وينهي القصيدة على الواقع المر الذي يستحيل تغييره: على أي حال، لقد فات أوان الإصلاح، لا يمكن تغييره. فسيمضي حتما. لست سوى إنسان ميت متعلق بطرف النهاية لابد أن يهوي قريبا...... آه انك لم تكوني لتعرفي أن مثل هذا الهروب السريع الذي لم يتنبأ به أحد حتى أنا سيقضى علي. نعم، هاردي في هذه المجموعة شاعر يسيطر عليه الحزن. ولكن كيف نوفق بين ضعفه أمام هذا الحدث الإنساني وبين سخريته التي تطال كل شيء والتي تنم بطبيعتها عن الاعتقاد بالقدرة على التحكم في المصير، لكنه الموت، اليقين الذي يزلزل الجبال العاتية ويجعل السخرية أقل تقبلا من القارئ. إذن يمكن القول: إن هاردي شاعر غلبه الحزن رغم أنفه.