موقف روسيا المتشدد حيال الغارات الانغلو - اميركية على العراق اثار تساؤلات كثيرة، وقدمت تفسيرات عدة تراوح بين الحديث عن محاولة موسكو استعادة ديونها من بغداد وبين الكلام على العودة الى الحرب الباردة، والأرجح ان موقف موسكو هو محصلة عوامل مختلفة اهمها المستجدات الداخلية التي فرزها الصراع بين القوى والايديولوجيات الكثيرة، والتي لم تكتمل صياغة وهيكلة الكثير منها. فبحث روسيا عن هويتها بلغ ذروته في القرن التاسع عبر الصراع الضاري بين "السلافويين" و"الغربويين". فقد نادى التيار الأول بطريق متميز لروسيا مؤسس على تراثها الارثوذكسي، ويتسمك بأصولها السلافية وينبذ "الأفكار الدخيلة". أما الثاني فقد أكد على واحدية أوروبا، وبما ان روسيا جزء منها، فإن عليها ألا تبتكر، بل تقتبس من أوروبا الغربية تجربتها السياسية البرلمانية والاقتصادية الليبرالية. واستمر هذا الصراع عملياً حتى بعد اندلاع الثورة البلشفية حيث كان الحزب الشيوعي الحاكم يضم تيارات مختلفة يكرر بعضها الآراء "السلفية" وينتمي الآخر الى التحديثيين. وحسم يوسف ستالين الصراع بالقوة وصفى ما تبقى من "الغربويين" في قيادات الحزب، رغم انه كان جورجياً لا يمت الى السلافية بصلة، لكنه اعتمدها كمحور اساسي لبناء الدولة. وتجدد السجال بعد انطلاق بيريسترويكا والبحث عن سبل لاعادة ترتيب الاوضاع الاقتصادية والسياسية وهو عملياً بحث عن هوية جديدة للبلد. وبدا في مطلع التسعينات ان الغلبة صارت لپ"غربويين" جدد التفوا حول بوريس يلتسن ونادوا بإصلاحات راديكالية تستنسخ التجربة الاميركية تحديداً، ورفضوا أي حديث عن "خصوصية" الوضع في روسيا. والمشروع الذي طرحه الليبراليون كان هلامياً يفتقد الموضوع الا انه تركز على عنصرين: اطلاق الاسعار لكي تتولى تنظيم الحياة الاقتصادية، وبيع ممتلكات الدولة الى القطاع الخاص بوصفه اكثر كفاءة في ادارتها. ونبه العالم المعروف ديمتري لفوف، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، الى ان "الغربويين" لم يلتفتوا الى خاصية مهمة تتمثل في ان الاتحاد السوفياتي كان يطرح البضائع في الاسواق المحلية بسعر أقل من الكلفة ويغطي الفرق من تصدير حوامل الطاقة، ولذا فإن وضع القيود السعرية كان يعني سلفاً إصدار حكم بالموت على المنتج المحلي. وهذا ليس الجانب الوحيد الذي لم يلتفت اليه الاصلاحيون الراديكاليون، فعلى صعيد السيكولوجيا المجتمعية حاولوا الغاء كلمة "الوطن" واعتبروا الوطنية سبة، واستشهدوا بمقولة تولستوي الشهيرة: "الوطنية هي الملاذ الأخير للسفلة". الا انهم فصلوها عن سياقها اذ ان كاتب "الحرب والسلام" مهّد لذلك بأن الأوغاد يحاولون طرق كل الأبواب للوصول الى غاياتهم وإذا اعيتهم السبل فإنهم يتبرقعون بستار الوطنية، ولكنه لم ينكر الانتماء الى الوطن بحد ذاته. والكوسموبوليتية الجديدة التي طرحها الاصلاحيون الروس لم تكن انتماء الى وطن عالمي، بل انها غدت استمراراً للواحدية الاميركية وتكراراً محوراً للشعار "أميركا فوق الجميع". وفي هذا السياق رفض الراديكاليون اليمينيون الالتفات الى واقع ان المجتمع الروسي المتربي على روح المشاعة ترسخت لديه، ولو بالقسر، التقاليد التكاملية عبر سبعين عاماً، وهذه العقود كانت مرحلة احتضار وموت المبادرة التي لا يمكن للسوق المتحضرة ان تقوم من دونها. واذا افترضنا حسن النية، فإن اليمين الراديكالي أراد بلوغ الرأسمالية دون المرور بآلام مخاضها، وحاول ان يقفز عبر الهاوية دون استجماع للقوى... فسقط. وعلى الجانب الآخر من المتاريس وقف "السلافويون" الجدد بمختلف تياراتهم ابتداء من الشيوعيين المتمسكين بالحرف الماركسي وانتهاء بحزب "الوحدة القومية الروسية" الذي اقتبس الكثير من التجربتين النازية والفاشية. وغدا الكثيرون من هؤلاء "رافضين"، بمعنى إنكار أي ميزة للتجربة الغربية واعتناق نظرية المؤامرة والتشبث بذهنية التحريم التي ترى في كل ظاهرة غير روسية خطراً يهدد وجود الدولة والأمة. ورغم ان الكوارث التي ترتبت على الاصلاحات منحت خصومها ورقة رابحة فإن "السلافويين" لم يفلحوا في صوغ برنامج واضح المعالم بل أخذوا يتخبطون بين الماركسية الاممية الطابع والغلو القومي الروسي. وقاد زعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف تياراً حاول الاتجاه نحو الاشتراكية الديموقراطية في صورتها السويدية الا أنه أخذ يتراجع تحت ضغط المتشددين الذين ارتعبوا من احتمال الخروج من الشرنقة. وبهذا المعنى فإن "اليسار" في روسيا ليس اليسار المعروف في العالم، بل انه في الغالب ذو طابع سلفي يتمسك بالتقاليد، ومحافظ بالمعنى الأشمل للكلمة، وبالتالي فهو أقرب الى اليمين الأوروبي. والعكس صحيح، فإن الاصلاحيين الراديكاليين "يساريون" في محاولتهم هز الركائز والازدراء بالتقاليد ورفضها. وقد يبدو تعيين يفغيني بريماكوف رئيساً للحكومة افرازاً لصراع سياسي صرف ومخرجاً موقتاً من الورطة، وهذا صحيح في بعض جوانبه، ولكن العمق الأبعد لتكليف بريماكوف يتمثل في انه تجسيد لتيار ثالث يحاول الجمع بين السلافويين والغربويين، والإفادة من الخبرة العالمية دون اسقاطها في صورة الية على الواقع الروسي، اي انه يمثل صيغة جديدة لتيار ثالث عرف في روسيا باسم "الاورآسيوية" كحل وسط بين الانكفاء على التربة المحلية الى حد الانعزال، والانفتاح على التجربة الغربية الى حدود الانصهار والضياع. ويحاول ان يحرث الحقل ذاته محافظ موسكو يوري لوجكوف الذي دعا الى ان تحيا روسيا وفق معادلة: "العمل على الطريقة الرأسمالية والتوزيع بموجب الاشتراكية"، وجعل من الدعوة الى استعادة القرم والتكامل مع الجمهوريات السوفياتية السابقة شعاراً أساسياً، الى جانب مد الجسور مع الغرب. وشكل لوجكوف كتلة "الوطن" التي يتوقع المراقبون ان تتمكن من منافسة اليسار في البرلمان وخوض الانتخابات الرئاسية القادمة بحظوظ قوية، الا انها قد تفقد كيانها التنظيمي حال تحقيق أهدافها التكتيكية اذ انها "صنعت" ولم تكن نتاج نمو طبيعي أو حاجة اجتماعية. وعلى الضد من لوجكوف فإن رئيس الحكومة لم يشكل تنظيماً سياسياً وهو ينكر باستمرار نيته الترشيح للرئاسة القادمة، الا ان بريماكوف - الرمز سيصبح بالتأكيد "مطلوباً" في حال نجاح حكومته في وقف الانحدار نحو الهاوية، وترسيخ الوفاق في المجتمع. وذلك، ان حصل، سيغدو تعزيزاً للتيار الثالث، الأورآسيوي، الذي سيجعل بندول الحركة الاجتماعية في روسيا يستقر عند الوسط بدلاً من التأرجح يميناً وشمالاً. وعلى الصعيد السياسي ستمثل كتلتا بريماكوف ولوجكوف يسار الوسط ويمين الوسط على التوالي، وقد تستقطب الأولى شرائح من اليسار والقوميين المعتدلين، وتجذب الثانية فئات من الذين خيب "الاصلاحيون" آمالهم. لكن التحالفات السياسية لا تلغي الخلافات الايديولوجية، ولذا فالأرجح ان يشن الراديكاليون، من اليمين واليسار، هجوماً مضاداً لوقف الحركة نحو المركز، بل ان انهم قد يشكلون محاور تكتيكية ضده أو يمكن ان يقوموا بتحركات تقوض مواقع الوسط وايديولوجيته. وبدأ اليمين هجومه فعلاً بتشكيل كتلة جديدة قادها يغور غايدار واناتولي تشوبايس وغيرهما من زعماء الحكومات "الاصلاحية" السابقة. إلا ان الانتخابات الاقليمية في سانت بطرسبورغ التي كان لليمين مواقع قوية فيها أثبتت ان الكتلة الجديدة لا آفاق لها وان حصولها على نسبة 1 - 2 في المئة هو أقصى الأماني. ومن جهة أخرى بينت استطلاعات الرأي تضاؤلاً في شعبية الشيوعيين التي انحسرت من 22 - 24 الى 16 - 17 في المئة. وبديهي ان يُرحّل التأييد، وبالتالي الأصوات، الى الوسط، واستمرار هذه التوجهات سيؤدي في خاتمة المطاف الى تحجيم الجناحين الراديكاليين وقيام مجموعتين تمثلان التيار المركزي "السلافو- غربوي". وفي هذا السياق يمكن قراءة الموقف الروسي من أحداث العراق، إذ ان رد الفعل العنيف كان تعبيراً عن مرارة متراكمة، لدى النخب والعامة، من ضياع مواقع الدولة العظمى، وقد اعتبر السلوك الاميركي إهانة مباشرة لروسيا وتكريساً لواقع انكماش حجمها في السياسة الدولية. ووضعت الولاياتالمتحدة ورقة قوية في يد القوى "السلافوية" المتشددة، وحفزت المعتدلين والمترددين لحسم موقفهم النابذ لپ"غربوية" لم يكن حصادها خلال هذه السنوات سوى حنظل