ربما لم تعرف شوارع طهران في تاريخها زحاماً يعادل زحام ذلك اليوم، باستثناء الزحام الذي ستعرفه بعد ذلك بسنوات يوم دفن الإمام الخميني قائد الثورة الاسلامية، وسار مئات الألوف من الايرانيين في جنازته. غير ان الإمام الخميني كان في ذلك اليوم البعيد، الذي نتحدث عنه، حياً يرزق، ويعيش في المنفى الفرنسي. كان ينتظر لحظة العودة الى ايران واسقاط نظام الشاه. وكانت أداته في ذلك خطبه التي كان يبثها عبر اذاعة "البي.بي.سي" خصوصاً، ولكن أيضاً الاخبار وضروب التحريض كافة التي راحت تبث من على موجات أثير محطات عديدة، منها "صوت اميركا" و"راديو اسرائيل" الذي كان يبث بالفارسية موجها الى ايران. والغريب ان تعليقات هذه الإذاعات الثلاث، كانت في معظمها متعاطفة مع الإمام الخميني، على عكس مواقف الحكومات - صاحبتها - التي كانت تعلن عداءها لحركته، ومناصرتها للشاه. فإذا أضفنا الى ذلك "الكاسيتات" التي كانت تصل الى داخل ايران تحمل تسجيلات تحريضية بصوت الخميني، وتطبع وتوزع في مئات ألوف النسخ، نفهم كيف كانت أية دعوة للإضراب أو للجهاد أو للتحرك عموماً يطلقها الخميني وتجد صداها في طول ايران وعرضها. وفي ذلك اليوم، الثالث من كانون الأول ديسمبر 1978، كانت دعوة الإمام الخميني واضحة: إضراب عام، وتظاهرات تجوب الشوارع. فكم كان عدد الذين لبوا؟ أكثر من مليوني انسان في شوارع طهران وضواحيها. راح المتظاهرون يجوبون الشوارع التي اقفلت محلاتها. وراحت أعمال العنف تتصاعد في وقت بدت فيه قوات الأمن، وقد تم تجاوزها، غير قادرة وغير راغبة في عمل أي شيء لوقف تدهور الأوضاع الأمنية. فإذا أضفنا الى هذا ان الصحف أضربت والتلفزيون أضرب، وكذلك اضربت الاذاعة الحكومية ومصافي النفط، ندرك لماذا كان الصوت الأثير الوحيد الذي يلعلع هو صوت المحطة الانكليزية بي.بي.سي، التي كان الإمام الخميني يصفها بأنها "صوته" و"لسان حاله" لأن الاذاعتين الآخريين، الاميركية والاسرائيلية، لم يكن من الممكن الاستماع اليها علناً. إذاً، هكذا، حصل ذلك الاضراب العام الشهير، الذي لطالما حلمت الحركات الثورية في العالم أجمع بمثله، وبعد ذلك الاضراب، وإزاء منظر أمواج البشر في الشوارع بات من الواضح ان أيام الشاه باتت معدودة. وكان الاميركيون في طليعة من يدرك هذا. ومع ذلك فإن السفير الاميركي في طهران راح يبعث التقرير اثر التقرير يحذر من عواقب ترك الأمور على سجيتها، وعدم الاسراع لمساندة الشاه. بالنسبة الى السفير، كان موقف الحكومة الاميركية ملتبساً، بل متواطئاً ربما. فالرئيس جيمي كارتر لم يتحدث صراحة عن ضرورة مساندة الشاه، ولم يفه بأي كلمة ضد خصم الشاه، الإمام الخميني، ما يعني سكوت اميركي عما يحدث. وباتريسيا دارين، العضو النافذ في مكتب حقوق الانسان في واشنطن، تمكنت، وللشهر الثاني عشر على التوالي من تجميد اعتدة مضادة للشغب كان من المقرر ارسالها الى ايران لدعم قوات الأمن هناك، لكن المكتب عارض إرسالها وتمكن من تجميدها الصورة: متظاهرون وأعمال عنف في شوارع طهران. اذن، بالنسبة الى سوليفان، ها هو الموقف في ايران يتفاقم، وحليف للاميركيين على وشك السقوط، وواشنطن لا تفعل شيئاً. مظاهرات اليوم الثالث من كانون الأول جاءت بدورها لتصب الزيت على نار الخلافات الاميركية - الاميركية بصدد ما يجب، أو ما يمكن فعله. ولكن، في الوقت الذي كان الاميركيون يخوضون فيه جدلهم البيزنطي غير آبهين بنداءات الشاه المتكررة للنجدة ما جعله، لاحقاً، يقول ويصر على القول حتى نهاية أيامه، بأن الاميركيين غدروا به وباعوه. كان الشارع الايراني بدوره غير آبه بالمواقف الاميركية. بالنسبة اليه، قال له ذلك اليوم التاريخي "ان معركته قد رُبحت، وان الأيام التي تفصله عن لحظة التخلص من حكم الشاه باتت معدودة. وان الإمام الخميني، زعيم ثورته، الذي أمضى سنوات منفى طويلة في العراق ثم في فرنسا، بات على قاب قوسين أو أدنى من يوم العودة والاقتصاص من الشاه الجائر". وبالفعل، ما ان مضى شهران حتى كان كل شيء تبدل، وانتصرت ثورة الخميني، وانهزم الشاه ومناصروه، أما اميركا وبريطانيا واسرائيل فصارت "شياطين متفاوتة الاحجام". أما اذاعاتها التي "سكتت عما يحدث" أو "تواطأت فيه" - تبعاً لوجهة نظر المتحدث - فراحت تبدي من العداء للثورة الايرانية أضعاف أضعاف ما كانت أبدته من تعاطف معها قبل انتصارها.