عندما أعلن الرئيس الأميركي بيل كلينتون توقف العمليات العسكرية ضد العراق يوم السبت الأسبق، صرح رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير بأن حكومته قررت ارسال غواصة نووية إلى الخليج لمرافقة حاملة الطائرات "انفيسيبل". وأوحى بلير بهذا النبأ أن تأجيل الضربات لا يعني وقف القتال نهائياً، وأن القصف قد يستأنف بعد شهر رمضان. وأيده في هذه التوقعات وزير الدفاع جورج روبرتسون الذي أسف لأن الغارات لم تكمل الخطة المرسومة والقاضية بتدمير 250 هدفاً داخل العراق. وبما أن العمليات لم تطل أكثر من مئة هدف، فقد هدد الوزير البريطاني باستثنائف العمليات بعد 17 كانون الثاني 30 رمضان، وذلك بغرض استكمال هدم ما تبقى من مواقع عسكرية مشبوهة. وادعى روبرتسون ان تقرير ريتشارد بتلر يشير إلى وجود عدد كبير من المستشفيات والمدارس استخدمها النظام العراقي كمخابئ سرية بهدف اخفاء جزء من أسلحته المحظورة، وخصوصاً قنابل غاز الخردل. ويذكر التقرير أيضاً أن هناك أكثر من ستين موقعاً رئاسياً وعسكرياً مُنعت لجنة "أونسكوم" من دخولها، وان الدبابات الروسية الصنع من طراز ت - 72 اس لم تزل مجهولة العنوان. بعد الهدوء النسبي الذي عرفه العراق الأسبوع الماضي، ارتفعت في واشنطنولندن صيحات السياسيين والمعلقين الذين انتقدوا خلو العمليات العسكرية من أي هدف سياسي محدد. وكتب توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" يطالب كلينتون وبلير بأهمية الاعلان عن تصور الدولتين للنتائج المتوقعة من وراء الضغط على النظام العراقي. وكتب المنظّر السياسي في جامعة هارفرد البروفسور ميشال ساندال يتساءل عن الغاية الحقيقية الكامنة وراء أعمال القصف: هل تقود العمليات العسكرية إلى دفع صدام حسين للقبول بالسلام الأميركي؟ وهل لدى البيت الأبيض أي تصور لما يمكن أن يكون العراق بعد رفع العقوبات؟ وهل تبقى القوات الأميركية في الخليج كشريك وضامن للنظام السلمي الاقليمي الذي سيولد في المنطقة من رحم هذه الحرب؟ ولم تكن انتقادات المعارضة في بريطانيا أقل حدة من اعتراضات الجمهوريين في الولاياتالمتحدة الذين اتهموا كلينتون بافتعال أحداث خارجية لتغطية فضيحته الداخلية، وعزا بعضهم قرار وقف القصف إلى انتهاء مناقشات عزل الرئيس في الكونغرس، وليس إلى دوافع احترام مشاعر المسلمين في هذا الشهر الفضيل، كما ادعى كلينتون. وواضح من التعليقات التي لمح إليها الرئيس الأميركي في بعض خطبه، أنه تخوف من تنامي شهور الغضب في العالم العربي والإسلامي، ومن تزايد الاحتجاجات التي ذكرته بتظاهرات شباط فبراير الماضي. لذلك تحدث عن تمسكه بنهج الصدافة والاحترام للعالم الإسلامي، مؤكداً أنه سيواصل العمل من أجل تحقيق قيم مشتركة ومصالح مشتركة، وللتخفيف من أثر اندلاع النقمة ضد الولاياتالمتحدة - وبينها التظاهرة أمام مبنى السفارة الأميركية في دمشق - تدخل أيضاً ساندي بيرغر، مستشار الأمن القومي، ليتحدث عن سياسة بلاده المؤيدة للعراقيين بمعنى ان أهدافها متطابقة مع مصالح الغالبية الساحقة من الشعب. وقال أيضاً: "إن الملايين الستة من المسلمين الأميركيين الذين يتزايد عددهم في المساجد والمراكز الإسلامية، يعكسون بممارسات العبادة عدم وجود أي تضارب بين الإسلام وسياسة الولاياتالمتحدة". ويتوقع الديبلوماسيون في الأممالمتحدة استئناف العمليات العسكرية ضد العراق في حال عدم السماح للجنة "أونسكوم" بمواصلة عملها كالمعتاد. وبما ان هناك 150 موقعاً بينها المدارس والمستشفيات، تعتبر مشمولة بالمراقبة، فإن احتمال تدميرها يبقى أمراً وارداً إذا رفضت بغداد التعاون مع فرق التفتيش. وترى الدول المعترضة على اسلوب القصف - مثل فرنسا والصين وروسيا - ان صدام حسين لن يتنازل عن الحكم حتى لو تم تدمير المنازل والمدارس والمستشفيات. الإدارة الأميركية منقسمة حول الموضوع المتعلق بالشأن العراقي، مثلما هي منقسمة حول الأساليب التي تقود إلى تغيير النظام والقيادة. ذلك ان الفريق الذي أشرف على توجيهه روبرت بلليترو، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط سابقاً، يرى أن سياسة الانفتاح البطيء والمبرمج يمكن ان تشكل على المدى البعيد، الاختراق المطلوب لارغام صدام حسين على منع تكرار عملية الغزو. وفي تصور هذا الفريق ان زعزعة النظام قبل انشاء جبهة سياسية وطنية قادرة على ضبط وحدة البلاد وتوطيد سلامة الأراضي، ربما تقود إلى التفكك والانفصال في شمالي البلاد وجنوبها. وبما ان دول المنطقة تتكون من مجتمعات طائفية وعرقية قابلة لتحريك دعوات الانفصال على نحو مشابه، فإن المخاوف التي عبّر عنها الرئيس جورج بوش في مذكراته، كانت منصبة على منع الانتفاضتين اللتين حدثتا في الشمال والجنوب. ومعنى هذا ان الاستراتيجية الأميركية ليست مهتمة بالحفاظ على وحدة العراق، قدر اهتمامها بمنع حدوث "دومينو" من التغيير الديموغرافي والجغرافي يهدد مصالحها الحيوية في منطقة الخليج. الفريق الثاني الذي يقوده مارتن إنديك خلف بلليترو في منصب مساعد وزير الخارجية، أكد أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة للكونغرس، بأن المبالغة في الخوف من تقسيم العراق تعرقل جهود الاستقرار الاقليمي لمنطقة الخليج. وقال في دفاعه عن وجهة نظره: "اعتقد بأن الدولة العراقية والشعب العراقي يتصفان بتماسك أقوى بكثير مما يُنسب إليهما. ولقد ظهرت مخاوف كبيرة عقب تحرير الكويت من أن يؤدي التمرد الشيعي في الجنوب إلى قيام كانتون منفصل تحت وصاية إيرانية. إن وحدة العراق أمر مهم تجب المحافظة عليها، ولكن المخاوف من التفكك والتمزق والانفصال مبالغ فيها كثيراً". مارتن انديك، السفير الأميركي السابق في إسرائيل، والذي طلب نتانياهو سحبه بحجة أنه يتآمر مع "حزب العمل" للإطاحة به... هو الآن المشرف الأول على تنفيذ سياسة بلاده تجاه العراق. ولقد اجتمع بممثلي 16 تنظيماً عراقياً في لندن قبل الضربة العسكرية الأميركية - البريطانية الأخيرة. وتحدث أمامهم عن ضرورة تشجيع قيام معارضة موحدة ذات أهداف مشتركة تتمثل بإقامة عراق تعددي في مرحلة ما بعد صدام حسين. ولكنه نفى ل "الحياة" الأسبوع الماضي أن تؤدي الحملة العسكرية على الفور إلى الاطاحة به، لأن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً. وقال أيضاً إن قدرة صدام على قمع المعارضة الداخلية لا تزال هائلة، لذلك استبعد حدوث تمرد، مؤكداً ان واشنطن لا تضع في حساباتها احتمال انتشار التمرد كنتيجة للعملية العسكرية. ولقد قادت هذه الاستراتيجية الأميركية الغامضة التي يشرف مارتن انديك على تنفيذها إلى طرح سلسلة افتراضات اختلف المحللون بشأن دوافعها الحقيقية. بعضهم قال إن الرئيس كلينتون استغل توقيت العملية العسكرية لصرف اهتمام الكونغرس عن فضيحته الداخلية، وأنه سيكتفي بهذا القدر من الدمار على اعتبار ان الجمهوريين لم يصدقوا المبررات التي قدمها. والبعض الآخر فسر الضربة بأنها صفعة موجهة إلى روسياوفرنسا والصين وجميع الدول التي تحاول تزويد العراق بالسلاح، أو اجراء اتفاقات نفطية لمرحلة ما بعد العقوبات. وهدف الضربة، كما يراها رئيس وزراء روسيا بريماكوف، هي التأكيد بأن نفوذ الولاياتالمتحدة لم يعد محصوراً بالمنطقة المحيطة بحدودها، بل تعداها ليصل إلى المناطق القريبة من روسيا والصين. لهذا دعا إلى إقامة "مثلث استراتيجي" يضم الهند والصين وروسيا، وذلك بهدف موازنة ثقل النفوذ الأميركي الذي يعتبر ان العراق مثل جاراته هايتي وغراندا وبناما، وأنه يحق له تأديب صدام مثلما أدب نورييغا. فريق ثالث من المحللين يميل إلى استخراج نتيجة سياسية بعيدة كل البعد عن التوجهات العامة المرتبطة بالقرار 687... أو بمنع العراق من الحصول على أسلحة الدمار الشامل. ويرى هذا الفريق أن الشرط الأخير من الشروط الموضوعة أمام بغداد يمثل التوجه المركزي للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. ويتضمن هذا الشرط النص التالي: "سيكون من المهم أيضاً أن ينضم العراق إلى مجموعة الدول العربية المستعدة للعيش بسلام مع دولة إسرائيل، وأن يكون مستعداً للتفاوض على معاهدة سلام في النهاية". ويحتمل هذا الشرط عدة تأويلات يتعلق الشق الأول منه بإنهاء حال الاحتراب مع إسرائيل، والقبول بها بمثل ما قبلته دول مؤتمر مدريد. ولقد أجاب صدام حسين على هذا الشق بإعلانه ان الفلسطينيين أحرار في اختيار قدرهم ومستقبلهم، وأنه يوافق على ما يوافقون عليه. أما الشق الثاني المتعلق باستعداد صدام حسين للتفاوض على معاهدة سلام مع إسرائيل، فإنه يفترض الدخول في محادثات لا شأن لدول الدعم بها. ويرمي هذا الشرط إلى استدراج العراق للقبول بالمشروع القديم الذي عرضه بن غوريون على الفرنسيين والبريطانيين يوم التفاوض على ساعة الصفر لحرب السويس عام 1956. وجاء في المشروع ما خلاصته أن العراق يجب أن يلزم باستقبال مليوني لاجئ فلسطيني يصار إلى نقلهم من لبنان وسورية والأردن إلى وسط العراق. وقال بن غوريون - حسبما يروي موشيه دايان في مذكراته الصفحة 268 - لرئيس وزراء فرنسا غي موليه ان العراق قادر على استيعاب أعداد كبيرة من الفلسطينيين الذين لا يشعرون بالغربة فوق أرضه، والذين يتم اقصاؤهم عن حدود إسرائيل. ويرى مؤيدو هذه النظرية داخل الإدارة الأميركية، ان اقحام العراق في آلية العملية السلمية يشجع القوى الفلسطينية الرافضة على الموافقة، ويؤمن الاستقرار على الجبهة الأردنية التي تعتبرها إسرائيل الجسر العسكري الممتد نحو خاصرتها الهشة. وتقول المعلومات إن الرئيس صدام حسين بعث برسائل شفهية إلى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وإلى مسز ثاتشر قبل ثلاثة أشهر تقريباً من غزو الكويت. ووصف في إحدى رسائله نياته السلمية بأن سلامه سيحمل القيادة الفلسطينية وأغلب الدول العربية على تقليده. ولما حدثت عملية الغزو أدرك الرئيس بوش ومسز ثاتشر أن رسائل التطمين كانت مشروطة بغض النظر عن التهام الكويت، مقابل دخول العراق في العملية السلمية الشاملة. وبما ان النفط يأتي في المقام الأول بالنسبة لمصالح الدول الصناعية، فقد أجبر العراق على الخروج من الكويت بدون ثمن. أما الآن فإن الخيار الوحيد المطروح عبر الضربات العسكرية المتكررة والحصار الوثيق، هو دفع صدام حسين للقبول بمفاوضات السلام، وبالموافقة على الدخول في حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وترى الإدارة الأميركية ان مشكلة اللاجئين هي أعقد مشاكل المرحلة الأخيرة من المفاوضات، وان إسرائيل لا تقبل بتنامي هذه القنبلة البشرية الموقوتة حولها دون ايجاد حل نهائي لأكثر من ثلاثة ملايين نسمة. وفي هذا الإطار يمكن تفسير العقوبات التي تحاصر العراق، لعلها تدفعه تدريجياً للمساومة على بقاء النظام مقابل الدخول في سلام منطقة الشرق الأوسط... لا في سلام الخليج فقط... * كاتب وصحافي لبناني.