بدا لي، وقد عدت لتوي من رحلة لحضور مؤتمر اكاديمي في جامعة بير زيت في الضفة الغربية، ان الكتابة عما شاهدته واثار اعجابي بعد غياب عن فلسطين دام حوالي ستة اشهر شيء مهم. لم ألمس أي حماس او دهشة عقب ابرام اتفاق "واي" مباشرة، بل مشاعر غضب مستكين ولكن محتدم قطعاً لأنه جرى التفريط مرة اخرى بالكثير من حقوقنا كشعب. ولو كانت هناك جوائز مخصصة للافتقار الى الشعبية فإن فريق المفاوضين البليد التابع لعرفات سيحتل بالتأكيد مرتبة متقدمة جداً على اللائحة. وبدا لكل شخص تحدثت اليه ان فكرة اعطاء وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي" دور الحكم في القضايا الخلافية بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتانياهو اشبه بخاتمة المتناقضات المثيرة للسخرية. أما بالنسبة الى الطبقة السياسية، برموزها وموظفيها ذوي الاعمار المتوسطة ومن على شاكلتهم، فقد عبّر كل من تحدثت اليه عن احساس كبير باللامبالاة، كما هو حال كل الاحزاب والاتجاهات السياسية. كانت المستوطنات الجديدة تنتشر في كل مكان، خصوصاً في أعالي التلال. واثناء وجودي هناك، أوعز الجنرال شارون الى المستوطنين بأن يستولوا على ما يمكن من الاراضي، وفعلوا ذلك بالطبع بمساعدة الجيش الاسرائيلي. واكبر تغيير مادي لاحظته منذ آخر مرة كنت هناك هو الزيادة في عدد وحجم الطرق الالتفافية التي يمكن رؤيتها في كل مكان زرته، تخترق الضفة الغربية ومنطقة القدس، وتطوق الاراضي الفلسطينية وتتخللها وتدمرها بالطبع. والغرض منها واضح تماماً: إعاقة نشوء اي دولة فلسطينية، إن لم يكن منع قيامها كلياً، على رغم تهديدات عرفات المتكررة بإعلان إقامة دولة. ويستقبل معظم الناس تصريحاته حول اعلان الدولة بحبور كبير وإن يكن بمرارة. لكن هناك مجالاً كبيراً للتفاؤل يتمثل في حقيقة ان مؤسسات في المجتمع المدني - تلك التي لا تربطها علاقة مباشرة تُذكر بالسلطة الفلسطينية او الاحتلال الاسرائيلي - تواصل عملها رغم الوضع الكئيب الذي يحيط بها من كل الجهات. واشير هنا الى احدى هذه المؤسسات، وهي جامعة بير زيت، حيث امضيت وعدد كبير من الاكاديميين حوالي اسبوع منهمكين في دراسة اوراق بحث ونقاشات وتبادل حيوي للاراء حول موضوع الطبيعة في فلسطين الذي يثير اهتماماً استثنائياً آخذاً في الاعتبار تاريخ اقوام كثيرة غزت فلسطين، يمثل الصهاينة آخرها وابشعها مادياً واشدها انتهاكاً. وما لفت انتباهي انه اذا كان هناك اي أمل في المستقبل فإنه يكمن في مؤسسات وطنية مثل جامعة بير زيت التي تواصل العمل رغم الضغوط الهائلة والعقبات الاستثنائية التي تواجهها، بشكل رائع في احيان كثيرة وبحكمة دائماً. ارتبطت هذه المؤسسة دائماً، منذ تأسيسها في 1924 كمدرسة داخلية للبنات، بعائلة ناصر. وكان بطرس ناصر وشقيقته نبيهة مؤسسا المدرسة ومن اوائل المشرفين عليها. اتذكر بطرس من ايام طفولتي: كانت احدى خالاتي ابنة عمه وكنا نعرف العائلة على نحو وثيق - كانوا في قرية بير زيت على مسافة حوالي عشرة كيلومترات من رام الله، وكنا في القدس. وكان بطرس موظفاً حكومياً اصبح في وقت لاحق وزير خارجية الاردن في 1960. ويشغل اكبر ابنائه حنا، وهو خريج الجامعة الاميركية في بيروت ويحمل شهادة دكتوراه في الفيزياء من جامعة برديو، منصب الرئيس حالياً. وفي 1926، اصبحت "مدرسة بير زيت" مدرسة ثانوية مختلطة التحق بها بعض اولاد عمي، واتذكر زيارتي اليها وانا طفل في منتصف الاربعينات. وخلال الفترة بين 1952 و 1960، اُضيفت سنة دراسية تحضيرية الى المدرسة، فاصبح بامكان الطلبة ان يحصلوا على سنة جامعية بالاضافة الى اربع سنوات من الدراسة الثانوية. واعقب ذلك، في الفترة بين 1962 و 1967، إضافة سنة جامعية اخرى. وبعد خمس سنوات على الاحتلال الاسرائيلي في 1967، خلال حفل التخرج عام 1972، اعلن حنا ناصر ان بير زيت ستصبح جامعة، اي مؤسسة تقدم منهاجاً دراسياً مدته اربع سنوات يمنح الطالب بعد انهائه شهادة البكالوريوس. وفي اليوم التالي زاره احد المسؤولين في السلطات العسكرية الاسرائيلية وابلغه ان مثل هذه الخطوة "غير شرعية"، وحاول ان يمنع المؤسسة من تنفيذها. واعقبت هذا التصريح سلسلة تهديدات من الجيش الاسرائيلي. وفي 1974، اُبعد حنا ذاته "لقيامه بالتحريض ضد امن اسرائيل"، وهي تهمة سخيفة لكنها تنسجم تماماً مع السياسة التي انتهجتها اسرائيل ضد ظهور اي حياة مدنية فلسطينية. ونُقل على عجل وهو معصوب العينين الى الحدود اللبنانية التي توجّه منها الى عمان حيث بقي منفياً هناك الى 1994. وتولى ادارة الجامعة غابي برامكي، وهو بروفسور كيمياء، فيما كان حنا يشرف عليها من عمان. وعندما حاول اسقف القدس الانكليكاني ان يتدخل لدى السلطات الاسرائيلية لم يُسمح له بالاطلاع على ملف حنا ناصر. واُغلقت الجامعة بشكل كامل في الفترة بين عامي 1988 و 1992، خلال الانتفاضة، بناءً على اوامر الجنرال اسحق رابين. لم يعلن اي نظام محتل آخر في التاريخ باستثناء اسرائيل الحرب على المؤسسات التعليمية: ومع ذلك لا يزال يُحتفى بهذا البلد نظراً لاحتلاله "النافع" الذي يستمر حثيثاً خلال "عملية السلام". يعتبر بقاء جامعة بير زيت في حد ذاته، بالطبع، احدى قصص المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي السافر. ويكتسب هذا الصمود، حسب اعتقادي، اهمية اضافية في الوقت الحاضر لأن الافاق السياسية بالغة القتامة، ما يجعل تطوير مؤسسات مدنية غايتها التنمية الفلسطينية والحفاظ على ثقافة وهوية وطنيتين تنبضان بالحيوية، ومواصلة ترسيخ الجذور في ارض فلسطين، على اقصى درجة من الاهمية فضلاً عن كونها ضماناً يحول دون ان يصبح مصير الفلسطينيين مثل الهنود الحمر، كما يُخطّط لنا من قبل الولاياتالمتحدة واسرائيل وكذلك لدرجة كبيرة من قبل قيادتنا العاجزة عن الفهم والفاسدة التي يتمثل هدفها الرئىسي في البقاء وتأمين رفاهها الشخصي. لقد توسعت "بير زيت" كجامعة خلال السنوات العشرين الماضية. ويبلغ عدد طلبتها حالياً حوالي 4 الاف من الرجال والنساء من انحاء الضفة الغربية، وكذلك من غزة عندما يُسمح للطلبة هناك ان يسافروا اليها. وبالاضافة الى درجة البكالوريوس، تمنح الجامعة درجة الماجستير في الدراسات الدولية والتعليم والاقتصاد والدراسات العربية الحديثة وهندسة المياه والقانون والتعليم الصحي. ويمتاز منهاجها الدراسي بكونه ليبرالياً وعلمانياً بالكامل، رغم ان خلافاً محتدماً يتواصل بين هذه المثل وبعض الطلبة الاسلاميين في حرم الجامعة. ولا ينتقص هذا او يقلّل اطلاقاً من اهمية جامعة النجاح في نابلس، على سبيل المثال، او اي من جامعات غزة: انه يعني بالاحرى ان جامعة بير زيت وحدها تشتهر على المستويين الوطني والعالمي على السواء بتمثيل الحياة الوطنية الفلسطينية عبر التعليم. لا يعني هذا ان حياة الجامعة تخلو من المصاعب. فهي تقع في المنطقة "ب"، وغالباً ما تعيق حواجز التفتيش الاسرائيلية وصول الطلبة والاساتذة اليها من رام الله واماكن اخرى في المنطقة "أ". وفي بعض الاحيان يقتحم جنود اسرائيليون حرم الجامعة ويعتقلون طلبة ويعتدون عليهم بالضرب قبل ان يغادروا المكان. ومع ذلك، يحرّك منظر الجامعة وموقعها مشاعر اعجاب اكبر مع كل زيارة. فعلى سفوح التلال الممتدة بسلاسة تنتشر فوق قرية بير زيت تماماً مبانٍ جميلة مشيدة بحجر ابيض. والارض التي يقوم عليها حرم الجامعة الكبير تبرّعت بها عائلة ناصر، وشُيّدت كل المباني بفضل تبرعات قدمها مغتربون فلسطينيون اثرياء. هكذا، عقد مؤتمرنا مثلاً في قاعة كمال ناصر، وهي القاعة الرئيسية للجامعة، وشُيّدت تخليداً لذكرى كمال ناصر الشاعر والناطق باسم منظمة التحرير الفلسطينية الذي اُغتيل في بيروت في 1973 على ايدي وحدة اغتيال اسرائيلية كان يقودها، حسب ما يُعتقد على نطاق واسع، إيهود باراك الزعيم الحالي لحزب العمل. واُنشئت القاعة بتبرعات كان مصدرها الرئيسي عبدالمحسن وليلى قطان، وهما زوجان رائعان وناجحان بشكل استثنائي استخدما ثروتهما الكبيرة لمصلحة شعبهما بوسائل غير مسبوقة تماماً. وعلى نحو مماثل، شُيّدت مباني المكتبة الجديدة وكلية الهندسة وكلية الاعمال التي اُنشئت اخيراً، بفضل الهبات التي قدمها اثرياء من فلسطينيي الشتات الذين رعوا جامعة بير زيت بالطريقة التي رعت بها شخصيات بارزة من يهود الشتات الجامعة العبرية وموّلتها قبل اقامة اسرائيل في 1948 بوقت طويل. ورغم التبرعات الفردية السخية لا تزال المشاكل التي تواجهها موازنة جامعة بير زيت ضخمة. فالموازنة السنوية تبلغ 12 مليون دولار، واكثر من نصفها بقليل يأتي من الاجور الدراسية والسلطة الفلسطينية، فيما يتعيّن تدبير بقية الموازنة عبر التبرعات. ويتولى القيام بذلك بشكل اساسي حنا ناصر، وتحقق هذه الجهود نتائج متفاوتة. وفي مرات عدة خلال السنوات القليلة الماضية لم تكن هناك اموال كافية لتسديد رواتب اعضاء الهيئة التدريسية، وتراجع عدد الكتب الجديدة التي تحصل عليها المكتبة حتى كادت تنعدم جرى اقتناء 1000 كتاب خلال السنوات الثلاث الماضية. الحياة صعبة، ويرجع ذلك الى قسوة اجراءات الحجز والتشريد التي تفرضها اسرائيل على الفلسطينيين، بالاضافة الى عدم وجود دولة فلسطينية والوضع المريع للاقتصاد المحلي والضائقة المالية الحادة التي يعانيها معظم الفلسطينيين، ما يجعل التبرع للجامعات في مرتبة متدنية على جدول الاولويات. مع ذلك، ما يثير الاعجاب بقوة ان حرم جامعة بير زيت يمتاز بتبادل مفتوح وحر للاراء والافكار لا مثيل له في اي مكان اخر في العالم العربي. ويبدي ناصر وزملاؤه اعتزازهم بذلك وحرصهم الشديد على الحفاظ عليه. وينتعش النقد الموجّه الى الافراد والسياسات، كما يحتدم جدل صاخب بين انصار احزاب سياسية مختلفة. وعندما اعتقلت سلطة عرفات بعض الطلبة قبل سنتين، اقامت الجامعة دعوى على السلطة وتمكنت من اطلاق الطلبة. ويسمع المرء الكثير من التشكي في الجامعة، لكن الشىء المدهش حسب رأيي هو انها كمؤسسة تشهد ازدهاراً على رغم وجود صعوبات كثيرة وعقبات لا تحصى. واعتقد ان احد الاسباب وراء ذلك انه رغم دور عائلة ناصر في تأسيس جامعة بير زيت ومواصلتها المشاركة في ادارتها فانها ليست مؤسسة تابعة لعائلة بل تمثل في اذهان كل شخص ارتبط بها، كطالب او إداري او استاذ، مؤسسة عامة وطنية. ولا يلمس المرء مثل هذه المشاعر والنشاط في العالم العربي باستثناء اماكن مثل الجامعة الاميركية في بيروت التي تعتبر رغم كل شىء مؤسسة اميركية وليست مؤسسة وطنية او عربية. ويضم مجلس اوصياء بير زيت 16 شخصاً من الضفة الغربيةوغزة، والمشاكل التي تواجههم كفلسطينيين هي مشاكل الجامعة ايضاً. ويرتبط كثيرون من ابرز الشخصيات الفلسطينية، من حنان عشراوي الى علي الجرباوي وابراهيم ابو لغد، وهم ثلاثة من اشهر المثقفين الفلسطينيين، على صلة مع بير زيت. لذا كان من الطبيعي تماماً ان ينظر الاسرائيليون الى المكان باعتباره خطراً يهدد مصالحهم كمحتلين. واعتقد بلا شك ان احدى المشاكل الرئيسية للجامعة هي عزلتها عن العالم العربي الذي تمثل جزءاً منه على صعيد الثقافة والتاريخ. واللغات المستخدمة في التدريس هي العربية بشكل رئيسي وبعض الانكليزية، لكن لم يأتِ الى الضفة الغربية سوى عدد قليل جداً من العرب غير الفلسطينيين، مبررين عدم مجيئهم بانهم يحتاجون الى تأشيرات دخول اسرائيلية. ويمكن المصريين ان يأتوا بواسطة إذن من السلطة الفلسطينية، ويشكل هذا مخرجاً ممتازاً من مشكلة التطبيع مع اسرائيل التي يبدي بضعة كتاب وفنانين مصريين استعدادهم للمساومة عليها. وقال كل من تحدثت اليه في جامعة بير زيت ان الحصول على دعم الاكاديميين والمثقفين العرب ذو اهمية بالغة فعلاً في ظل مشاعر الاحباط السائدة حالياً. ولا يسعني إلاّ ان اؤيد هذا الرأي، وقد عبّرت عنه للمصريين خلال زيارة قصيرة جداً قمت بها الى مصر اثر رحلتي الى فلسطين. ويبدو ان جامعة بير زيت في وضع فريد يجعلها احد الاركان الاساسية للمجتمع المدني الفلسطيني اذ يسعى الى توطيد نفسه في مواجهة هجوم اسرائيل وعملية السلام المجهضة. وحقيقة ان كثيرين داخل فلسطين وخارجها ينظرون اليها كعنصر مهم في عملية تكوين هذا المجتمع تمثل مؤشراً أكيداً الى ان حياة الفلسطينيين تستمر على مستوى جماعي، رغم العقبات والمصاعب. ينبغي النظر الى جامعة بير زيت، ومؤسسات مماثلة، كجزء من الرؤية الأبعد لتاريخنا التي تميل الى حجبها خطورة الازمة الحالية. فمن دون هذه المؤسسات تتلاشى عملياً حياتنا السياسية وقدرتنا على البقاء. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.